لن يكون مبالغة اعتبار أن الاسلام والمسلمين كانوا على مر تاريخهم ضحية للدولة، لأسباب متعددة سيتم تحليلها لاحقا. والتعدد في الأسباب مرده إلى الإطار الجيوستراتيجي والثقافي الذي نشأت فيه التجربة، والطبيعة القيمية الأخلاقية للرسالة في تفاعلها مع إطارها وتوازناتها المتحركة تباعا، نتيجة للفتوحات المتتالية.
إن الإشارة إلى الدور الخطير الذي لعبته
الدولة في تاريخنا القديم والمعاصر؛ ليس للتدليل على وجوب استئصال أي شكل من أشكال السلطة، وإنما لإعادة رسم حدود الدولة لمنع تغولها واستعبادها الناعم أو العنيف للمجتمع.
الإطار المرجعي
لقد كان الوحي برافديه متضمنا لأصول معيارية عامة موجهة لضبط الأداء في إدارة الشأن العام، مثل: "وأمرهم شورى بينهم"، ومثل النهي عن التنازع وإدخال الحكام في النزاعات الاجتماعية أو المالية وغيرها، كما تضمن أصول إجرائية لإدارة الشأن العام، خاصة من خلال الحديث والسير، ونصوصها عديدة، ومن أهم وثائقها صحيفة المدينة.
أتحدث عن إجرائية هيكلية، وليس إجرائية تفصيلية، سواء مؤسسيا أو في قواعد معالجة الإشكالات اليومية التي تتعلق بالإطار الاجتماعي والمكاني والزماني للتجربة.
رسالة الوحي في تجليه القرآني والنبوي تجاوزت الجانب الروحي والوجودي والأخلاقي؛ إلى الجانب العملي التشريعي الذي ينظم الشأن العام في وجوهه المختلفة، لذلك لم يكن هناك فراغ ولا صراع في هذا الإطار.
الإطار التاريخي
الخلافة الراشدة
لكن حقيقة انسجام الوحي برافديه في تعاطيه مع
الديني والسياسي لم يمنع الصراع بين الديني والسياسي في واقع
المسلمين، وبشكل مبكّر جدا، ومن خلال مظاهر مختلفة انطلقت مباشرة إثر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، من خلال حركة الردة مثلا، ومن خلال تأسيس شرعية قيادة إدارة الشأن العام على أساس الأصل الاجتماعي المناطقي (مكة أو المدينة)، وعلى أساس قبلي قرشي تراجع مع الخليفة الثالث إلى الإطار العشائري، في تراجع واضح عن روح المواطنة التي أسست لها صحيفة المدينة. ولكن حافظت تجربة الخلافة الراشدة على التداول على السلطة بناء على الاختيار الذي حُصر في ساكني المدينة. وقد أدى اكتفاء الخليفة الرابع كرم الله وجهه ببيعة المدينة؛ إلى خلاف بينه وبين الحسن رضي الله عنه، جعلت الأخير يتوقع قتل والده، وهو ما وقع للأسف من قبل بعض أنصاره الغاضبين على أدائه.
إن ولادة تجربة جديدة مجاورة لنموذجين إمبراطوريين، مع حقيقة غياب تجربة إدارة مساحة جغرافية واجتماعية بالحجم الذي أصبحت عليه بعد توحيد الجزيرة العربية، بالإضافة إلى الإرث القبلي السلطوي والطبيعة الفردية للشخصية العربية، جعل من إدارة الشأن العام بأسلوب تشاركي تعددي، كما أسس له في المدينة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، تحديا أخفق أمامه جيل التاسيس عبر مراحل حتى انقلب الأمر إلى ملك فردي أسري على يد الأمويين، ومن أتى بعدهم من معارضين أو حاكمين على حد السواء.
لم ينظّر أو يمارس عملا سياسيا أي طرف بشكل يكرس سيادة الأمة، فقد دعا البعض إلى طاعة الامام المتغلب، وآخرون إلى طاعة الإمام بحسب نسبه، وكلها نماذج تختلف في تبرير إسقاط سيادة الأمة ولكنها تتفق على تغييبها.
