خرج أحمد عرابي نهايات القرن التاسع عشر ليقف متحديا الخديوي توفيق، معلنا كلمته الشهيرة: "لن نُورَّث ولن نُستعبَد بعد اليوم"، لكن قيادات الحركة العرابية اختلفوا فيما بينهم، وتنازعوا على من يخلف توفيق عقب عزله، بحسب رواية قليني باشا فهمي، فكانت نتيجة تنازع النخبة المصرية، أن دخل الإنجليز مصر عام 1882، ليدوم الاحتلال لأكثر من سبعة عقود، فوُرِّثنا واستُعبِدنا منذ ذلك الحين.
اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، لتأكل أوروبا وأجزاء من آسيا وأفريقيا، وقُتل أثناءها ملايين البشر، وخلّفت دمارا هائلا، وفي كانون الثاني/ يناير 1918، أعلن الرئيس الأمريكي توماس ويلسون مبادئه الأربعة عشر، ومنها حق الأمم في تقرير المصير، وهو المبدأ الذي تطلّعت إليه الدول الواقعة تحت الاحتلال في ربوع الدنيا، وطمحت إليه بطبيعة الحال الدولة المصرية، فانتظرت نخبتها السياسية نهاية الحرب، لينال المصريون حظّهم من الاستقلال، وكان على رأس تلك النخبة الأمير المثقف "عمر طوسون". ولم يلبث الإنجليز أن أوعزوا إلى القصر ليأمر الأمير طوسون أن يبتعد عن هذه المسألة، فامتثل للأوامر، ولتُفتح أبواب التاريخ للأزهري والمحامي ونائب رئيس الجمعية التشريعية، سعد باشا زغلول.
أعلن الرئيس الأمريكي توماس ويلسون مبادئه الأربعة عشر، ومنها حق الأمم في تقرير المصير، وهو المبدأ الذي تطلّعت إليه الدول الواقعة تحت الاحتلال في ربوع الدنيا
تكوّن الوفد من: سعد زغلول باشا، علي شعراوي باشا، محمد محمود باشا، إسماعيل صدقي باشا، حمد الباسل باشا، مصطفى النحاس بك، عبد العزيز فهمي بك، عبد اللطيف المكباتي بك، أحمد لطفي السيد بك، سينوت حنا بك، جورج خياط بك، محمد أبو النصر بك، حافظ عفيفي بك.
تروي السيدة هدى شعراوي، زوجة علي باشا شعراوي، أن الوفد بقي مُشكّلا يرقب إعلان الهدنة، وفور إعلانها في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1918، طلب الوفد لقاء المعتمد البريطاني السير ريجنالد ونجت، وتم اللقاء يوم 13 تشرين الثاني/ نوفمبر، وانتهى بخيبة أمل كبيرة لما أبداه المعتمد البريطاني من صلف وتعنت أمام المطالب المصرية، وأنهى لقاءه بأنه لا يعرف رأي الحكومة البريطانية في ذلك الأمر.
استغل أعضاء الوفد هذه الكلمة، فطالبوا الجيش الإنجليزي بإصدار جوازات سفر لهم، ليذهبوا إلى لندن لعرض مطالبهم على الحكومة البريطانية، ثم طالبت وزارة حسين رشدي باشا بتصاريح سفر لأعضاء الوفد المصري للذهاب إلى مؤتمر الصلح في باريس، لعرض المسألة المصرية. وإزاء الرفض الإنجليزي استقالت الوزارة، ولم يرض أحد أن يقوم بتشكيل الوزارة فيما بعد. وإزاء ذلك الموقف، استدعى القائد العام للقوات البريطانية أعضاء الوفد المصري، في 6 آذار/ مارس 1919، وألقى عليهم بلاغا ينذرهم فيه بالعقوبات، خاصة أن البلاد خاضعة للحكم العسكري، ولم يستجب الوفد، فتم اعتقال سعد زغلول باشا وحمد الباسل باشا وإسماعيل صدقي باشا يوم 8 آذار/ مارس، ونفيهم إلى جزيرة مالطا.
نظرا للسيطرة الإنجليزية على وسائل الإعلام، لم يعلم المصريون ما جرى مع أعضاء الوفد إلا في اليوم التالي، وفي يوم 10 أضرب طلبة المدارس العليا، وأضرب عمال الترام والحوذية (العربجية)، والمحامين، وأصبحت الدكاكين مغلقة ما عدا الدكاكين الأوروبية، وأصبح الشارع المصري في حالة غليان، وقوبلت الاحتجاجات بعنف، وتم إطلاق النار على المتظاهرين، وتناقلت أخبار القتل والتظاهرات إلى باقي القُطْر المصري، لتندلع المظاهرات في أرجائه، وتم قطع خصوط السكك الحديدية وتخريبها، وتخريب أسلاك التلغراف والتلفون. وفسّرت هدى هانم شعراوي تخريب قضبان السكك الحديدية برغبة المصريين في إعاقة القطارات المسلحة وفرق الجوالة عن الطواف بالمدن والقرى، لجمع السلاح وإيذاء الناس.
