قد يبدو العنوان عاما، لكني أقصد حصاد العام في
مصر.. وقد يبدو العنوان أيضا سوداويا بالنسبة للبعض، وقد يكون غير دقيق عند آخرين، حيث يرون الأوضاع أفظع من تلك الأمراض التي خيمت على المشهد العام في مصر، لكن في النهاية، بما أنه مقال رأي، فاسمحوا لي أن أسترد حقي المغتصب كمصري في إبداء رأيي في السطور الأتية.
مرض البارانويا هو عبارة عن جملة من الأمراض النفسية العصبية، ويطلق عليه في كثير من الأحيان تسمية جنون العظمة. ويظهر المرض على شكل أفكار يعتنقها المريض نتيجة تعرضه للاضطهاد في كثير من الأحيان، حيث يفسر سلوك الآخرين تفسيرا يتسق مع اعتقاداته. ومن أعراضه، الخوف من حصول شيء ما سيئ للغاية، والظن بأن المسؤولية تجاه أمر معين تقع على الآخرين، والاعتقاد المبالغ فيه غير المبني على الأسس الواقعية والمنطقية.
وبما أن الناس على دين ملوكهم، فإن النظام كله أصابه ما أصاب رئيسه.. فذلك الضابط الصغير الذي سبه قائده، باعترافه شخصيا، حين سأله وهو يفتش مكتبه "مين الظابط النتن اللي حط الدبوس في الأستيكة"؛ إنما هو تفسير لحالة الاضطهاد التي يعيشها رأس النظام منذ الصغر، ومحاولة من الرجل أن يكون عميقا وطبيبا للفلاسفة؛ فنظر نظرة في النجوم، ورأى أن المسلمين بأفكارهم هم سبب شقاء البشرية، ويريد أن يغير تلك الأفكار حتى تنعم البشرية بالسلام. وفي هذا الصدد، بات يرى أن كل صيحة عليه، وكل معارض إخوان، حتى أنه منع بيع السترات الصفراء خوفا من ثورة قد تذهب به إلى حبل المشنقة. ومن ثم، فإنه يرى فشله وحكومته راجع إلى الشعب، لا إلى إدارة الدولة، حتى بدأ يتكلم عن سمنة الشعب وأنها عائق للتنمية!
فحديثه الأخير عن "الكرش" يؤكد أعراض المرض، كما ذكرنا (الظن بأن المسؤولية تجاه أمر معين تقع على الآخرين). وعليه، فإن قمع الشعب بأكمله بصور مختلفة ضرورة لا فكاك منها. وقد أصاب وزير دفاع النظام ما أصاب رئيسها، ففي خطابه الافتتاحي أمام شركات من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا ودول أخرى، قال محمد زكي إن الدفاع هو دعامة سلام، مؤكدا أن الإعدامات والمحاكمات للمعارضين في مصر إنما تهدف إلى استتباب الأمن في العالم!
هذا الحديث يؤكد أن مصر أبعد ما تكون عن المنطق، ودخلت في غياهب اللامعقول، ولن تعود إلا بمعجزة، فالبلاد انحدرت إلى جنون الارتياب والقمع والعنف الجامح منذ انقلاب 2013.
صعوبة في التواصل مع الآخرين والانخراط مع المجموعة، أخذ الكلام وتفسيره بشكل حرفي وعدم القدرة على فهم مغزى الحديث، والصلابة وعدم التفاعل مع العواطف، وعدم النضج الكافي لفهم الأمور، والخوف من مقابلة الأشخاص الجدد، والشعور بالاكتئاب والقلق والتوتر الدائم، والانعزال وتفضيل البقاء وحيداً، وأخيرا خلل في أداء بعض المهمات وخاصة تلك التي تتطلب عملاً دقيقاً.. هذه الأعراض وغيرها صنفها الطب النفسي بأنها مرض التوحد عند الكبار، وهو ما أراه شاخصا في
المعارضة المصرية بكل أطيافها..
خمس سنوات والضجيج لا ينقطع عن توحد المعارضة، ولا نرى طحينا.. أكثر من خمسة آلاف شهيد منذ الانقلاب، وستون ألف معتقل وأكثر من ألفي مخفي قسرا، واتفاقيات دولية ترتب التزامات تثقل كاهل الشعب المصري المقهور منذ 66 عاما، منذ أن جثم على صدرها العسكر، ولا حراك للمعارضة التي تعاني صعوبة في التواصل والانخراط في مجموعة، وتفشل في أي تجمع لحساسيتها المفرطة وصلابة موقفها بصورة تؤكد عدم نضجها وقدرتها على فهم الأمور، ما جعلها منعزلة، وتفضل استخدام تويتر على التوحد بجماعة المعارضة، وهو ما يعكس في النهاية ذلك الخلل الذي يصيب أي مهمة، خاصة تلك التي تتطلب عملاً دقيقاً. فالمعارضة المصرية تحتاج هي الأخرى، كمصر، إلى معجزة إلى جمع شتاتها وتحريرها من أعراض مرض التوحد.
أما الشعب المصري، بكافة طوائفه ومشاربه، مؤيدا كان أو معارضا، بات مكتئبا إثر خيبة الأمل في من وعده بأن يحنو عليه، فما وجد منه إلا ارتفاعا في الأسعار، ورفعا للدعم، ووعودا كاذبة بوظائف ورخاء لم ترها إلا جماعته، من جيش وشرطة وقضاة وبعض الإعلاميين. كما أن خيبة الأمل في المعارضة أصابت المصريين بمزيد من الاكتئاب، فلا هم حرروهم - كما وعدوا - من نير الاحتلال العسكري الذي داس على أعناقهم بالبيادة ولا هم ارتضوا بحكمه فيرضخ الشعب. لكن ما فعلت المعارضة من بث أمل كاذب؛ أصاب الشعب بمزيد من الاكتئاب، ظهرت أعراضه جليا في وجوه وتصرفات المواطن المصري، فتراه في الشارع حزينا مهموما؛ لم يعد ما كان يفرحه يؤثر فيه، ويبدو المستقبل في عينه قاتماً وتافهاً، وهو ما يدفع جل شباب الوطن للسعي للسفر للهروب من الواقع، وعندما لا يتحقق السفر، يهرب بالمخدرات من واقع لا يرغب العيش فيه.
بما أن النبي قال: "لكل داء دواء"، فالدواء بيد هذا الشعب، والظروف مهيئة للعلاج. فالشعوب الحرة انتفضت في الجوار وفي أوروبا المرفهة، فلمَ لا ننتفض؟ فكما قال الكاتب: "ثوروا تصحوا".