هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تعيش الجزائر اليوم حالة من الحراك الشعبي لم تشهدها في تاريخها الحديث، فالاحتجاجات الشعبية اليوم تختلف كثيرا عن بقية الاحتجاجات التي عرفتها البلاد في أواخر الثمانينات وبداية التسعينيات.
السياق اليوم مختلف تماما عن السياقات السابقة كلها لأنه يندرج في إطار نسق عربي وإقليمي شديد التعقيد لكنه يحمل نفس المطالب والشعارات التي تطالب بالتغيير والقطع مع الموروث الاستبدادي. لا يمكن إذن فصل ما يجري في الجزائر اليوم عن كامل المشهد العربي مشرقا ومغربا، بل يعتبر امتدادا طبيعيا له لكنه يسمح بناء على المسافة الزمنية التي تفصله عن التجارب الثورية السابقة بقراءة مآلاته الممكنة والمخارج التي يمكن أن تعرفها أزمة الحكم في الجزائر.
المخارج الممكنة
بناء على تجارب ثورات الربيع التي انتهت جميعها تقريبا باستثناء التجربة التونسية في أتون الفوضى والاقتتال الداخلي والقمع العسكري والانقلابات الدموية، يمكن تحديد السيناريوهات الممكنة للتجربة الجزائرية. فلا يختلف إثنان في الأهمية الاستراتيجية لدولة كالجزائر سواء بموقعها الجغرافي أو بطبيعتها الديمغرافية أو بمجموع العلاقات والتشابكات التي تقوم عليها في منطقة المغرب الكبير. هذا الوضع هو الذي يمنح الجزائر قيمة لا تختلف عن قيمة مصر أو السعودية في المشرق باعتبارها مفتاحا إقليميا لملفات كثيرة. بناء على ذلك فإن ما سيحدث في الجزائر سلبا أو إيجابا لن تقتصر استتباعاته على نطاقه الإقليمي بل ستتجاوزه إلى كامل المنطقة التي ينتمي إليها بما في ذلك جنوب القارة الأوروبية.
تبقى إمكانية تجاوز مطبات الفوضى والتناحر ممكنة في الجزائر التي يمكن أن تستفيد من التجربة التونسية خاصة في التوافق السياسي
إقرأ أيضا: 4 سيناريوهات تحدد مصير بوتفليقة.. ما موقف الجيش؟
يمثل ردّ الفعل الأمني والعسكري على حراك الجزائر أقوى الاحتمالات وأخطرها على الإطلاق لأنه سيشعل كامل الساحل الجنوبي لأوروبا بشكل يصعب احتواؤه. إذ ستمتد تداعياته إلى الجوار التونسي والليبي والمغربي بطريقة ستجعل من العسير على الأنظمة الإقليمية تبيّن مداه ونهايته خاصة في منطقة هشة أمنيا ومفتوحة نحو الصحراء جنوبا ونحو الساحل الإفريقي غربا. كما أن هذا الخيار المرعب سينسف ما تبقى من إيمان شعوب المنطقة بإمكانية الانتقال السلمي نحو مجتمعات أكثر عدالة وأقل استبدادا بشكل سيقوي من نفوذ الجماعات المتطرفة والحركات الجهادية التي ضعفت في السنوات الأخيرة ولم تعد تتمتع في الشارع المغاربي بشعبية تذكر.
تغيير جلد النظام
يمثل هذا المخرج حلا متوقعا لأنه سيحقق هدفين أساسيين: أما الأول فيتمثل في تلبية مطالب المتظاهرين بإيقاف مسار العهدة الخامسة للرئيس الحالي ويتجلى الثاني في المحافظة على الدولة العميقة التي هي الحاكم الفعلي للجزائر متمثلة في المؤسسة العسكرية والأمنية أساسا. لكن يبدو أن مطالب الجماهير في الجزائر لا تقتصر على رفض العهدة الخامسة بل تطالب بإسقاط النظام كاملا وبتغيير جذري لمنظومة الفساد التي تحكم البلاد منذ مطلع الستينات وهو أمر يضعف من قدرة هذا المخرج على امتصاص غضب الجماهير والعودة بالبلاد إلى المرحلة السابقة على اندلاع الحراك الشعبي.
يمثل ردّ الفعل الأمني والعسكري على حراك الجزائر أقوى الاحتمالات وأخطرها على الإطلاق لأنه سيشعل كامل الساحل الجنوبي لأوروبا بشكل يصعب احتواؤه.
من جهة أخرى يبدو أن الطريق المسدود الذي وصلت إليه أزمة التداول على السلطة إنما سببه الأساسي هو عجز الدولة العميقة عن الوصول إلى مرشح توافقي من داخل منظومة الحكم. هذا الأمر يُضعف من احتمال قدرة النظام على تغيير جلده دون سقوط البلاد في أزمة خطيرة قد تؤدي إلى تناحر أطراف الحكم وتقاتلها فيما بينها من أجل دفع هذا المرشح دون ذاك. لكن الاحتمال يبقى قائما إذا أخذنا بعين الاعتبار دور الأطراف الدولية والخارجية في إدارة الأزمة الجزائرية والتي يمكن لها ان تلعب دورا هاما في فرض مرشح دون آخر وحسم صراع الأجنحة في الإقليم المضطرب.
المخرج السلمي
يبقى هذا المخرج أصعب المخارج الممكنة بسبب طبيعة النظام نفسه الذي لن يفرط بسهولة في المكاسب التاريخية التي راكمها منذ عقود. لكن الضغط الشعبي الكبير الذي رأيناه في الأيام الأخيرة يبقى قادرا على فرض المخرج السلمي ما لم تتدخل أطراف خارجية لتفرض أجندتها على الجزائر كما فعلت في مصر وسوريا وليبيا مثلا.
يبقى هذا الحل مرهونا بقدرة النخب الجزائرية على تجاوز أحقادها التاريخية واختلافاتها الأيديولوجية وارتباطها بالنظام وبالقوى الخارجية المعادية لرغبة الجزائر في التحرر والانعتاق من مخلفات الاستعمار ومن رجاله. لقد راكمت النخب الجزائرية تاريخا معقدا من الصراعات ومن التناحر الذي لعبت الدولة العميقة دورا بارزا في تأجيجه من أجل الاستفراد بالسلطة ومن أجل تهميش كل دور للقوى الوطنية في صياغة مصير البلاد.
الطريق المسدود الذي وصلت إليه أزمة التداول على السلطة إنما سببه الأساسي هو عجز الدولة العميقة عن الوصول إلى مرشح توافقي من داخل منظومة الحكم