تتصاعد نذر الحرب مجددا في الخليج، وتعلو دقات طبولها، مع تصاعد حرب الناقلات والطائرات المسيرة، والتي يبدو أنها تجاوزت الآن مرحلة عض الأصابع واختبار حدود الصبر؛ إلى مرحلة التجهيز العملي للحرب، بإرسال الولايات المتحدة للمئات من جنودها إلى السعودية تعزيزا لقواتها الموجودة في المنطقة من قبل، واستعدادا لساعة صفر قد تأتي في أي لحظة.
مرت الموجة الأولى من لعبة عض الأصابع أو سياسة حافة الهاوية بسلام، وهي المرحلة التي بدأت بانسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، وما تبعه من ردود فعل
إيرانية سياسية أو عملانية، سواء بطريقة واضحة ومباشرة أو بطريقة غامضة وغير مباشرة. ومن ذلك، تخفيض التزاماتها بالاتفاق النووي، والبدء عمليا في زيادة نسبة تخصيب اليوانيوم عن الحدود التي سمح بها الاتفاق الدولي، وكذا ضرب وإصابة ناقلات في ميناء الفجيرة (دون ترك أي أدلة تدين إيران مباشرة، حيث لا زالت التحقيقات مستمرة دون توجيه اتهام لأي طرف، حتى وإن كان أصابع الاتهام أشارت لإيران). ومنها أيضا ضرب منشآت نفط في السعودية، وقيام مليشيات الحوثي بضرب أهداف سعودية مدنية وعسكرية أخرى عبر طائرات مسيرة، ثم كانت الخطوة الأكثر حساسية ودفعا للأمور نحو الحرب؛ هي ضرب إيران لطائرة مسيرة أمريكية ادعت خرقها للمجال الجوي الإيراني، وهو ما ردت عليه واشنطن بضرب طائرة مسيرة إيرانية ادعت تحليقها بمسافة غير آمنة فوق سفينة أمريكية، ثم احتجاز بريطانيا ناقلة إيرانية في مضيق جبل طارق الواقع تحت سيادتها، وهو ما ردت عليه إيران باحتجاز سفينة بريطانية أيضا في مضيق هرمز الذي تعتبره جزءا من مجالها البحري وأمنها القومي.
مع وصول القوات البرية الأمريكية الجديدة إلى السعودية، تكون المنطقة أمام نذر حرب حقيقية هذه المرة، حتى لو كانت في حدودها الدنيا أي عبر توجيه ضربات أمريكية منتقاه لمواقع عسكرية أو نووية أو حتى نفطية إيرانية. وقد كشفت القيادة المركزية الأمريكية بالفعل عن تحضيرها لعمليات تحت مسمى "غارديان"، بدعوى تأمين الطرق البحرية بالتنسيق مع حلفائها العسكريين الآخرين. وليس معروفا كيف سيكون حجم الرد الإيراني الذي سينصرف على الأرجح نحو أهداف هشة، إماراتية او سعودية، قريبة من مرمى النيران الإيرانية التقليدية، لكنها ستتجنب على الأرجح ضرب أهداف أمريكية لإدراكها بمنعة هذه الأهداف حتى لو كانت قريبة منها.
ومع زيادة نذر الحرب، لا يزال هناك احتمال أن ما يجري هو لمزيد من الابتزاز للأموال الخليجية التي ينبغي أن تدفع للحماية الأمريكية. فأمريكا توظف التهديدات الإيرانية لخدمة غرضها الابتزازي، كما أن إيران تحاول توظيف ما يجري بحسبانه انتصارات لها على الأرض، وصمودا في مواجهة أكبر قوة عسكرية، وتمريغا لأنفها بالتراب!!
