إثر
مسيرات سلمية نموذجية أبدع فيها الشعب
الجزائري طرقا حميمية، وحتى طريفة، في
الاحتجاج، استطاع تحقيق أحد أهداف الضغط العالي الذي مارسه على منظومة الحكم، فأعلنت
الرئاسة الجزائرية رسميا أن لا عهدة خامسة لبوتفليقة. وهذا يعني أنه حان الآن وقت السياسة.
فشلت أولا
"الخطة ب"، أي خطة "العهدة
الخامسة" مع التمديد بسنة لبوتفليقة، بسبب الحراك المتصاعد والمتواصل، الذي
وصل حتى الإضراب غير المسبوق للقضاة، إضافة إلى مؤشرات عصيان مدني منذ يوم الأحد؛
مسّ حتى مؤسسات تتبع الإنتاج النفطي.
ومن غير
الواضح إن كانت "الخطة ج" لمنظومة الحكم تتضمن تقلد رجل عسكري البلاد. وقد
نقلت نشرية "مغرب إنتلجينس" (التي يديرها صحفي فرنسي مقرب من المغرب، ولهذا يجب التعامل مع روايتها بحذر) خطة تنصيب رئيس الأركان قايد صالح في موقع
الرئاسة مؤقتا، حيث ذكرت أنه "بعد فشل مشروع الولاية الخامسة، وإعلان
بوتفليقة عن سحبه ترشحه لولاية
جديدة، عقب
مظاهرات الآلاف من المحتجين في ثلاثة أسابيع متتالية، بدأت المناورات
وراء الكواليس للتحضير لمرحلة ما بعد بوتفليقة. وأطلقت هذه المناورات بشكل رئيسي
من قبل حاشية محمد قايد صالح، الرئيس القوي للجيش الجزائري. هذا الأخير يريد أن
يؤدي دور مايسترو الفترة الانتقالية بعد التخلي عن خيار الولاية الخامسة".
لكن حسب
النشرة، فإن عواصم غربية أساسية، مثل باريس وواشنطن، رفضت هذه الخطة التي عرضها
"وسطاء إماراتيون"، وتم مقارنتها بالسيناريو الانقلابي المصري. وتقول
النشرة: "من جهتها، رفضت
واشنطن دراسة "العروض" و"خرائط الطريق" التي قدمها زعيم الجيش
الجزائري ومحيطه، رغم سفر قايد صالح مرتين إلى الإمارات لبعث رسائل طمأنة للولايات
المتحدة الأمريكية. الوسطاء الإماراتيون فشلوا في إقناع واشنطن بالمراهنة على "سيسي"
جديد في شمال أفريقيا".
لكن بمعزل عن صدقية هذا التقرير، من غير
الواضح إن كان دور الجيش الجزائري العلني سيتوقف عند دور مفترض لقايد صالح، وألا
تكون هناك قيادات عسكرية أخرى أقرب لتأدية هذا الدور. في كل الحالات، تم اعتماد
"الخطة ج"، أي انسحاب بوتفليقة تماما وتأجيل الانتخابات الرئاسية.
السؤال المحوري الآن وعمليا: كيف سيتم تدبير الأمور
خارج السياق الدستوري القائم بعد اعتماد هذه الخطة؟
خطة منظومة الحكم مضمرة
في رسالة بوتفليقة التي ورد فيها الآتي: "الندوة الوطنية الجامعة المستقلة
ستكون هيئة تتمتع بكل السلطات اللازمة لتدارس وإعداد واعتماد كل أنواع الإصلاحات
التي ستشكل أسيسة النظام الجديد". المرشح لترؤس "الندوة الوطنية"
في الكواليس؛ لخضر الإبراهيمي، الذي بقي تاريخيا مواليا للمنظومة ويحظى بثقتها،
كما أنه لم يتسخ بالاقتراب كثيرا منها. أما الحكومة الجديدة، فيسيطر عليها مقربون
من بوتفليقة، أي وزير الداخلية السابق خليفة أويحيى، أو لأول مرة منصب نائب رئيس
حكومة التي سيتقلدها مستشاره الدبلوماسي رمطان العمامرة.
