1- التدافع التاريخي بين الردة والثورة
في كل مسار ثوري وانتقال ديمقراطي؛ كثيرا ما ينبّه البعض إلى مخاطر "قوى الردة"، وإلى أساليبها في تعطيل المسار الثوري وفي الارتداد بالمشهد إلى الحالة القديمة. والمقصود عادة بـ"قوى الردة" هم أصحاب المصالح والامتيازات والمواقع والسلطان في النظام البائد، وهم أيضا القوى المحافظة في وعيها وتقاليدها وبِنيتها النفسية، وفي قِيمها وأساليب تعاملها وطرائق عيشها.
الذين يطلق عليهم عادة "قوى الردة" هم في الحقيقة شرط من شروط قيام
الثورة واستمرارها، فهم الطرف الآخر في الصراع والتدافع، ووجودهم ضروري حتى تستمر حالة اليقظة، وحتى تظل قوى الثورة مستنفرة متوثبة وفعالة.
"قوى الردة" تلك لا تمثل خطرا حقيقيا طالما ظلت قوى الثورة تشتغل، وطالما ظلت الإرادة حية والأمل في مستقبل أرقى وأنقى متقدا فيّاضا.
2- مخاطر القوى الشعبوية
الخطر الحقيقي يكمن في قوى الفوضى التي تمارس "النفخ الشعبوي"، وتريد رفع سقف الشعارات بما يلامس الأوهام ويفارق الواقع والحقيقة. تلك القوى عادة هي قوى عاجزة عن التأثير الإيجابي في المشهد، وعن صناعة وعي جديد وصورة لمستقبل مختلف؛ يجتذب إليه عموم الناس لينتظموا في حركة أو حزب، وليتحركوا في انتظام وتمدن وفق رؤية واضحة وأهداف محددة، ومسار واثق متزن ورصين، بما يضمن عملية البناء الثوري على أنقاض ما يتهدم باستمرار من مبنى الفساد والطغيان.
جماهير الثورة تتقدم في التاريخ مجهزة بالإرادة والوعي والأمل؛ تقتلع نبتات الشر وتغرس الخير تهدم المعابد القديمة (معابد الاستبداد والاستعباد) وتبتني صروح العدالة ومحاريب التحرر.
إن قوى الثورة هي قوى متمدنة، وهي قوى منتظمة واعية مسؤولة وبنّاءة، وليست مجرد حالات فوران عاطفي أو ردّات فعل غرائزية ثأرية تدميرية. وهي أيضا ليست قوى غنائمية تحركها غرائز التحكم والكسب وشهوات التسلط والاستثراء.
قوى الثورة تلك لن تجد صعوبات كبيرة في التضييق على القوى المحافظة، وفي تعطيل الماكينة القديمة عن الاشتغال بنسقها العادي، ولن تتأخر كثيرا في تحقيق تقدم نحو مستقبل أرقى وأنقى، ونحو مشهد لعلاقات ومعاملات جديدة، ولحياة بين الناس مختلفة وأكثر أمنا مدنيا وأمانا نفسيا.
ولكن الذي سيظل يربك مسار قوى الثورة هم الفوضويون الذين يمارسون "النفخ الشعبوي"، فيُلبسون الحقيقة بالوهم والواقع بالخيال، ويُزينون للعامة المسالك المهلكة ومطبات الخراب.. وإنما يمارس هؤلاء التلبيس على الناس؛ إما عن حسن نية وسوء تقدير، وهم من نعتبرهم "الشعبويين الجدد"؛ لأنهم لا يختلفون عن شعبويي حكومات الاستبداد.. وإما عن تخطيط مُسْبق وتدبير مُتَعَمّدٍ وعملا بقاعدة الأنانيين: إما أن نَعْبُرَ لوحدنا، وإما أن نهْلَك وإياكمْ أو نُهلككم إن استطعنا.
"الشعبويون" هؤلاء فيهم من يعانون عقدة الهزيمة ويخافون الحرية والديمقراطية، فيجتهدون في "إنتاج" الفوضى، لذلك يظلون يمارسون الصراخ والعويل والتشويش، تماما كما التلاميذ الفاشلين؛ يتمنون تعطيل الامتحان بل وحتى إغلاق المؤسسة نهائيا ليكون الجميع في الرسوب سواء، وفيهم من يعانون الكسل الذهني، فلا يخوضون معركة الأفكار والمعاني، ولا يقتحمون مواعيد الفرز السياسي بالاحتكام إلى الإرادة الشعبية، ولا يثقون لا في بعضهم ولا في ما يقولون، ولا يطمعون في مقبولية لدى الجماهير التي يزعمون التحدث باسمها.
أرى أن على النخبة السياسية والفكرية في
تونس أن تُغير وجهة اهتمامها من الحديث عن "قوى الردة"؛ إلى الحديث عن "قوى الفوضى" وعن "الشعبوية الجديدة"، لما بينهما من التقاء مصالح وتشابك أساليب وأفاعيل.
إن المخاطر الكبرى مأتاة التلبيسيين من هؤلاء، وهؤلاء يمارسون النفخ الدائم في بالونات تتقاذفها الرياح وتشد إليها أنظار الناس، فلا يتأملون واقعهم ولا يتحسسون الأرض التي يقفون عليها، فيصرفهم زيف الأوهام عن شرف المهام.
