الشكر في البداية للمواطن
المصري الشريف أ.م.ا.مرزوق الذي تقدم ببلاغٍ ضدي، والرائد الذي أَيَّدَ بلاغَه، فأتاحا لي أن أتدثر بهذا الكم من الدعم والتعاطف من الأصدقاء والأحباب.. الذين أَجد من حقهم عليَّ توضيح ما حدث.
وصلني استدعاءٌ من النيابة المصرية مع مندوبٍ للحضور للتحقيق في القضية رقم 2998 لسنة 2018 دون إشارةٍ إلى ماهيتها.. بعد استشارة الصديقين المحاميين الكبيرين عصام الإسلامبولي ونجاد البرعي، توجهتُ للنيابة في الموعد المحدد صباح 11 تشرين الثاني/ نوفمبر، برفقة الأساتذة نجاد البرعي وعبد الرحمن (من مكتبه) وأشرف (من مكتب أ. عصام).. ولَم أشأ أن أُزعج أحداً من باقي الأصدقاء لضيق المكان من ناحيةٍ، ولأنني لا أعرف ما هي القضية من ناحيةٍ أخرى.
تم القبض عليَّ وبدأ التحقيق.. علمتُ أن هناك بلاغاً من المواطن مرزوق 55 سنة حاصل على ليسانس الحقوق.. طالعتُ أقواله فوجدتها تدور حول ما أصابه من غَمٍّ واستفزازٍ من قراءة مقالي على فيسبوك.. والذي استنتج منه أنني قصدت إهانة رئيسه المحبوب وتكدير السلم العام وإشاعة أخبارٍ كاذبة (هكذا!).. ثم جاءت تحريات الأمن مطابقةً ومؤيدةً لهذا المواطن الشريف، ومُضيفةً بعض البهارات، كالتحريض على الفوضى وإسقاط الدولة.. إلى آخر هذه العبارات المحفوظة.. مع إرفاق عدة مقالاتٍ أخرى.
"اعترفتُ" دون ترددٍ بصحة "الاتهام" بأنني كاتب هذه المقالات التي أتشرف بها.. ولكنني نفيت باقي الاتهامات.. فأنا لم أقصد في حياتى إهانة أي إنسانٍ، وإنما أنا أمارس حقى الدستورى والإنساني في انتقاد أي موظفٍ عام طالما رأيت في تصرفاته انحرافاً عن الصواب.. سواء كان رئيساً أو ما دون ذلك.. وبالطبع فإننى لا يمكن أن أهدف إلى تكدير السلم العام وهدم الدولة.. ولا أعتقد أن أحداً يمكنه أن يزايد عليَّ في ذلك (وإن كان كل شيء جائزاً هذه الأيام).. أما بخصوص اعتبار القول بمصرية تيران وصنافير إشاعةً لأخبارٍ كاذبة، فقد أكَّدتُ تَمَّسُكِي بما قلتُه وأن من يقول بغير ذلك هو الأحق بالمحاسبة.. وسيحاسب ذات يومٍ بإذن الله.
أصل المشكلة ليست في مثل هذه البلاغات ومَن وراءَها.. وإنما في أنهم ينطلقون من أرضيةٍ مغايرةٍ تماماً.. نحن ننتمي إلى تيارٍ مدني ديمقراطي يُؤْمِن بدولة المواطنة التي لا تَمَايُز فيها بين المواطنين لا على أساس الدين ولا الجنس ولا الفئة ولا الطبقة.. ومن ثَمَّ ولا على المنصب.. أي أن كل مسؤولٍ تنفيذى، بدءاً من الرئيس فما دونه، هو مجرد موظفٍ أجيرٍ لدى الشعب ويتقاضى راتبه منه.. وبالتالي فإن من حقي بل من واجبي أن أنتقده إذا رأيتُ أنه انحرف عن جادة الصواب.. على الجانب الآخر، هناك ثقافةٌ متجذرة لدى قطاعٍ من المواطنين والأجهزة والمؤسسات ترفع الحاكم إلى مقامٍ من التقديس الذي يعلو على النقد.. وتعتبر أي ممارسةٍ لحق الانتقاد إهانةً وإساءةَ أدبٍ تستوجب العقاب.
استمر التحقيق حوالي سبع ساعاتٍ لتفسير المقصود من كل مقالٍ على حِدَة.. ثم كان قرار النيابة هو إخلاء السبيل من قسم الشرطة بكفالةٍ عشرة آلاف جنيه.. وبقيتُ في القسم ثلاث ساعاتٍ أخرى بعد سداد الكفالة، إلى أن عُدتُ إلى منزلي قرب منتصف الليل.
سألني بعض المحبين إن كنتُ سأتوقف عن الكتابة أو سأُهدئ من نبرتي (الهادئة فعلاً).. وأسألهم من ناحيتي: أتوقف عن ماذا؟!.. أنا ممنوعٌ من الكتابة أصلاً في كل صحافة الصوت الواحد.. ممنوعٌ لشخصى حتى لو كان ما أكتبه موضوعاً ثقافياً أو تاريخياً.. أنا لستُ كاتباً محترفاً حتى أتوقف عن الكتابة.. وإنما مجرد مواطنٍ يفضفض بكلماتٍ يبدو أنها تَلْقى قبولاً لدى كثيرٍ من الأشخاص والمواقع (المحجوبة أو المُضَيَّق عليها) فيقومون بإعادة نشرها.. هي زفراتٌ أتنفسها.. فهل صار التنفس ممنوعاً؟!
على المستوى الشخصى، أَعِي أن قضيتي بدأت قبل القضية 2998 بسنواتٍ ولن تنتهي بالكفالة.. وأَعِي أنها تفصيلةٌ بسيطةٌ في القضية الأكبر التي تدور رحاها في مصر منذ قرابة قرنين من الزمان.. ودَفَع (ولا يزال) كفالاتها مصريون عظماء من أرزاقهم وحرياتهم.. ودَفَعتْ (ولا تزال) مصرُ كفالاتها سنواتٍ غاليةً في سباقها للحاق بالتاريخ الذي تجاوزنا.
القضية الأكبر هي تلك المعركة المستمرة منذ قرنين لتأكيد إحدى البديهيات، وهي الحق في انتقاد الحاكم (تخيلوا!).. وهي معركةٌ مستمرةٌ سبقتنا إليها أسماءٌ كثيرةٌ وستلحق بها أسماءٌ أخرى.. وكلهم ساداتنا.. دفعوا وسيدفعون أثماناً.. فقيمة أي موقفٍ أن تدفع ثمنه.. ونتشرف بأن نلتحق بهم جنوداً في هذه المعركة.. ولَنَصبرَّن على ما آذيتمونا.. إلى أن نَلقى اللهَ.. أو تصبح مصر دولةً طبيعيةً كباقي خَلْق الله.. الحاكم فيها بَشَرٌ يُنقَدُ.. وليس إلَهاً يُعبَد.