ملخص الخطة الراهنة: مواصلة
الإمساك بالسلطة التنفيذية من قبل بوتفليقة وفريقه الحكومي، مقابل استيعاب الحركة
الاحتجاجية في هيئة تشريعية أشبه بهيئة تحقيق أهداف الثورة التونسية، التي تشكلت
في 15 آذار/ مارس 2011 بقيادة أحد الأوفياء لمنظومة الحكم. وتبقى هذه الصيغة إلى
زمن الانتخابات الذي يتم تقريره لاحقا، ولكن كل ذلك دون آجال واضحة.
من
الواضح أن الحكومة الفرنسية تشاورت مع منظومة الحكم حول هذه الخطة، إذ إن ترحيبها
المبكر منذ ليلة 11 آذار/ مارس بقرارات بوتفليقة، ثم دعم ماكرون في اليوم التالي
ودعوته لفترة انتقالية "معقولة"، يمثل مؤشرا واضحا على ذلك. يبقى أن
الحساسية الشعبية الجزائرية من أي تدخل فرنسي، سيجعل هذا الترحيب عاملا إضافيا
لتوتر الشارع الجزائري ورفضه للقرارات.
السؤال الآخر الكبير: هل للشارع خطة بديلة؟ لا..
إذ هناك قطيعة بينه وبين الساسة، ولم ينتج قيادته البديلة. فالشارع يصر على
استبعاد أحزاب المعارضة القائمة، ويبدو مهتما أكثر بشخوص على الهامش الأقصى لهذا
المشهد الحزبي.
هذا مأزق الشارع الأكبر. وبهذا المعنى، حان وقت
السياسة. بعض القيادات السياسية تتقدم للتعبير عنه، وأهمهم ربما مصطفى بوشاشي؛
الذي يستحق تركيزا خاصا.
تميز هذا البرلماني باستقالته المدوية سنة 2014
من البرلمان، بعد استنفاده كل صيغ المعارضة الجدية وقطيعته مع حزبه "جبهة القوى
الاشتراكية" المعارض (الذي أسسه القيادي التاريخي حسين آيت أحمد، ومثّل عموما
طليعة المعارضة الديمقراطية، رغم تمركزه في منطقة القبايل). واستطاع بوشاشي أن
يشكل لنفسه صورة الشخص الحقوقي المبدئي المعارض بشكل واضح لمنظومة الحكم برمتها، أيضا
للوجود في مؤسساتها الرسمية، ومن ثمة أخذ مسافة حتى من المعارضة الرسمية، ولكن أيضا
تميز بخطاب مسؤول وهادئ وعميق، وهو ما يتضح خاصة في رد فعله السريعة على
"الخطة ج"، حيث استهدف سيطرة منظومة الحكم على الفترة الانتقالية في
مستوى السلطة التنفيذية، وطالب بحكومة انتقالية تشمل مختلف الأطياف؛ ولا تقتصر على
ممثلي الحكم، إضافة للندوة الوطنية التي ستصوغ خريطة الطريق التشريعية الجديدة.
ومن الممكن أن يتبنى الشارع هذا التصور، لكن يجب
أن ننتظر يوم 15 آذار/ مارس لنرى حجم الرفض لخطة منظومة الحكم، حينها ربما سنرى
اهتماما أكثر بالبدائل على حساب الرفض في خطاب الشارع.
ومعطى آخر يجب أن ندمجه
في قاعدة المعطيات الضرورية للتحليل أي موقف التنظيم الإرهابي الأبرز في البلاد:
القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. وهنا لم يتجنب التنظيم التعليق، بل حرص على أن
يصدر عبر مؤسسة الأندلس للإنتاج الإعلامي التابعة له بيانا مسجلا في 10 آذار/ مارس،
بصوت ناطقه الرسمي يوسف العنابي. أبرز ما ورد في التسجيل دعم المسيرات، ولكن أيضا
التبرؤ المسبق من أي "عمليات تخريبية" واتهام النظام الجزائري بها.
هنا تلتقي كل المعطيات
في مسألة أساسية: أن الشارع هو الطرف المهيمن والقائد للأحداث بلا منازع.