كانت نتيجة الإضراب العام، أن امتلأت الشوارع بالفضلات والحجارة، ولم يعد يُسمع فيها صوت عربات أو وسائل نقل، وتعاقبت الأحداث إلى أن اضطُر المحتلون إلى الإفراج عن سعد زغلول ورفاقه، يوم 7 نيسان/ أبريل، لتعم الفرحة أرجاء القطر. وسافر الوفد المصري إلى باريس، لكن لم تتم الاستجابة إلى طلبه باستقلال مصر عن إنجلترا.
كان المصريون لُحمة واحدة وأعينهم تشخص إلى هدف واحد، هو مطلب الاستقلال، لكن الساسة الذين حمّلهم الشعب آماله وطموحاته انصرفوا إلى خلافات داخلية
كان حراك عام 1919 نموذجا للائتلاف المصري بجميع أطيافه، على المستوى الديني (مسلمين ومسيحيين ويهود)، وعلى المستوى الاجتماعي والمهني والسياسي. كان المصريون لُحمة واحدة وأعينهم تشخص إلى هدف واحد، هو مطلب الاستقلال، لكن الساسة الذين حمّلهم الشعب آماله وطموحاته انصرفوا إلى خلافات داخلية عقب إخفاقهم في مؤتمر باريس، فكانت طموحات المصريين أسمى وأرقى من سلوكيات النخبة السياسية. وبقيت من حسنات تلك الهبة الجماهيرية، صدور دستور عام 1923، الذي كان مثالا للتصور الديمقراطي في زمنه. وللمفارقة، أسمى سعد زغلول اللجنة القائمة عليه بـ"لجنة الأشقياء"، اعتراضا منه عليها، كما كانت الحركة الجماهيرية العامة بداية تشكّل الحركة النسوية المصرية.
الثورة المصرية في 2011 تحمل مطلب الاستقلال السياسي مثل حراك 1919، لكنه استقلال عن الاستبداد المحلي، لا عن الاحتلال الأجنبي، ونجح المصريون في إسقاط نظام مبارك الوريث لحركة الضباط في 1952
قام سعد زغلول بتأسيس حزب الوفد وفاز بالانتخابات عام 1924، وشكّل الحكومة، واستقال بعد أقل من عام، وانقسم الوفد أكثر من مرة، وتشكّل عقب الانقسام الأول عام 1922 حزب الأحرار الدستوريين، (لم يكن سعد زغلول قد شكّل حزبه)، وعقب الانقسام الثاني في الأربعينيات شكّل مكرم عبيد الكتلة الوفدية، وهي انقسامات تبدي وضع النخبة السياسية المصرية في ذلك الوقت، وعدم قدرتها على التعاطي مع الواقع المصري، الأمر الذي يتقاطع جزئيا مع
ثورة المصريين في كانون الثاني/ يناير 2011.
كانت الثورة المصرية في 2011 تحمل مطلب الاستقلال السياسي مثل حراك 1919، لكنه استقلال عن الاستبداد المحلي، لا عن الاحتلال الأجنبي، ونجح المصريون في إسقاط نظام مبارك الوريث لحركة الضباط في 1952، لكن النخبة السياسية التي قادت الحراك الجماهيري، سقطت في مستنقع المصالح الشخصية والاستعلاء على الخصوم، فكانت النتيجة أن عاد الحكم العسكري بصورة أبشع من ذي قبل، وبرغبة مجنونة في الانتقام من كل من شارك في إذلاله عام 2011.
النخبة السياسية التي قادت الحراك الجماهيري، سقطت في مستنقع المصالح الشخصية والاستعلاء على الخصوم، فكانت النتيجة أن عاد الحكم العسكري بصورة أبشع من ذي قبل
بدأ الشارع المصري في استجماع مظاهر الغضب في الأسابيع الأخيرة، بعدما انصرف عن الاشتباك مع النظام الحالي، وكانت الذروة في الاستجابة الجماعية لصورة احتجاجية بسيطة عبر الصافرات، بدعوة من إعلامي واحد، الأمر الذي يشير إلى إخفاق النظام في تزييف وعي الشارع عبر سيطرته على وسائل الإعلام المحلية. ورغم مرور ما يقرب من ست سنوات على تأميم المجال العام، وهي إشارة تُظهر أن النار لا زالت تحت الرماد، ويبدو أن النظام التقط الرسالة سريعا، فاجتمع السيسي بقيادات الجيش والشرطة، وتحدث في ما تُسمى بالندوة التثقيفية عن المؤامرات وخوفه من الداخل المصري لا الخارج. وربما يكون تراجع بوتفليقة في الجزائر عن الترشح للرئاسة، في ظل حراك شعبي غير مسبوق هناك، دافعا للمصريين لاستكمال ثوراتهم التي تنتكس منذ قرن، ولعلهم يصوّبون مسار حراكهم هذه المرة.