في ظل حالة الصراع الحضاري الدائم بين الأمم، وتطور أساليبه من الحروب العسكرية والاحتلال المسبب والتوسعات والأطماع المعروفة تاريخيا، اضطر العالم للجوء لما يسمى بالعولمة والحروب الناعمة التي خاضتها الأنظمة (وما زالت) في دول العالم الأول، بدءا بالولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (سابقا)، والآن أوروبا والصين وبعض دول شرق آسيا، لبسط النفوذ بصورة جديدة وبسبل أقل كلفة وأكثر تأثيرا. وقد استخدم في ذلك الفن والرياضة والأدب والتجارة، والصناعات الخفيفة في مجال الاحتياجات اليومية التي لا غنى للفرد عنها.
وللفن رسالة قد لا يؤديها غيره من الفعاليات، والقيم التي يتحرك بها القائمون على عمليات التغيير بالوسائل التقليدية المعروفة لدى المربين في المساجد والسياسيين بالمحافل والخطباء في المنابر والمعلمين في قاعات الدروس؛ قد تكون أسرع تأثيرا وأكبر عمقا وأصالة إذا قدمت عن طريق عمل فني هادف وموجه.
إذ يحمل الفن قوة ينتشر بها عبر الأثير ليغزو الغرفات الخاصة ويتغلغل في عمق بيوتنا دون استئذان، قوة ناعمة تعتمد في تأثيرها على الإقناع تارة، والتأثير على العاطفة الإنسانية تارة أخرى، وتكرار تلك الرسائل يشكل مجموعة قيم مجتمعية جديدة تساهم في توجيه المجتمع وجهة ما، ليتبنى ثقافة معينة، لتتحول إلى هوية حسب مرور الوقت وتكرار الرسالة.
كذلك الحال مع الرياضة والأدب، فقد نظمت الفعاليات العالمية، وترتبت على نتائج بعض المباريات تغيير سياسات دول تجاه أخرى، وتسبب هزيمة البعض لعداء تاريخي أدى لقطع العلاقات الدبلوماسية والسياسية، فمثلت قوة من نوع آخر في الصراع بين الأمم؛ قوة قد تبدو في ظاهرها مستحدثة، لكنها في الحقيقة قديمة بقدم الزمان، وحملت رسائل معظمها من الأنظمة لشعوبها، ومن الأنظمة لأنظمة أخرى.
الكرة والفن وثوار مصر
وتركزت القوة الناعمة في يد الحكام والأنظمة لتستخدمها تجاه شعوب أخرى وأنظمة أخرى، غير أن الأمر قد انتقل من يد الحكام ليد الشعوب تستخدمها كوسائل ضغط إذا لم تتوفر سبل
الثورة المعروفة للتعبير عن الرفض والغضب، فيلجأ الناس للعصيان المدني تارة، أو السخرية العارمة من النظام، أو مقاطعة سلعة ما.
وتمثل تلك الممارسات السلبية خطورة كبيرة على أي نظام حاكم إذا وجهت بشكل جماعي ومنظم، فهي ثورة سلبية صامتة لا تستطيع الحكومات رصد القائمين بها، على اعتبار أنهم لم يفعلوا ما يحاسبوا عليه، وإنما كل ما قاموا به هو الامتناع عن الفعل. ولا يستطيع جهاز أمني مهما بلغ بطشه أن يحاسب إنسانا لمجرد أنه امتنع عن شراء سلعة، أو امتنع عن التعامل مع وسائل مواصلات عامة، أو لزم بيته في يوم متفق عليه، لكنها وسائل كفيلة بإحداث خسارة كبيرة وهزة لأي نظام.
وفي خضم مباريات
كأس أفريقيا لكرة القدم، التي تقام فعالياتها على أرض مصر، والتي كانت بمنزلة المكافأة لقائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي لقمعه الثورة المصرية ولو إلى حين، وتشجيعا له على المضي في سياسته الخاصة باستئصال الفكر الإسلامي المناهض لفكرة قيام دولة إسرائيل، والرافض لها من الأساس، وقفت الجماهير المصرية وتلتها الجماهير العربية في الدقيقة الثانية والعشرين لتهتف لأبي تريكة، في نفس أسبوع وفاة الرئيس الراحل الدكتور محمد مرسي، وذلك في وجود السيسي نفسه.
