لا تتحدث المصادر التاريخية المتوفرة عن التأثير الذي تكون قد لعبته ثورة 1919 في مصر على الحركة الوطنية الجزائرية، إلا عبر إشارات باهتة، تستدعي أن ينتبه المؤرخون إلى هذه الثغرة الخطيرة، والتي من الواضح أنها تشكل حلقة تواصل مهمة في سلسلة التأثر والتأثير المتبادل بين الثورات العربية، التي يجمعها عامل الشعور القومي بشكل لا يمكن إلغاؤه، تماما كما هي حالة التأثر والتأثير الحاصلة حاليا في الموجة الأولى والثانية من ثورات الربيع العربي المتواصلة بأشكال وإبداع مختلف.
ورغم الشح الكبير في المصادر التاريخية التي تتحدث عن تأثير الثورة المصرية الكبرى في الحركة الوطنية الجزائرية، إلا أن مظاهر وأدلة عديدة تشير إلى قوة التأثير الصامت، والذي لا يشبه عملية التأثير التي حصلت في عدد من الدول العربية، كالسودان بحكم الجوار المباشر، والعراق وسوريا وليبيا والمغرب في ثورة الريف بقيادة عيد الكريم الخطابي، ذلك أن الجزائر وبعكس باقي الدول العربية، لم تتوقف فيها مقاومة الاستعمار الفرنسي منذ أن وطئت قدماه أرض الجزائر في شاطئ سيدي فرج عام 1831، حيث اندلعت الكثير من الثورات الشعبية المسلحة التي لا يمكن حصرها الآن، لكن كان من أهمها مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري غرب البلاد (1832/1847)، مقاومة أحمد باي في الشرق الجزائري (1837/1848)، مقاومة أولاد سيدي الشيخ (1864/1880)، مقاومة التوارق (1916/1919) ومقاومة الحليمية بالأوراس (1914/1916)، وغيرها من الثورات التي قدم فيها الشعب الجزائري حوالي 5 ملايين شهيد، عملت خلالها فرنسا الاستعمارية على تنفيذ إبادة جماعية للشعب الجزائري، عبر سياستها الأرض المحروقة، الأمر الذي أثر بشكل كبير فيما بعد في ردود فعل الجزائريين، وفي تحركاتهم من أجل الحرية، واستدعت في مرحلة ما بعد الثورة المصرية بداية العام 1919، التي واكبت فترة نهاية الحرب العالمية الأولى، أن ينتقل الجزائريون إلى نوع آخر من المقاومة هي المقاومة السياسية، تجنبا لبطش فرنسا، التي لم تكن تتعامل مع الجزائر كأرض مستعمرة، وإنما باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الأرض الفرنسية، وهي بذلك تختلف كليا عن نوعية وطبيعة الاستعمار (أو الانتداب البريطاني).
الثورة المصرية وتشكيل الوعي السياسي في الجزائر
تزامن اندلاع الثورة المصرية الكبرى، مع أحداث أخرى مهمة، حصلت في المنطقة والعالم، كان لها مجتمعة، أثرها في إعادة تشكيل الوعي السياسي لدى الجزائريين، خاصة مع الإدراك المرير بفشل المقاومات الشعبية في مقارعة الاستعمار طوال 90 سنة كاملة من الاحتلال، بسب التفوق الكبير للمحتل تنظيميا وفي التسليح، وقد تشكل الوعي الجديد مع عودة أعداد لا بأس بها من الطلاب الجزائريين من المشرق العربي، وتحديدا من مصر حيث الأزهر الشريف، واحتكاك الكثير من المثقفين الجزائريين بالحراك المصري، وثورة سعد زغلول، دعمها في ذلك تجنيد مئات الآلاف من الشباب الجزائري في الخدمة العسكرية الإجبارية، لمساعدة فرنسا في حروبها الاستعمارية.
وقد واكب فترة انتهاء الحرب العالمية الأولى، واندلاع الثورة المصرية، تأثر الوطنيين الجزائريين بالحراك العربي في الشرق الأوسط، وعودة أعداد كبيرة من المجندين الجزائريين في صفوف الجيش الفرنسي الى الجزائر، يحملون أحلام الثورة والاستقلال، مدفوعين مع أقرانهم من بقية الجزائريين، بالقرارات التاريخية التي تمخض عنها مؤتمر فرساي بفرنسا من توصيات كان على رأسها مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وكذا مبادئ ويلسون الـ14، والأهم من ذلك، هو صدور قانون فبراير 1919 الذي سمح للجزائريين بالنشاط السياسي، وحق التصويت في الانتخابات (وإن كان ذلك مشروطا بالتجنس) الذي رفضه أغلب الجزائريين فيما عدا تيار الاندماجيين، وكانت تلك أعظم وأجمل صدفة، جعلت من الحراك السياسي الجزائري، يتوافق زمنيا مع ثورة الشعب المصري والشعوب العربية الأخرى للتحرر من الاستعمار والانتداب الغربيين.
ثورة مصر وظهور مقاومة الأمير خالد ومصالي الحاج
لا تشير البحوث التاريخية المتوفرة، عن تأثير مباشر لثورة سعد زغلول في مصر بالموجة الأولى من المقاومة السياسية في الجزائر، عقب توقف المقاومة المسلحة فيها، لكن من المؤكد أن تزامن الثورة المصرية الكبرى، مع ميلاد حركة الأمير خالد الاستقلالية، ومطالبه الثورية، داخل الجزائر وفي بلاد المهجر، لم يكن صدفة، عبر تأسيس حزب الإخاء الجزائري سنة 1919، الذي تطور بعد سنوات قليلة من المطالبة بالمساواة ليرفع في وجه فرنسا الاستعمارية مطلب الاستقلال لأول مرة ويتحدى به الاستعمار.
كان لميلاد جمعية العلماء المسلمين، التي نهلت من ثقافة الأزهر، ومشاركته الكبيرة في ثورة سعد زغلول، الأثر الأبرز في الحفاظ على الشخصية العربية المسلمة في الجزائر
لقد كانت حركة الأمير خالد الإحيائية ثم الاستقلالية، متأثرة بالتوجه العربي، حيث وقفت في وجه الاندماجيين الذين لم يكونوا يعيرون بالا للغة العربية والدين الاسلامي، من أمثال فرحات عباس، وطالبت بضرورة تعليم الجزائريين اللغة العربية، وجعلها إجبارية في المدارس، وكانت تلك المطالب تعبيرا صادقا على رفض مساعي فرنسا الدائمة، لفصل الجزائر عن محيطها العربي بكل تفاصيله، ما يجعل من حركة الأمير خالد، التعبير الأبرز والعملي لمدى التأثير الذي لعبته الثورة المصرية الكبرى في إحياء الروح القومية لدى الجزائريين من جديد.
ورغم ما تلقاه الأمير خالد من صنوف التهجير والتضييق، فقد تمكن من بث روح جديدة ومتجددة في الجسد الجزائري، الذي أنهكته سياسة الفرنسة والتجهيل، لتمهد الطريق أمام أجيال بعدها، متشبعة بقيم العروبة والإسلام، علاوة على الحس الوطني ومطالب الاستقلال.
ولعل من أبرز ثمار هذا التوجه الاستقلالي المقاوم الذي هبت ريحه من الداخل اعتمادا على الثورات الشعبية التي لم تتوقف قط، وزادته الثورة المصرية تجذرا، هو ظهور الزعيم مصالي الحاج، الذي يلقب بأب الوطنية الجزائرية، عبر حزب نجم شمال إفريقيا سنة 1927 (قبل أن يتحول إلى حزب الشعب الجزائري في 1937)، الذي دعا إلى وحدة دول الشمال الإفريقي كافة، وتحقيق حلم الوحدة بين دوله العربية، لتنبت بذلك فكرة المغرب العربي الكبير، من دون أن تكون مصر منفصلة عن هذا الطرح الوحدوي الذي سبق زمانه، وترك أرضية حقيقية نحو الوحدة العربية الشاملة، غير أن الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال فشلت في استغلال ذلك، وانهارت أمام الطرح الاستعماري في التفتيت والتجزئة.
جمعية العلماء المسلمين امتداد لثورة الأزهر
ولن نكون مبالغين اذا أكدنا أن تشكل أهم حركة دينية إصلاحية في الجزائر وحتى في المغرب العربي، وهي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين (1931)، كانت من ثمرات ثورة آذار (مارس) 1919، على الرغم من الفارق الزمني بينهما، فمن بين المراجع المهمة والنادرة في آن واحد، هو ما ذكره الكاتب الجزائري محمد الطاهر آيت علجت في كتابه "الشيخ المولود الحافظي، حياته وآثاره"، بأن أحد أبرز مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الشيخ مولود الحافظي، شارك رفقة عدد من الطلبة الجزائريين مشاركة مباشرة في ثورة 1919، حيث يشير الكاتب إلى أن تلك الثورة التي شارك فيها الأزهر الشريف بقوة، وكان الملتقى الدائم للثوار كما كان طلبته وعلماؤه في الطليعة، ومن أول الضحايا الذين استهدفوا من طرف القوات البريطانية في 13 آذار (مارس) 1919عندما قاد الأزهر مظاهرات المسجد الحسيني بعد صلاة الجمعة فأطلقت المدرعات البريطانية النار على المتظاهرين وقتلت منهم 12 شخصا.
وأشار الكاتب إلى أن مؤرخي الحملة الفرنسية كانوا مهتمين جدا برصد تحركات الطلبة والعلماء الجزائريين المقيمين في الأزهر فتعددت لذلك التقارير بين هذه المخابرات على السلطات الفرنسية في الجزائر ومنها تقرير الرائد قاضي المتضمن قائمة إسمية من بينهم المولود الحافظي، الذي كان عنصرا مهما في تلك الثورة، وعندما عاد إلى الجزائر سنة 1922 شرع في البحث رفقة مجموعة من علماء الجزائر في إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كان في مقدمتهم طبعا الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس، البشير الإبراهيمي، الطيب العقبي، أين تجسدت الفكرة أخيرا سنة 1931 مع كوكبة من 72 عالما، تأثروا جميعهم وبعضهم شارك في ثورة 1919، علاوة على التأثر الكبير الذي لحقهم من حركة الاصلاح الديني في المشرق العربي عموما التي دعا اليها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم.
يبقى التأثير الكبير الذي ظل مؤجلا، هو في اندلاع ثورة أول تشرين الثاني (نوفمبر) 1954 المجيدة، والتي كان صوتها الإعلامي الأكبر يخرج من قلب القاهرة عبر "صوت العرب"
وقد كان لميلاد جمعية العلماء المسلمين، التي نهلت من ثقافة الأزهر، ومشاركته الكبيرة في ثورة سعد زغلول، الأثر الأبرز في الحفاظ على الشخصية العربية المسلمة في الجزائر من الذوبان، وفي تحريك وصناعة وعي جديد يكمل التيارات الوطنية الأخرى، حيث ركزت بشكل ذكي عبر تحركاتها ومدارسها التعليمية ومنابرها الإعلامية التي انطلقت حتى قبل تأسيسها مثل جريدة الشهاب في 1925، ثم جريدة (المنتقد)، في الدفاع على العقيدة الإسلامية واللغة العربية والتاريخ والتقاليد والعادات الجزائرية، وشكلت بذلك الأرضية العقائدية لاندلاع ثورة التحرير الكبرى عام 1954، أين تبوأ الكثير من خريجي الجمعية مناصب قيادية في جيش التحرير الجزائري، علاوة على قاعدته البشرية.
مؤرخون يعترفون بالتقصير
ورغم أن تأثير الثورة المصرية الكبرى، على الحركة الوطنية الجزائرية، لا يمكن إنكاره، إلا أن إثباته بالدراسات والبحوث العلمية والتاريخية، يكاد ينعدم، حيث غفل المؤرخون سواء في الجزائر أو غيرها، على هذا المعطى المهم، ورغم محاولات "
عربي21" الحثيثة لكشف بعض جوانب هذا التأثير من عدد من المؤرخين الجزائريين، على غرار الدكتور مصطفى نويصر، والدكتور محمد أرزقي فراد، إلا أنهم عبروا في معظم الحالات عن وجود فراغ حقيقي في هذه النقطة، لاعتبارات كثيرة.
في المقابل، قال الباحث والأستاذ الجامعي الدكتور عمار يزلي لـ
"عربي 21"، إنه رغم عدم عثوره على مصادر تشير إلى لقاء بين سعد زغلول مثلا والأمير خالد الذي كان محرك حراك 1919 في الجزائر وإلى غاية 1930. أو إلى أي مصدر يشير إلى علاقة مباشرة بين سعد زغلول ومصالي الحاج، لكن هناك صلة غير مباشرة بين سعد زغلول وشكيب أرسلان، هذا الأخير الذي أثر في مصالي الحاج تأثيرا كبيرا إلى درجة أنه حوله من الاتجاه النقابي اليساري في نجم شمال إفريقيا إلى اتجاه قومي ديني إسلامي، شكيب أرسلان الذي كان على وفاق مع حزب الوفد في مصر والثورة في السودان سنة 1919 والتقي بسعد زغلول.
أما الكاتب نذير طيار، مترجم كتاب الدكتورة كميل ريسلير (السياسة الثقافية الفرنسية بالجزائر/1830-1962)، فأشار لـ
"عربي21"، إلى أن العلاقة بين سعد زغلول والأمير خالد، هي في تزامن الوعي لدى الرجلين، في بداية سنة 1919م حيث أعلن الأمير خالد عن تشكيل وفد جزائري يشارك في مؤتمر الصلح بفرساي، على غرار الوفود العربية الأخرى، مثل الوفد العربي بقيادة الأمير فيصل بن حسين، والوفد المصري بقيادة سعد زغلول، والوفد التونسي بقيادة عبد العزيز الثعالبي وغيرهم..
لعل حراك الجزائر يرد الدين
ومهما يكن، فإن أي محاولة لضبط
التأثيرات التي قد تحدثها أي ثورة في محيطها المباشر أو غير المباشر، هي عملية نسبية، لاختلاف الشروط الموضوعية والذاتية الحاصلة في كل بلد، كما أن التأثير قد يكون آنيا فوريا، وقد يكون تأثيرا مؤجلا يتخلله إرهاصات كثيرة، ذلك أنه في الحالة الجزائرية لم تتفاعل الساحة مباشرة بحراك مماثل كما حصل في بعض الدول العربية، لكنه كان حراكا سياسيا ودينيا ضخما، أفضى بعد سنوات إلى انتفاضة كبرى في الثامن من أيار (مايو) 1945، في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي واجهتها فرنسا كعادتها بوحشية كبيرة، خاصة في مدن سطيف وقالمة وخراطة، أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 45 ألف جزائري، في مجازر جماعية قل نظيرها في العالم، وهو رقم يتجاوز بكثير ضحايا ثورة 1919 بمصر ذاتها والذين كان عددهم في حدود 3 آلاف شهيد حسب المصادر التاريخية.
ويبقى التأثير الكبير الذي ظل مؤجلا، هو في اندلاع ثورة أول تشرين الثاني (نوفمبر) 1954 المجيدة، والتي كان صوتها الإعلامي الأكبر يخرج من قلب القاهرة عبر "صوت العرب"، وامتد صداها واسعا في العالم، وكانت السبب المباشر في استقلال عدد كبير من الدول الإفريقية، حتى يتسنى لفرنسا وجيشها محاربة جيش التحرير الوطني الجزائري، ومن يدري الآن، في عصرنا الحديث، فكما كانت الثورة التونسية بالأمس، في عام 2011، هي الشرارة التي اندلع منها لهيب الربيع العربي، إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن، فلعل انتفاضة الجزائريين اليوم في 2019، ستكون شرارة الموجة الثانية، وتنتقل إلى مصر الحبلى بحراكها المخنوق، وإلى باقي الدول العربية الأخرى التي تنتظر، لكن هذه المرة، بعد استخلاص الدروس التاريخية كلها، وفهم مخططات الثورة المضادة وآليات عملها داخليا وخارجيا.