التجربة الأموية
لقد أبادت دولة الأمويين آلاف من الصحابة الذين تربوا على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وعايشوه؛ خلال صراعهم مع ثورة عبد الله ابن الزبير ابن العوام في نفس الوقت الذي أقامت مجزرة للآل.
ان استئصالا تم ضد جيل التأسيس من آل وصحب تم على يد الدولة الأموية، مع الانتقال من الانقلاب إلى التوريث، وهو ما أحدث فراغا كبيرا لشهود على تجربة النبوة والخلافة الراشدة.. يجعل توثيق الأدلة التاريخية مهمة أصعب علميا، رغم وجود مدونة مرويات ضخمة جدا جمعت في العصر العباسي. لقد تأخر التدوين ما يقارب قرنا من الزمن، ولم ينج من ذلك إلا القرآن الذي دون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وجُمع في عهد الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه.
هناك بعض التحديات المعرفية أحاطت بعملية التدوين الأولى في العصر العباسي؛ تمثلت في تغييب لنسبة كبيرة من الشهود نتيجة للإبادة التي قامت بها الدولة الأموية ضدهم، والثانية أثر المرحلة التاريخية بكل رصيدها الأبستمولوجي على محتوى المرويات من جهة، وتباعد الفترة الزمنية بين النصوص ورواتها زمن التدوين من جهة أخرى.
التجربة العباسية
لقد أشرفت الدولة العباسية على حركة التدوين. وهي ارتكزت على أسس سياسية شيعية (أهل البيت في فرع العباس عّم الرسول ص)، وقد تحالفت مع فرع أبي طالب، لكن أثر السلطة على الحركة العباسية أحدث شرخا في علاقتها بفرع أبي طالب، وهو ما جعلها في حاجة إلى التعامل مع تراث الأمويين الاجتماعي والثقافي بمرونة لتستوعبه.
لقد شكلت الحركة العباسية ما يمكن أن نسميه في عصرنا؛ تيارا للوسط، جمع بين التشيع السياسي والتسنن العقائدي، نتيجة للتقلب في موقعها وعلاقاتها بمكونات
المجتمع والدولة.
المحصلة
إن غياب التجربة، وغياب القدرة على تحليل وإدارة الواقع بشكل يستوعب معطياته ويوازن في إدارته بين الممكن والمشروع، جعل الانفعال بمعطيات الواقع دون وعي بذلك سيد الموقف.
بهذا الشكل لم تحدد الدولة نمط الفكر السياسي ونمط الحكم وطبيعة المؤسسة فقط، ولكن بلغ تأثيرها إلى لعب دور في تحديد آليات فهمنا للدين، فانعكست العلاقة من سلطة الاخلاقي على الإجرائي، إلى سلطة المؤسسة على القيمي، وعلى إنتاجنا للمعرفة. ومن الأمثلة على سلطة السياسي على القيمي والمعرفي هي رهن فهم الدين لآليات سياسية؛ من خلال اعتماد الإجماع أو الإمامة كمصادر للتشريع، وتحويل الدين إلى لاهوت، وبالتالي إلى أيديولوجيا. وقد قام علم الكلام بدور رئيسي في ذلك.
إن أي مقاربة لفهم تاريخ إنتاج المعرفة لدينا لا تأخذ بعين الاعتبار الإطار التاريخي، ولا تستفيد من منهج الظاهرة (فنوملوجي) قاصرة عن تفكيك المشهد بشكل يسمح بدراسته موضوعيا، ولا بد لها من الوقوع في مواصلة إنتاج أدوات تعيد إنتاج سلطة الماضي على واقع متحرك؛ لا يتوقف عن النمو أو الارتكاس.
إن الصراع بين الديني والسياسي كان صراعا بين سلطة القيم وبين رغبة الناس المتنفذين في الاستثمار في تلك القيم، لتمتين سيطرتهم ونفوذهم، أو لأثر البيئة الاجتماعية والثقافية على الفهم والممارسة، مع نقص في رصيد التجربة والخبرة.
