إذا كنا سنختار شخصاً واحداً من بين الجيل الذي شهد "الربيع العربي"، ليشهد بحق عن التجربة بحلوها ومرها وآمالها وآلامها وتطلعاتها وإحباطاتها، فسيكون الرئيس الشهيد بإذن الله محمد
مرسي.
وإذا كان المفسرون قد ذكروا في تفسير قوله تعالى في سورة البروج "وشاهد ومشهود" نحو 27 تفسيراً، فلعل من أبرزها أن الشاهد هو كل البشر والخلائق وأن المشهود هو يوم القيامة، الذي سيتجمع فيه هؤلاء ليوم الحساب، ويوم تنكشف الحقائق، ويواجه الله سبحانه، الذي لا تخفى عليه خافية، الناس بأعمالهم. في ذلك اليوم، لعل شهادة مرسي تكون الأوسع والأدق والأشمل حول تلك المرحلة.
الرئيس مرسي رحمه الله شاهدُ المرحلة؛ الذي جاء من وسط الناس وحمل همومهم.
هو شاهدُ المرحلة عن العمل السياسي الحزبي من خلال رئاسته لأكبر حزب في الانتخابات التي تلت ثورة يناير، حيث قاد حزب الحرية والعدالة في أول انتخابات حرة نزيهة منذ عشرات السنوات، للفوز في انتخابات مجلس الشعب بـ47 في المئة من المقاعد، وانتخابات مجلس الشورى بـ58 في المئة من المقاعد.
وهو شاهد المرحلة الذي أصبح أول رئيس في تاريخ
مصر ينتخب في انتخابات حرة، تعبر بشكل حقيقي عن إرادة الشعب المصري.
وهو شاهدُ المرحلة عن صراع الدولة العميقة ضدّ الثورة والإصلاح والتغيير، وعن وسائلها وأساليبها الفجة أو الملتوية لتعطيل مسارات التنمية والتحديث، ولإجهاض الثورة والتخلص من رموزها.
وهو شاهدُ المرحلة عن العسكر وتغولهم على الدولة ومؤسساتها.
وهو شاهدُ المرحلة على الأساليب السياسية والإعلامية القذرة التي لجأ ويلجأ إليها الخصوم لشيطنة قوى التغيير والثورة، وتشويه كل ما هو جميل ونبيل.
وهو شاهدُ المرحلة على قضية فلسطين كأحد أنشط من عمل لها وهو مواطن، وكأحد أفضل من عمل لها وهو رئيس.
وهو شاهدُ المرحلة على القوى الخارجية التي تآمرت على الثورة وعلى النهوض الحضاري لمصر.
وهو شاهدُ المرحلة على حالة الظلم والقهر التي يتعرض لها الأحرار في السجون.
وهو شاهدُ المرحلة على المثقف المصري الذي حصل على أعلى الدرجات العلمية في أرقى الجامعات العالمية، ثم عاد ليخدم أهله ووطنه، راضياً بالقليل، وصابراً على حالات التخلف العلمي والفساد الإداري والتنافس المذموم و"تطفيش" الكفاءات.
* * *
أياً يكن تقييم أداء الرئيس مرسي في السنة "اليتيمة" التي حكم فيها مصر، فإنه الرئيس الوحيد الذي شهدت في عهده الحريات السياسية أفضل حالاتها، حيث قضى تلك السنة دون أن يكون هناك معتقل سياسي واحد. وأمضى فترته دون أن يستخدم الدولة وأدواتها ضد خصومه السياسيين.
واجه مرسي بشجاعة رجالَ نظام مبارك الراسخين في بنية الدولة وسلطاتها، فأصدر إعلاناً دستورياً في بداية عهده أعاد مجلس الشعب للقيام بمهامه، بانتظار إنجاز الدستور وعقد انتخابات جديدة، لكن بُنى الدولة العميقة وخصومه السياسيين الناقمين على فوز الإسلاميين في الانتخابات، احتموا بقرار المحكمة الدستورية (المحسوبة على نظام مبارك) فاضطر للالتزام بالقرار. وأصدر إعلاناً دستورياً آخر في 12 آب/ أغسطس 2012، نجح فيه بالتخلص من المجلس العسكري وهيمنته على الواقع السياسي المصري، واستعاد صلاحيات الرئاسة. وعندما وجد أن الثغرات في مؤسسة الادعاء العام والقضاء تؤدي إلى تبرئة رموز النظام السابق وأعداء ثورة يناير، وأن هناك من يتعمد تعطيل مسار التحول الديموقراطي، أصدر إعلاناً دستورياً في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 أراد من خلاله حماية الثورة، لكن خصومه السياسيين وأعداء الثورة سعوا إلى "شيطنته"؛ فأصدر إعلاناً دستورياً آخر سعى لطمأنة القوى السياسية، دون أن يتنازل عن مسار الإصلاح، تم في إثره إجراء الاستفتاء على الدستور وإقراره شعبياً بأغلبية واسعة.