وقد يتراءى للبعض أنها مجرد هتافات لمشجعي
كرة القدم، للاعبهم المحبوب والمعتزل منذ سنوات تكريما له، والحقيقة أن تلك الجماهير التي هتفت بحماسة رغم الرقابة الشديدة والتهديدات المسبقة للنظام المصري، في تحد سافر لها، وإعلانا لرفض الأمر الواقع. فهتافها لمن يسمه الإعلام الرسمي بالدولة بالإرهاب، وفي وجود قائد الانقلاب، هو إعلان ثوري من شباب محب للكرة، لا ينتمي في مجمله إلى تيار سياسي ما، ولا لتنظيم بعينه، ولا يحمل أجندات خاصة ليتم اتهامه بها، إنما هو شباب بسيط، ربما كان معظمهم في سن الطفولة حين قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير، إلا أن هتافهم في ذلك التوقيت وتلك الظروف للاعب كرة معتزل ومطارد، هو رسالة قوية وناعمة للنظام بأن الثورة لم تمت، وأن القوة الغاشمة لن تستطيع أن تمنع صوتا يصرخ بالرفض، وأن الدبابة قد تقتل، وقد تستولي على كرسي الحكم، وقد تسكت الشعب لبعض الوقت، لكنها أبدا لن تستطيع أن تسكته كل الوقت، ولن تستطيع أن تكشف عن كراهية في قلوب الناس لهذا النظام ورموزه، ومؤازرة لكل من هو ضده، ولو كان معتزلا، ولو كان مهاجرا ومطاردا.
هزيمة للمنتخب أم هزيمة للسيسي؟
وفي عشية الليلة الأولى لرفع أسعار الوقود بالبلاد للمرة الخامسة في ست سنوات منذ الانقلاب العسكري الغاشم، وفي وقت تنوء به كواهل الشعب بحمل ثقيل من ضيق العيش وضعف الخدمات المقدمة والتضييق على الأرزاق، وانعدام الطبقة المتوسطة، يخرج المنتخب المصري من البطولة الأفريقية بعد أداء سيئ، في ظل حالة من الفرح غير المسبوق لنتيجة مباراة في بطولة بهذا الحجم، حالة من السخرية والشماتة لم تشهدها جماهير الكرة من قبل، وكأن من كان يلعب هو منتخب السيسي وليس منتخب مصر.
وبالفعل، لقد عبرت الجماهير بنفس تلك المفردات عن هزيمة المنتخب؛ بأن النظام هو من تمت هزيمته، وليس مجرد فريق كرة معرّض للكسب والخسارة. كانت أمنية الآلاف من المتابعين للمباراة بالهزيمة، ليس كراهية للمنتخب المصري، وإنما كراهية للنظام الذي تعمد الاستهانة به. هي ثورة سلبية للثورة المكبوتة، التي تتشبع بها الأجواء في مصر تنتظر فقط الشرارة التي تشعل فتيلها فتدمر كل ثوابت الانقلاب في لحطة واحدة.
إن المنتخب المصري لم يكن يواجه نظيرة الجنوب أفريقي على أرض الملعب، وإنما كان النظام هو من يتلاعب بالشعب للتغطية على الخضوع الكبير لصندوق النقد الدولي في رفع الدعم عن الفقراء، وإلغائه بشكل كامل في وقت قريب، كما أعلن رئيس الوزراء نفسه، بتحرير سعر صرف الطاقة حسب السوق العالمي، دون الالتفات لما يتقاضاه الموظف البسيط، وعدم ربط الأجور بمتوسط الدخل العالمي.
ظن النظام أن مباراة كرة قدم قد تنسي الشعب المصائب التي تتوالى عليه كل يوم، من الأداء الاقتصادي الفاشل والتعامل الفاشي، لكن الشعب الذي فرح بهزيمة منتخبه لأول مرة، لم يمت، والثورة تعتمل في النفوس وعبرت آلاف الحسابات على الفيسبوك وتويتر عن ذلك الغضب، بالترحم على الفنان الراحل عزت أبو عوف، لمجرد إدلائه بتصريح عشية الانقلاب بأن نصبر على الرئيس المنتخب ثلاث سنوات أفضل من أن نصبر ثلاثين سنة أخرى، مشيرا لحكم العسكر الذي يصعب التخلص منه إذا تحكم في الأمور بالبلاد، لمجرد موقف إيجابي من فنان وبضعة كلمات نصح بصدق؛ لم ينسها الشعب له، في الوقت الذي أعلن شماتته في مرض إحدى المذيعات التي نالت من موت الرئيس محمد مرسي رحمه الل،ه وشمتت فيه وخاضت فيمن ترحم عليه، وتلك هي القوة الناعمة للفن والرياضة؛ التي أشرت إليها.
إن شعب مصر لم يمت كما يحسب البعض، وليس غبيا كما يحسب النظام، وليس صامتا كما يتهمه الكثيرون. إنه شعب استطاع أن يستخدم أساليب تستخدمها الأنظمة القوية بأجهزتها المخابراتية والعلمية الضخمة في توجيه رسائله للنظام الذي لم يفهمها بعد.
وإن هو إلا وقت قصير وتتحول الثورة السلبية إلي فعل إيجابي، وسوف يكون مفاجئا، وسوف يكون أقوى مما نتخيل جميعا.