هذا الصراع لم يسلم منه اجتماع بشري منذ نزول الإنسان إلى الأرض، ولذلك كانت حركات النبوة ارتقاء بوعي الإنسان ليتجاوز اللحظة التاريخية؛ إلى رؤية تستوعب الوجود، مما يساعد على استعادة سلطة القيمي على الإجرائي. أما وقد حفظ الوحي من التبديل، فلم يعد من داعٍ لاستمرار العلاقة المباشرة لشخص يروي عن الخالق وقد حفظ الكتاب الذي ما فرط في شيء، وكذلك لبلوغ العقل الإنساني درجة من النمو تخلصه من الإحيائية التي تخلط بين عالم الأشياء وبين الفكرة، وإن كانت الإحيائية الاجتماعية التاريخية لا زالت فاعلة.
النمط الأوروبي للصراع بين القيمي والسياسي
في المقابل، نشأ نمط من الصراع بين الديني والسياسي في نموذج ثقافي آخر يتمثل في التجربة الأوربية، حيث اخترق الدين تجربة قائمة، ولم يكن مؤسسا لها وإنما ملتحقا بها، فأدى ذلك إلى تحويل القيم إلى مؤسسة (الكنيسة)، مما جعل الصراع يأخذ طابعا آخر تتنافس فيه مؤسستان: الدينية من خلال الكنيسة، والسياسة القيصرية الإمبراطورية، ما جعل الصراع يأخذ شكلا وجوديا يهدد فيها أحدهما وجود الآخر؛ لان المؤسسة بطبعها تدفع إلى التوسع، وهو ما يدفع إلى الصراع العنيف في حال الازدواج المؤسسي، مما طبع بقايا الإمبراطوريات الرومانية بحالة من الصراع المتواصل الذي لم يتوقف إلا مع التحديث، وتمكن السلطة السياسة من استئصال الكنيسة في النموذج الفرنسي، ومن تحجيمها وإلحاقها بالدولة في النموذج الأنجلو-ساكسوني والاسكندنافي.
إن حاجة الثورة الفرنسية إلى أيديولوجيا تواجه بها أيديولوجيا الجبر الدينية والسياسية؛ جعلها تحول الصراع في الواقع إلى نظرية للصراع الدائم بين الديني والسياسي. ولم يكن الأمر تعبيرا عن ضرورة معرفية للصراع، وإنما ضرورة سياسة واقعية تمكن النموذج الأنجلو-سكسوني من تجنب تجريده وتحويله إلى أيديولوجي. وقد رجح الصراع مع الاتحاد السوفييتي كفة التجربة الإجرائية على الاستئصالية، حتى في فرنسا، حيث استعمل الدين كأداة لوقف التمدد الشيوعي، وهو ما لم يستوعبه بعد حداثيو البلدان العربية والإسلامية، فتوقف وعيهم بالثورة الفرنسية عند تجربة اليعاقبة.
لقد انتصرت الدولة على الكنيسة في النموذجين؛ إن عبر إقصائها أو تدجينها، ولكن رغم ذلك فقد أسس للدولة الحديثة بشكل استبطن دور الكنيسة.
الكنيسة كانت تحتكر الشرعيات، وقد تمكنت في مراحل تاريخية معينة من احتكار الوسائل. وقد تصدت حركة الحداثة، لذلك ولكن الدولة الوليدة سعت إلى السيطرة على كل الفضاءات والمجالات التي كانت تشغلها الكنيسة، دون التساؤل عن شرعية تدخلها في ذلك.
من جهة أخرى، وقع تفكيك المجتمع عبر نظريات ميلر عن ما سماه بالحرية الفردية؛ تحت شعار أن المجموعة تشكل خطرا على الفرد، في تحويل للأنظار عن الخطر الحقيقي للدولة المتغولة على الفرد والمجتمع. كذلك وقع استبطان لاهوت الكنيسة في أن الخطيئة أصل ثابت في الإنسان؛ عبّر عنه هوبز الذي يعتبر أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وأن الدولة هي الوحيدة التي تمتلك وتحتكر شرعية استعمال العنف لمنع اعتداء الناس على بعضهم.
لقد وقع استبدال لاهوت الكنيسة بلاهوت الدولة، ولم تفلح دمقرطة الدولة في إزالة ذلك، ولكن خففت من حدته، فالسياسي يستجدي صوت المواطن، ولحظة حصوله على المقعد يحاول أن يقوم بدور الإله؛ يحدد الشرعي من سواه، ويمارس إدارة الشأن العام دون اعتبار لرأي ناخبيه ومتنكرا لوعوده الانتخابية.
