هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
عندما تولى بوريس جونسون زعامة حزب المحافظين البريطاني ورئاسة الحكومة البريطانية في تموز (يوليو) الماضي، تبارى مقدمو البرامج التلفزيونية الحوارية "الخفيفة" في الولايات المتحدة لإثبات أن هناك أوجه شبه بينه وبين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وإذا استثنينا حقيقة أن كليهما يمثل تيار المحافظين في بلديهما، فلا أوجه شبه بين الرجلين سوى الشكل "المبهدل"، خاصة من حيث لون شعر الراس المتطاير.
بين جونسون وترامب
وفيما عدا ذلك فشتان ما بين الرجلين، فجونسون خريج جامعة أوكسفورد العريقة، وكان نائبا في البرلمان وعمدةً للندن ثم وزيرا للخارجية، أي أنه تدرج في مراقي السلطة، ويملك خبرة طيبة في كيفية عمل آلياتها، بينما ترامب سوقي، بمعنى أنه لا يملك خبرة إلا في شؤون قطاع محدد في السوق (العقارات)، وبمعنى أنه ميال للكلام الفارغ الذي لا يليق بشخصية عامة، دعك من رئيس دولة.
المؤهل الذي أدخل جونسون عالم السياسة ووضعه في دائرة الضوء هو الصحافة، فقد بدأ حياته العملية مراسلا لصحيفة "تايمز"، وانتقل بعدها إلى "دايلي تلغراف" مراسلا لها في بروكسيل، وكان صاحب الصوت الجهير في تعداد مثالب بقاء بلاده في الاتحاد الأوروبي، وها هو يؤكد اليوم وهو رئيس لحكومة بلاده، أنه سيُخْرِجها من الاتحاد الأوروبي ولو بدون صفقة متفق عليها، وكانت آخر محطة صحفية لجونسون مع مجلة "ذا سبيكتيتَر" الأسبوعية.
رافعة لمن يمتهنونها
في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية الراسخة، تكون الصحافة رافعة لمن يمتهنونها، بمعنى أنها تعلي شأنهم في المجتمع، وتجعلهم مؤثرين في تشكيل الرأي العام، وترتقي بالكثيرين منهم إلى المناصب السياسية والتنفيذية، وحتى في بلد مثل أرمينيا، يسعى أهله جاهدين لترسيخ التقاليد الديمقراطية في أمور إدارة شؤون البلاد، يشغل الصحفيون مقاعد عديدة في مجلس الوزراء والبرلمان.
ولكن ما من بلد في العالم يكرم الصحفيين كما بريطانيا، وما ذلك إلا لأن الحريات الصحفية فيها هي الأشد رسوخا، ويفسر هذا لماذا لجأت إليها العديد من الصحف ودور النشر العربية الناشدة لأوكسجين الحرية المهنية، ومن ثم فبريطانيا هي أكثر بلاد الله دفعا للصحفيين إلى دهاليز الحكم والسياسة.
في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية الراسخة، تكون الصحافة رافعة لمن يمتهنونها
حال الصحافة العربية البائس لا يعزى لعدم وجود الصحفي الحر الجسور، بل لكون البيئة السياسية العامة فيما يسمى بالعالم العربي ديكتاتورية شمولية باطشة
الصحفي العربي
وفي المقابل هناك الصحفي العربي الذي ينشأ في ظل نظام قمعي باطش طائش، ويتم ترويضه بالجزرة كي يبقى منافقا ومخاتلا، وإلا فالعصا لمن عصى، وياما أنجبت الصحافة العربية العديد من المدافعين عن الحق والحقيقة وشرف الكلمة، وياما راح كثيرون منهم في غياهب السجون أو المقاصل، وكم من صحفي عربي ارتقى إلى منصب تنفيذي رفيع، وكان مؤهله لذلك رضا السلطة عنه أو محاولتها لاسترضائه حينا قصيرا من الدهر قبل لفظه لفظ النواة (محمد حسنين هيكل نموذجا).
لا تزدهر الصحافة الحرة إلا في مناخ الحريات العامة، وبالتالي فإن حال الصحافة العربية البائس لا يعزى لعدم وجود الصحفي الحر الجسور، بل لكون البيئة السياسية العامة فيما يسمى بالعالم العربي ديكتاتورية شمولية باطشة، لا تسمح لشرفاء الصحافة بالعمل بمقتضيات المهنة، ويحرص المهيمنون على مفاصلها مطية لأهوائهم، ويكافئ الحاكم ابن ماء السماء من يرضى عنهم من الصحفيين بالعطايا، والمغضوب عليهم بالرزايا.
ولهذا صار عالم اليوم يعرف "صحفيين بلا حدود" سوى ضمائرهم المهنية، فيرتفع شأنهم رقيا وظيفيا ومجتمعيا، وصحفيين بلا حقوق يتعرضون للصفع فيتوارون، أو يهربون إلى حيث يمكنهم التنفس والتنفيس بحرية.