ومع ذلك، وفي النهاية لم يتحمل أعداؤه وخصومه السياسيون المسار الديمقراطي، ولم يطيقوا الانتظار ولو لبضعة أشهر لعقد انتخابات جديدة كان من الممكن، لو كانوا يمثلون القوى الشعبية الحقيقية، أن يطيحوا من خلالها بـ"
الإخوان" وبالرئيس نفسه؛ ويحافظوا على المسار الديمقراطي. ولكنهم آثروا أن يلجأوا للدبابة، وأن يحتموا بـ"جزمة" العسكر، وأن يحتكموا إلى لغة الاستئصال والتهميش في التعامل مع القوى الإسلامية وقوى التغيير، ليجدوا أنفسهم مرة أخرى في حضن الدولة العميقة، وليجدوا "ثورتهم" على مرسي "حملاً كاذباً" أجهض الثورة وتطلعات الجماهير.
* * *
وأياً يكن أداء مرسي في السنة التي حكم فيها، فإنها السنة الوحيدة التي شهد فيها الإعلام حريات واسعة غير مسبوقة. ولم يتعرض في تاريخ مصر رئيس لحملة تشويه وتضليل شعواء في أثناء حكمه، كما تعرض لها مرسي، ومع ذلك لم يقمع الحريات الإعلامية... بينما استغل أعداء الثورة تلك الحريات لإفراغها من مضمونها وشيطنة رموزها، والإعداد لثورة مضادة.
كانت تهمة "الأخونة" دعاية كاذبة؛ لأن الإخوان كانوا يرغبون فعلاً في الشراكة السياسية، ولأنهم لم يتمكنوا أصلاً من أخذ فرصتهم في قيادة الدولة أو إدارتها، في ظل سعي حثيث من الدولة العميقة لإسقاطهم وإفشالهم. فمثلاً، كان رئيس وزراء حكومة مرسي، هشام قنديل، لم يكن من الإخوان، وكان خمسة فقط من الإخوان وزراء في حكومة قنديل، من بين 35 وزيراً، ولم يتول أي منهم منصباً سيادياً. ومساعدو مرسي الأربعة كان بينهم واحد فقط من الإخوان، والمحافظون الـ27 على محافظات مصر كان من بينهم سبعة فقط من الإخوان، والمجلس القومي لحقوق الإنسان كان بينهم أربعة من الإخوان من أصل 25. وقائمة الخمسين رئيس تحرير ومسؤول من القيادات الصحفية في القطاع الحكومي الذين قام مجلس الشورى بتعيينهم؛ لم يكن يوجد بينهم ولا حتى عضو واحد في جماعة الإخوان.
وعندما قام الانقلاب على مرسي، كانت الحرية الإعلامية هو أول ما تم "ذبحه"، فأغلقت كافة الفضائيات ووسائل الإعلام المحسوبة على الإسلاميين وقوى الثورة والتغيير، واحتكر رجال الانقلاب وسائل الإعلام لتمجيدهم، وشيطنة خصومهم، والتغطية على كافة إجراءاتهم القمعية.
* * *
سيشهد التاريخ أن مرسي وقف وقفة بطولية مع فلسطين وقضيتها قياساً بأي زعيم آخر، فخفف الحصار عن غزة، ووقف إلى جانبها عندما تعرضت للعدوان الصهيوني، وأرسل رئيس وزرائه إليها في أثناء العدوان، ودعم قطاع غزة في فرض شروطه على الاحتلال. وأصبح مرسي كابوساً حقيقياً للمشروع الصهيوني وللأمريكان والقوى الاستعمارية.
كما سيشهد التاريخ أن مرسي وقف إلى جانب الثورات وحركات التغيير في العالم العربي، وهو ما جلب عليه سخط العديد من الأنظمة المتسلطة على رقاب شعوبها.
* * *
كان مرسي ورفاقه يملكون رؤية حقيقية للتغيير، وكانوا جادين في برنامجهم الإصلاحي، وخطوا بعض الخطوات الناجحة في المسار الاقتصادي، فقفز إنتاج القمح مثلاً قفزة هائلة في السنة التي حكم فيها.ولكنهم كانوا يواجهون معوقات هائلة مصطنعة من أجهزة الدولة نفسها، بما في ذلك أزمات الكهرباء والبنزين... وغيرها؛ وهي معوقات لم تكن لديهم أدوات مواجهتها في السنة الأولى، وعندما حاولوا مواجهتها اتُّهموا بـ"الأخونة" والاستئثار بالسلطة وغيرها.
* * *
سيشهد التاريخ أن مرسي كان رجل الموقف ورجل المبدأ، الذي ظل صامداً حتى آخر لحظة من حياته، ولقي ربه وفياً لمصر وشعبها ووفياً لدينه ولأمته، مضحياً بحياته في سبيل حرية وعزة وكرامة ونهضة الشعب المصري، ونهضة الأمة.
* * *
وهكذا، مضى مرسي إلى ربه شاهداً وشهيداً، ليعرض مظلمته في يوم مشهود، لربٍ حكيم عليم، يقضي بالحق، وهو"على كل شيء شهيد".
وأخيراً، فالذين يظنون أنهم ربحوا "المعركة" بإسقاط مرسي وإجهاض ثورة يناير، عليهم أن يدركوا أنها كانت "جولة"، وأنه في سنن الله سبحانه وفي حركة التاريخ، لا بد من موجة قادمة يستعيد فيها الشعب إرادته، وتستعيد فيها الأمة عناصر نهضتها.