في المقالين السابقين (كشف حساب في ذكرى رابعة العدوية)
وضعنا أيدينا على الكثير من نقاط الضعف، غير لائمين أحدا ولا متهمين أحدا لا
بالتقصير ولا بالخيانة، وإن كانت الأولى وسيلة للوقوف على نقاط الضعف والمسؤول
عنه، فالثانية هي شق للصف ولا تخدم إلا النظام. وبعد انتشار مبادرة
المعتقلين وما
تبعها من أخذ ورد، كتبنا مقالا على منصة الجزيرة بعنوان "مبادرة المعتقلين في
سجون النظام
المصري والحل المجتزأ"، كانت خلاصته أن حصر الأزمة المصرية في
أزمة المعتقلين هو تحول عن الهدف وتقزيم للقضية ولفت للجهود عن الهدف الرئيس، وهو
تحرير مصر لا المعتقلين الذي سيأتي بالنتيجة إذا ما تحررت مصر.
ولما كان الحديث عن تحرير مصر قد أخذ منحى غير الذي أخرج
المصريين في يناير 2011، فبات من اللازم إعادة النظر في المسار الثوري والجهود
المبذولة فيه، والقائمين على هذه الجهود، ومدى استيعاب الهدف الحقيقي للثورة
والسبل الممكنة لتحقيق هذا الهدف، ومن أجل صناعة قيادة ثورية واعية تصنع النواة
الأولى للثورة، أو ما يسمى بشريحة البدء والتي يمكنها تحريك الجماهير وصولا
للتغيير المنشود، لكن صناعة هذه الشريحة، ومن ورائها الجماهير الداعمة والمؤيدة،
يلزمها أدوات يمكن طرح بعض منها كخطوة على طريق إعادة مسار
الثورة.
- البداية يجب أن تكون توعوية من خلال وسائل الإعلام،
وفي القلب منها الإعلام البديل المتمثل في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تعمل
الوسيلة الإعلامية على مسارين متوازيين؛ داخلي ويستهدف التوعية والتثوير، وخارجي
يستهدف عرض قضيتنا المشروعة وكشف جرائم النظام، وإحراج الأنظمة الداعمة له أمام
شعوبها.
- الاستفادة من الثوار المتواجدين في الخارج بمد الجسور
بينهم وبين المعارضة في الدول التي يعيشون فيها، لا سيما المؤيدة للنظام في مصر، لتصبح القضية المصرية ورقة ضغط تستفيد بها هذه المعارضة في
مناوراتها مع حكوماتها، وهو ما يصب بالنتيجة في صالح قضيتنا العادلة بعد توظيفها
من خلال تنسيق واع بين من يقودون المشهد وجسور الخارج. وفي هذا السياق يظهر
الاندماج المجتمعي وتأثيره الكبير من خلال موجة الهجرة القسرية التي أحدثها
الانقلاب، ولنا في الإخوة الفلسطينيين مثال يحتذى، فجمعياتهم وأفرادهم يعملون بشكل
دؤوب في توعية الشعوب التي يعيشون في كنفها على توعية تلك الشعوب بقضيتهم. ومن أجل
الاستفادة من ذلك، فعلى الثوار أن يعظموا الاستفادة من الكوادر المتاحة من الشباب
والرجال والنساء، العنصر الأهم في هذه الأداة، لصياغة خطاب موحد، يختلف باختلاف
المجتمع، لكنه يكوّن صورة ذهنية حول القضية. وهنا يجب ألا يقف تكوين تلك الصورة
عند حدود المظلومية والتنكيل، بل تمتد إلى مبادئ التعايش وصولا إلى المصالح
المشتركة مع تلك الشعوب.
- إحدى الأدوات المهمة المستخدمة، والتي تحتاج إلى مزيد
من الجهد الاحترافي من خلال التواصل مع الجهات والمنظمات والأفراد المحترفين من
أجل خدمة القضية، هي أداة الدفاع الحقوقي، وهو ما يستلزم فرق عمل في الداخل مدربة
على الرصد وفرق في الخارج تستطيع التواصل باحترافية لتقديم الملف على الشكل الذي
يمكنه التحرك في أورقة المنظمات الدولية وصولا لإدانات لنظام الانقلاب.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الملف الحقوقي بعد الانقلاب
اتخذ من الرابع عشر من آب/ أغسطس بداية التأريخ لعمله، وهو ما يعني إقصاء
الانتهاكات ضد الثوار قبل هذا التاريخ، وبالنتيجة يضع حاجزا بين من يعمل في هذا
الملف وبين الثورة نفسها، ليتحول الأمر من العمل من أجل ثورة، إلى العمل من أجل
جماعة.
هذه الأدوات تحتاج في النهاية، بل ومن البداية، مشروعا
سياسيا يعمل عليه الجميع، ولا يدفع أحدهم بأن المشروع تأخر لعدم الوصول لحالة
الاصطفاف، وهي حجة لا يمكن قبولها في ظل انهيار الدولة المصرية كل يوم تحت حكم
نظام الانقلاب. يمكن العمل من خلال المتاح، ولا ينكر أحد على أحد مشروعه طالما يصب
في نفس النهر، وصولا لإنبات مشروع ثوري كبير ينهي حالة اغتصاب الوطن، وهو ما يعني
أن تؤهل كوادر، أو يفسح المجال للموجودين لمخاطبة الشعب وصولا لصناعة قيادات ثورية
شعبية، سواء من الداخل أو الخارج. وعليه، فيجب صناعة هذه القيادات صناعة، في ظل وجود
علم في هذا المجال وله مدربون.
وفي هذا الإطار، يجب تدريب شباب الثوار على قيادة الدولة
والاستفادة من الدول الحاضنة في ذلك، حتى لا يقع الثوار في ما وقعوا فيه سابقا.
لذا، فوجود المشروع السياسي يستوجب وجود كوادر لتنفيذه مع وضع رؤية لما بعد زوال
النظام الانقلابي، حتى لا تدخل البلاد في تيه الدستور أولا أم الانتخابات أولا.
وهنا، يجب التنويه إلى أن دول ما بعد الثورات تذهب إلى مراحل انتقالية تكون
الديمقراطية التشاركية فيها هي الحل، وهو ما يعني اتفاقا سياسيا يضع حلولا
اقتصادية مقبولة لخروج البلاد من الأزمة بأسرع ما يكون، ضمانا لثبوت الحاضنة
الشعبية وتمسكها بالثورة، لا سيما في حالتنا التي ستواجه رفضا جماهيريا بعد حالة
الإفشال التي عاشتها الموجة الأولى من الثورة.
ست سنوات ليست كثيرة في عمر الشعوب، كما أنها ليست
بالقليلة، وعلينا أن نتحرك اليوم قبل غد للملمة شتاتنا والإفاقة من الصدمة. ولقد كُتب
الكثير في خطايا الثورة، كما كُتب ما يمكن الخروج به من حلول لتخليص مصر من الأزمة
التي تعيشها، لكن أزمة مصر الحقيقية في الرجال المخلصين الذين صدموا ولم يفيقوا من
صدمتهم حتى الآن، أو الذين يعالجون الصدمة بالمنوم حتى لا يتأذى المريض، في حين أن
العلاج الحقيقي يكمن في مواجهة الحقيقة ومن ثم التعافي، يرونه بعيدا ونراه قريبا.