الدولة خادم للشعب، وليست إلاهه وليست سيدا عليه، ولن يتحقق ذلك دون إعادة التاسيس لفلسفة الاجتماع السياسي، وسد الفراغ الهيكلي الذي يسمح للوبيات السلطة بممارسة التأثير المستمر على السياسيين، في حين يكتفي الشعب بمناسبات محدودة للقيام بذلك عبر الانتخابات.
تمارس الدولة سيطرتها على إنتاج المعرفة وعلى النفاذ إلى المعلومة، وتتحكم في الثروات وفي الخدمات ووسائل القوة، وتلعب وتتحكم في حركة الناس عبر إصدار الهويات والإقامات والتأشيرات وغيرها، في حين كان ذلك من مشمولات المجتمع سابقا. حتى المواطنة لا يُعترف بها إلا اذا أصدرت الدولة قرارا بذلك في شكل وثيقة، فالورق أهم في عُرفهم من حقائق الواقع.
دولة الاستقلال:
لقد تأسست دولة الاستقلال بعد حقبة الاحتلال؛ وارثة لكل سوءات الدولة حديثها وقديمها. فتحت شرعية النضال تشكل مناخ نفسي عقلي للطبقة السياسية متعالٍ على الشعب، وفي نفس الوقت أشرف المحتل القديم على تأسيس الدولة. وسواء كان النظام ملكيا أم جمهوريا، فإن الطبيعة الساسانية الجبرية القهرية كانت الصفة الثابتة تحت نظريات الإمام المتغلب أو نظريات وادعاء التحديث.
إن دولة الاستقلال تشكلت انطلاقا من فهم للدولة على أساس أبوي؛ يعتبر المؤسسة أداة لإنفاذ ما تراه النخبة، واستعملت كل الأدوات لإخضاع الشعب لذلك.
الربيع العربي
إن أهمية الربيع العربي لا تتوقف عند حد التخلص من أنظمة فاسدة، بل تتعداه إلى إعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع بشكل يكرس سيادة الأمة، ويفتح فرصة تحويل الدولة إلى خادم للمجتمع لأول مرة منذ أكثر من الف سنة.
إن التحديات التي تواجه هذا التحول يتمثل في ثلاثة عوامل؛ أحدها طبيعة النخبة التي لم تستوعب أبعاد التحول في عمقه، وإنما اكتفاؤنا بالسعي إلى تجميل الدولة عبر دمقرطتها، ولكن مع الحفاظ على شكل الدولة المتغولة.
أما التحدي الثاني، فهو تعوّد الشعوب على التعامل مع الدولة بعقلية الغنيمة والمطلبية التي تكرس تغول الدولة دون وعي. من جهة أخرى، تمثل القوى الخارجية تحديا كبيرا (ثالثا)؛ ليس لإدامة السيطرة على مواردنا ومصائرنا فقط، وإنما لإيقاف بريق الثورات السلمية المدنية التي برز امتداد بريقها إلى أغلب الدول الرأسمالية الديمقراطية، وآخر صيغة لها حاليا من مثل حركة السترات الصفراء.
إن تمدد الحركات السلمية المدنية قد يتحول إلى حركة عالمية تحررية لإيقاف ساسانية وتأله الدولة الحديثة؛ يلعب فيها الإسلام دور الحافز الأخلاقي العالمي لإعادة بناء عالم جديد لا يبنى على أيديولوجيات أو لاهوتيات، وإنما على الحاجة إلى إعادة هيكلة بنية العلاقة بين المجتمع والدولة؛ بشكل يجعل الدولة حقيقة خادما للمجموعة، بدفع من قيم الحرية والعدالة.
إذا نجح الربيع العربي نخبا وشعوبا في تجاوز هذه التحديات، يتشكّل الإطار الأبستمولوجي المناسب لإعادة بناء أسس الاجتماع الساسي، وفي نفس الوقت الشروط الموضوعية لتأسيس حركة إعادة بناء أسس إنتاج المعرفة، بما يتجاوز سلطة الماضي على حاضرنا، وفي نفس الوقت تجاوز عناصر التخلف والفساد في واقعنا، بما يفتح آفاقا إنسانية واقعية أخلاقية.