المهزومون لا يريدون أن يلج مسار الثورة ميناء
الانتخابات، كمحطة رئيسية من محطات الشحن الثوري يمارس فيها الشعب إرادته ويختار من يثق بهم ويطمئن إليهم دون وصاية أو إخضاع، وفيها تتضح أحجام الأحزاب والحركات، وتتبين برامجها وبدائلها من خلال خطابها الانتخابي أو نصوصها المقروءة.
و"الشعبويون" لا يمارسون إنتاج الأفكار، ولا يقدمون بدائل ولا يصنعون وعيا، ولا يمارسون النقد ولا يطرحون الأسئلة، إنما، وباسم الثورة، يعتمدون إهاجة العواطف والغرائز، وهم عادة منتجو خطاب كراهية وأحقاد وهم دعاة انتقام وثأر وإقصاء، وهؤلاء يمثلون خطرا على الوحدة الوطنية وعلى النسيج المجتمعي وعلى السلم الأهلي.
3- المسار الديمقراطي مسار العقل والمسؤولية
الانتخابات هي أحد التعبيرات الشعبية عن ممارسة الفعل الثوري، بما هو انخراط في الشأن العام، وبما هو دُربةٌ على التحرر وعلى تحمل المسؤولية والقطع مع التقاليد القديمة؛ في إخضاع الناس وسلب إرادتهم واغتصاب أصواتهم بالترهيب والترغيب والتزوير والتخدير والتغرير. إن إقامة نظام حكم ديمقراطي ينفتح للكفاءات الوطنية ويستفيد من كل المهارات والخبرات، ويستفيد من النقد الشجاع، ويجتهد في تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ويُعطي الجهات المحرومة حظوظها في المشاريع التنموية ومواطن التشغيل وتحسين ظروف عيش سكانها، وحماية الحريات الشخصية والعامة واحترام الإبداع والفنون وأهلها.. كل ذلك من صميم الثورة وروحها وجوهرها إذ لا معنى لثورة تُبقي البلاد على حالة من الغليان والانفلات والفوضى، ولا معنى لثورة إذا لم تؤسس لدولة مدنية تحتكم إلى إرادة الشعب، وتساوي بين المواطنين في مبدأ "المواطنة"، وتقطع مع التقاليد القديمة في الحكم وفي إدارة الشأن العام.
إن الذين يعتقدون في الثورة ويعتزون بكونهم ثوريين هم الذين سيحرصون على تعبئة الجماهير للانتخابات القادمة، وسيعملون من أجل أن تتجاوز تونس دائرة الفوضى وحالة "المؤقت"، وما لها من أثر سلبي على هيبة الدولة ومهابة الحكم، وهم الذين سيعملون على أن يستعيد الناس ثقتهم في العمل السياسي وفي أهمية الاحتكام إلى الصناديق، منعا لكل أساليب الغلبة والانقلاب والاحتراب.
منطق الدولة يقتضي التنظمَ والعملَ وفقَ قوانين وشرائع، ويقتضي احترامَ شروط العيش المشترك، والخضوعَ للإرادة العامة المعبَّر عنها في الانتخابات النزيهة.
ولا تعارض بين منطق الثورة ومنطق الدولة، إذ الأولى مؤدية حتما إلى الثانية، وإلا استحالت فوضى وبدائية، وربما حروبا أهلية ومناطقيةً وغيرها.
أنصار الثورة وهم يتمردون على بقايا الوضع القديم؛ إنما يستشرفون المستقبل، يضربون معه مواعيد يذهبون إليها مجهزين بالإرادة والوعي والشوق.. إنه مستقبل الدولة المدنية المتسعة لكل بناتها وأبنائها، يصنعونها وتصنعهم، يستجيبون إليها وتُصغي إليهم. وإنها الدولة التي تريد أن تكون شريكا مع الآخرين في صناعة عالم متقدم متحضر آمن ومتحرك باتجاه كمالات "الإنسان"، الإنسان المُفرد/ الجمع، المتحد في هويته الإنسانية والمتكامل في وظائفه ومهامه، من أجل بناء الحضارة الإنسانية المتجددة والمتجهة نحو استعادة جنة الأرض؛ بعد أن ضيعها آدم على نفسه وعلى ذريته حين اقترب من شجرة الشرّ.
ومثل هذه المهام التاريخية والحضارية لن يتصدى للقيام بها إلا من كانوا على درجة عالية من المسؤولية والوطنية، ودرجة عميقة من الوعي والفطنة وروحية أخلاقية وهّاجةٍ وإنسانيةٍ... تبدأ هذه المهام بممارسة المقاومة الفكرية والأخلاقية لمشاريع اليأس والبؤس والسخف التي يريد الفارغون إغراق التونسيين، وخاصة الشباب فيها. يريدون زرع الهزيمة النفسية، وتقطيع الوشائج الاجتماعية، وإشاعة الحماقة والخِسّة والجشع في التونسيين.. يريدون تدمير شخصية الفرد حتى يفقد الثقة في نفسه وفي مستقبله وفي من حوله، وحتى لا تكون ثورةٌ ولا يتبدل حالٌ.