يحظى الموقف الإيراني المواجه للغطرسة الأمريكية والمهدد للسعودية والإمارات؛ برونق خاص لدى قطاعات من الشعوب والتنظيمات العربية والإسلامية المحبطة، والمستشعرة لمرارة وثقل العدوان على حرياتها وسيادة وثروات أوطانها؛ من قبل هذا الحلف الأمريكي الصهيوني الخليجي. وتسعى إيران لكسب المزيد من التعاطف الشعبي العربي الإسلامي في مواجهتها المحتملة مع ذاك الحلف، ولكن لا إيران ولا المتعاطفين معها يذكرون أو يريدون أن يتذكر الناس أن طهران لم تقل في عدائها لثورات الربيع العربي عن واشنطن، بل هي التي حالت دون انتصار الثورة السورية بوقوفها مع الطاغية بشار الأسد، ومكنته من البقاء في السلطة بعد أن كان على وشك السقوط، وقد احتلت قواتها الأراضي السورية ولا تزال، واقتسمتها مع القوات الروسية. وتتجاهل طهران وأشياعها أنها هي التي أجهضت الثورة اليمنية عبر تحريك وكلائها الحوثيين، وتحت غطائهم احتلت صنعاء والعديد من المدن والمحافظات اليمنية. وقبل ذلك كانت إيران هي التي ساندت الاحتلال الأمريكي للعراق، وشاركته النفوذ على الأراضي العراقية، ولا تزال صاحبة اليد الطولى في توجيه سياساته حتى الآن، ومن قبل كل ذلك، هي التي ساعدت حزب الله في لبنان لاستباحة بيروت، وسلحته ليدعم حكومة بشار أيضا، وليعلن المتحدثون الإيرانيون بكل فخر أنهم يسيطرون الآن على أربع عواصم عربية.
تصف إيران الولايات المتحدة بالشيطان الأكبر، وهذا صحيح، ولكنها تعاونت ولا تزال تتعاون مع هذا الشيطان ضد من يفترض أنهم أشقاء مسلمون في أفغانستان والعراق وسوريا، بل إنها لا تزال تمارس تمييزا ضد بعض أبنائها من الطائفة السنية، ولا تسمح ببناء مسجد سني في طهران، كما لا تسمح لأحد منهم بتولي مناصب عليا في الدولة، رغم أنهم يمثلون ما يقارب 20 في المئة من تعداد السكان. وتدعي إيران أنها رافضة للهيمنة الأجنبية والاحتلال الأجنبي، لكنها تمارس هذا الاحتلال فعلا بحق بعض الأراضي العربية، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وإذا كانت الشعوب العربية والإسلامية ترفض الاحتلال وتقاومه، فإنها لا تقبل استبدال احتلال إيراني باحتلال أمريكي أو إسرائيلي، وإذا كانت حركة حماس تستشعر الحاجة للدعم الإيراني، وتوفد إلى طهران وفدا رسميا رفيعا لطلب ذلك، فإن هذا لا يدفعنا لغفران الخطايا الإيرانية بحق السوريين واليمنيين والعراقيين واللبنانين والأفغان.
جملة المواقف الإيرانية المناهضة لحق شعوبنا العربية والإسلامية في التحرر والاستقلال تمنعنا بشكل عام من التعاطف مع إيران في أزمتها مع الولايت المتحدة، لكن ذلك لا يعني أيضا دعما للموقف الأمريكي ومعه بقية الحلف الخليجي الصهيوني، فهذا الحلف هو الذي قاد بصورة مباشرة الثورات المضادة لوأد الربيع العربي ووأد أحلام شعوبه، وقد تلاقت مصلحة إيران معه في هذه المهمة القذرة التي راح ضحيتها مئآت الآلاف من الشهداء والمصابين والمشردين دفاعا عن الحرية والكرامة. وإذا أرادت إيران دعما شعبيا عربيا إسلاميا، فإن عليها أن تتراجع عن سياساتها التأمرية بحق شعوب المنطقة، وأن توقف دعمها للاستبداد، سواء تمثل في حكومات أو حركات مدعومة منها، وأن تسعى لإحلال السلام الحقيقي في سوريا واليمن والعراق ولبنان، وأن تراجع سياساتها
الطائفية عموما.
من الغريب والمستهجن أن تطلب إيران دعما من الشعوب والحركات الإسلامية وهي لا تزال تناصب ثورات هذه الشعوب العداء، وهو ما ينطبق أيضا على السعودية والإمارات والولايات المتحدة والكيان الصهيوني. وعلى الأرجح ستقف الشعوب متفرجة على الحرب حال اندلاعها، دون تعاطف مع هذا الطرف أو ذاك، فهي معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل.