أصبح وصف الربيع العربي بكونه شتاء قارسا ووصفه بـ"الكارثة" التي حلت بالأمة العربية؛ حديثا مشاعا في معظم المناسبات والندوات التي تقام هنا وهناك. والغريب أن بعض المثقفين، وحتى نشطاء المجتمع المدني والديمقراطيين، قد تورطوا في هذا المنزلق الخطير. وقد أصبح من الضروري التصدي لمثل هذه الاتهامات الظالمة وغير البريئة التي تستغلها بعض الأنظمة لتحريم الثورة مطلقا وإلغائها من قاموس اللغة العربية، وتجريم من يفكر في اللجوء إليها.
يفترض في منطق الأشياء أن نتساءل أولا: لماذا لجأت الشعوب إلى النزول في الشوارع ورفعت الشعار الذي أرعب الحكام "الشعب يريد إسقاط النظام"؟ إذ من المتعارف عليه أن عموم الشعوب العربية وفية لحكامها، وقد تحول هذا الولاء والوفاء إلى جزء لا يتجزأ من ثقافة الناس ومن سلوكهم اليومي. قد لا يكون هذا الولاء ليس الدافع له هو الحب للحاكم والرضى بحكمه والاقتناع بكل سياساته، وإنما هو نتيجة الخوف منه ومن قمعه. لكن في لحظة من لحظات اليأس والغضب والإحباط، ينقلب السحر على الساحر، فيتغير فجأة السلوك الجماعي، ويستوي الحال عند الناس، فتفقد بذلك سياسة البطش وعناها، ويندفع الناس في الشوارع؛ لا يبغون سوى الدفاع عن وجودهم الجماعي، والمطالبة بتغيير النظام؛ كلفهم ذلك ما كلفهم، عندها تدق ساعة الثورة، وتبدأ عجلة التغيير في الدوران. وكلما زادت حدة القمع، تضاعفت معها الرغبة في التحدي والإصرار على المطالبة إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
لماذا لجأت الشعوب إلى النزول في الشوارع ورفعت الشعار الذي أرعب الحكام "الشعب يريد إسقاط النظام"؟
في تلك اللحظة التاريخية، لا يمكن التساؤل عن البديل أو عما ستؤول إليه أوضاع ذلك البلد؛ لأن وعي الجماهير ستتحكم فيه ديناميكية الأحداث التي ستتوالى بشكل قد يكون أحيانا غير عقلاني. ففي الحالة
التونسية، لم يكن ابن سيدي بوزيد ثوريا ولا ناشطا سياسيا، ولم يقرر الانتحار بهدوء وبرغبة منه.. حصل الاحتراق فجأة في حالة غضب، ومن تلك الحادثة المعزولة انطلق المسار دون تخطيط مسبق من الجميع، ودون قيادة محددة ومدركة لطبيعة الخطوات الموالية.
عادة ما تحرص الدول على تحقيق الاستقرار الذي يضمن لها الأمن والسلام والتنمية، لكن يوجد اختلاف جوهري حول أساليب تحقيق هذا الهدف الحيوي. فمعظم الأنظمة اعتقدت (خاصة في المراحل السابقة) بأن اعتماد القمع، واحتكار القرار السياسي والتحكم في أجهزة الدولة والمجتمع، هو الكفيل بضمان الاستقرار، حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بحريات الأفراد وحقوقهم. وفعلا، تمكنت هذه الأنظمة من تأمين حالة من الاستقرار المفروض من فوق، لكن الكلفة الإنسانية والسياسية، وحتى الاقتصادية والاجتماعية، أحيانا كانت مرتفعة جدا، إلى جانب أن هذه السياسة لم تستمر طويلا، حيث أدت في كثير من الدول إلى المقاومة المدنية أو الثورة أو الحرب الأهلية، وهو ما قوّض السلم الأهلي وأنهى حالات الاستقرار.
اما الاختيار الثاني لتحقيق الاستقرار فيتمثل في خوض تجربة المصالحة بين الأطراف الفاعلة في المجتمع وتجنب إقصاء أي كان من العيش المشترك. وهذه السياسة ليست سهلة، وتحتاج إلى صبر وحسن إدارة الاختلاف بين مختلف الفاعلين، لكنها أقدر على إنشاء الاستقرار السياسي بدون عنف.
ثانيا: تجدر الإشارة إلى أن صيغة المصالحات الوطنية تعتبر أكثر شمولا وأوسع مفهوما من العدالة الانتقالية؛ التي يمكن اعتبارها أحد الآليات الأساسية المساعدة على تحقيق المصالحة وإدامتها. فالعدالة الانتقالية قادرة (اذا نفذت بوعي واقتناع جماعي) أن تحرر الحاضر والمستقبل من أحقاد الماضي البغيض، وهو ما يعيد تأسيس العلاقات بين الدولة والمواطنين، وتفتح المجال لإعادة صياغة المناخ بين الأفراد والجماعات والإثنيات والطوائف.
ثالثا: المصالحة أو العدالة الانتقالية هما جزء من مسار سياسي وطني. وككل مسار من هذا القبيل، يحتاج إلى توفر إرادة سياسية من قبل الجميع، وخاصة ممن يمثل الدولة؛ لأن ذلك شرط ضروري لبناء مناخ سليم لإدارة الحوار وبناء التوافقات.. لا يمكن تحقيق المصالحة بدون بناء الثقة بين الأطراف الفاعلة والمؤثرة.
العدالة الانتقالية قادرة (اذا نفذت بوعي واقتناع جماعي) أن تحرر الحاضر والمستقبل من أحقاد الماضي البغيض، وهو ما يعيد تأسيس العلاقات بين الدولة والمواطنين، وتفتح المجال لإعادة صياغة المناخ بين الأفراد والجماعات والإثنيات والطوائف
رابعا: يلاحظ أن معظم الأنظمة العربية أصبحت معنية بمسألة المصالحة، وحتى بالعدالة الانتقالية، وهي تعلن عن ذلك وتتبناه رسميا، ويتحدث ممثلوها عن تجارب محلية للمصالحة، وقد تراها "ناجحة ونموذجية". وهذا أمر هام لما فيه اعتراف من وجود أزمات محلية بعد أن كان الموقف الرسمي للدول هو الإنكار والتقليل من اهمية المشكلات القائمة. لكن ما يجب التحذير منه في السياق الراهن؛ هو ألا يعكس ذلك لجوء البعض إلى المناورة وربح الوقت من أجل تعويم الخلافات وتورية
الصراعات الداخلية. فمثل هذه المواقف المراوغة لن تساعد على مواجهة القضايا بشكل مباشر، وبالجدية المطلوبة وبالإرادة السياسية المنشودة.
خامسا: تكتسب الملاحظة السابقة أهميتها، خاصة وأن المنطقة العربية تتهيأ لمرحلة الإقدام على سلسلة من المصالحات قبل الشروع في تنفيذ سياسة إعادة الإعمار بالدول التي خربتها الحروب والنزاعات المسلحة. وحتى تكون هذه المصالحات عميقة وجدية، وليست مجرد مناورات وخاضعة لحسابات مؤقتة، يجب القيام بتقييم جدي للأسباب العميقة التي أدت إلى الأزمات السابقة. فالمصالحة أو العدالة الانتقالية تسبق الثورات والحروب الاهلية أحيانا حتى تحول دون انفجارها، وبالتالي يمكن اعتبارها آلية استباقية من آليات حماية الدول والأنظمة. وهنا تبرز قدرات المسؤول السياسي على استشراف المستقبل، وقطع الطريق أمام احتمال حدوث الأسوأ. وفي هذا السياق تتنزل أهمية ما أقدم عليه الملك محمد السادس عندما فتح المجال أمام تجربة العدالة الانتقالية، وهو ما مكن من تجاوز مرحلة الرصاص بشكل سلمي وهادئ، وبمشاركة الضحايا.
سادسا: ترتبط المصالحات والعدالة الانتقالية بالديمقراطية كنمط للحكم. ومن يتحدث عن هذا الاختيار دون التفكير في مراجعة أسلوب إدارة السلطة، سيكون حديثه بعيدا عن الرغبة في معالجة الأسباب العميقة للأزمات الضخمة التي لا تزال تمر بها المنطقة العربية، وبالتالي يكون هذا المسعى بمثابة من يحاول إيقاف تدفق الماء الضائع دون معالجة مصدر العطب الرئيسي. فالعدالة الانتقالية أو تحقيق المصالحة لا تعني توبة المعارضين وعودتهم إلى بيت الطاعة، وإنما هي آلية من أجل احترام الحقوق والتمتع بالحريات الأساسية.
لا يوجد نموذج واحد للمصالحة أو للعدالة الانتقالية. ويعود ذلك إلى أهمية الظروف والسياقات المحلية في صياغة التجربة من حيث آلياتها وأدواتها. لكن مع أهمية ذلك، يجب أن تتقيد الخصوصيات بأهداف المصالحة
سابعا: يتبين من خلال التجارب التي تم عرضها أنه لا يوجد نموذج واحد للمصالحة أو للعدالة الانتقالية. ويعود ذلك إلى أهمية الظروف والسياقات المحلية في صياغة التجربة من حيث آلياتها وأدواتها. لكن مع أهمية ذلك، يجب أن تتقيد الخصوصيات بأهداف المصالحة، وبما يعتبر ثوابت العدالة الانتقالية؛ لأن تحويل الخصوصية إلى مبرر من أجل تغييب الحقيقة أو إسقاط مبدأ المحاسبة أو العفو وجبر الضرر، تصبح عندها التجربة فاقدة للمعنى، وبعيدة كل البعد عن تحقيق الرسالة المطلوبة.
في ندوة عقدت قبل أيام في المغرب، عرّج البعض في مداخلاتهم على ما عرف بـ"
الربيع العربي"، وقام بإدانته بعنف، ووصفه بأوصاف بشعة أصبحت متداولة في عديد الأوساط العربية. وهو حكم متسرع، وفيه قدر واسع من الظلم؛ لأن الصراعات التي انفجرت، والنزاعات المسلحة التي نشأت في أكثر من بلد، ومحاولات اختطاف العديد من الثورات من قبل جماعات العنف السلفي أو أطراف خارجية، لا يمكن أن يكون المسؤول عنها أولئك الذين طالبوا بالحريات وتأمين حقوقهم المسلوبة، وإنما هناك أكثر من طرف من قرر، وفق أجندات متباينة، بهدف إجهاض المسار الذي أطلقته
الثورة التونسية، ومن أجل فرملة التحولات التي كان من المتوقع حصولها. لا يعني ذلك تبرير الأخطاء التي وقعت فيها الكثير من هذه التجارب، بما في ذلك التجربة التونسية، وإنما يُخشى أن يؤدي الهجوم على هذه الثورات أو الانتفاضات إلى أن يتم استغلال ذلك من قبل قوى محلية أو خارجية من أجل إعادة المنطقة إلى مرحلة الاستبداد بكل بشاعتها، خاصة وأن الحركات الاحتجاجية في المنطقة العربية لم تتوقف نهائيا، وبعضها يمكن أن ينفجر في كل وقت وفي أي بلد. و
ما يحدث في السودان دليل على ذلك، فالثورات قد تنفجر دون تخطيط مسبق.