تحدثنا عن حادثة رجم اليهوديين وماعز والغامدية، وما فيها من إشكالات ونقاشات، وبقيت في حوادث الرجم، قصة أجير
زنى، مع زوجة صاحب العمل، وملخص القصة: أن أجيرا زنى بزوجة من يعمل عنده، وأن والده وزوج المرأة ذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، فحكم بجلد الأجير، وبرجم المرأة إن اعترفت. أما روايات الحادثة فهي:
1 ـ عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقام رجل فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه وكان أفقه منه، فقال: اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، قال: قل، قال: إن ابني كان عسيفا على هذا، فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثم سألت رجالا من أهل العلم فأخبروني: أن على ابني جلد مائة، وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله جل ذِكره: المائة شاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها فاعترفت فرجمها".(1)
وفي رواية: "أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس، فقال: يا رسول الله، اقض بكتاب الله، فقام خصمه فقال: صدق، اقض له يا رسول الله بكتاب الله، إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديت بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم، فزعموا أن ما على ابني جلد مائة وتغريب عام، فقال: "والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله، أما الغنم والوليدة فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وأما أنت يا أنيس، فاغد على امرأة هذا فارجمها" فغدا أنيس فرجمها".(2)
2 ـ عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي هريرة، وزيد بن خالد، أنهما أخبراه: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر، وهو أفقههما: أجل يا رسول الله، فاقض بيننا بكتاب الله، وأذن لي أن أتكلم، قال: "تكلم" قال: إن ابني كان عسيفا على هذا ـ قال مالك: والعسيف: الأجير - فزنى بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم، فأخبروني أن ما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فرد عليك" وجلد ابنه مائة وغربه عاما، وأمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر: "فإن اعترفت فارجمها" فاعترفت فرجمها".(3)
وقفات مع الحديث سندا ومتنا:
وهنا عدة وقفات مع الحديث من حيث سنده ومتنه، كما تناولنا الأحاديث السابقة، فالحديث لم يسلم من الرد من جهة متنه، كما رد الأحناف حديث عبادة بن الصامت الذي يجعل عقوبة غير المحصن الجلد والتغريب، والمحصن: الرجم والجلد، فما زاد عندهم عن الحد ردوه.
وقد رد أبو حنيفة هذا الحديث وأنكره، لأنه اشتمل على التغريب مع الحد، والتغريب زيادة على كتاب الله، والزيادة عنده على النص نسخ، ولا يكون بخبر الواحد.(4)
وبين بعض العلماء: أن شِق التغريب فقط هو المردود عند الأحناف، فقال الملا القاري تعليقا على قوله: (وتغريب عام): هذا عند الشافعي ومن تبعه، ومن لم ير من العلماء كأئمتنا يحمل الأمر فيه على المصلحة، ويقول: ليس التغريب بطريق الحد، بل بطريق المصلحة التي رآها الإمام من السياسة، وقيل: إنه كان في صدر الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة).(5)
تعريف العسيف أو الأجير:
النقطة الثانية من حيث التأمل في متن الحديث، وهي: في تعريف العسيف، فقد اختلفوا في تعريفه اختلافا شديدا، فقيل: هو الأجير قاله مالك وأبو عمر، وقيل: هو العبد والسائل، وقيل: هو الأجير المستهان، والعبد المستهان(6)، وقيل: هو المملوك المستهان(7)، وقيل: كل خادم عسيف، والجمع عسفاء، وفي شرح الموطأ لعبد الملك بن حبيب: العسيف الغلام الذي لم يبلغ الحُلُم.(8)
وقال ابن حجر: وفسره عبد الملك بن حبيب بالغلام الذي لم يحتلم، وإن ثبت ذلك فإطلاقه على صاحب هذه القصة باعتبار حاله في ابتداء الاستئجار.(9)
وقال ابن حجر من الدروس التي من الحديث: وفيه جواز استئجار الحر. وجواز إجارة الأب ولده الصغير لمن يستخدمه إذا احتاج لذلك.(10)
فهنا أمور متعارضة، إذ كيف يحكم النبي صلى الله عليه وسلم على غلام لم يبلغ الحلم بالجلد، أو حتى إقامة أي حد عليه، بل ما هو متعارف عند الفقهاء والعلماء: أن من شروط إقامة الحد: البلوغ، وإلا لو كان صبيا مميزا، يعزر، ولم يقل أحد بأن إقامة حد الزنى على غلام كهذا تعزير.
وزنى المرأة البالغة أو المحصنة، بصبي لم يبلغ الحلم يسقط عنها وعنه الحد، كما قال بذلك الأحناف، ونقل ذلك عنهم الإسمندي فقال: "العاقلة البالغة إذا مكنت نفسها من صبي أو مجنون يفعل بها، لا يجب الحد عليها. والوجه فيه: أن التمكين من زنى الصبي والمجنون لا يساوي التمكين من زنى البالغ والعاقل، فلا يساويه في العقوبة. وإنما قلنا ذلك، لأن تمكين البالغ سبب الحرام، لأن فعل البالغ حرام وقبيح، وتمكين الصبي ليس بسبب للحرام، لأن فعل الصبي والمجنون لا يوصف بالحرمة والتسبيب إلى القبيح قبيح).(11)
كيف عرف الزوج بزنى زوجته؟
ولم تخبرنا الروايات التي وردت عن هذه الحادثة كيف عرف الزوج بزنى زوجته؟ فهل رآها مع العسيف؟ أم جاءته معترفة؟ أم أخبره شخص ما عن زناهما؟ فالذي في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أنيسا ليسأل المرأة: أزنت أم لم تزن؟ وواضح من الحديث: أن الخلاف كان بين والد الأجير وزوج المرأة، فكيف عرف الزوج بزنى المرأة مع الأجير، لعله يكون رآها، وهنا اتهام لها بالزنى، فكان الأولى هنا حد اللعان من الزوج لزوجه، وليس
الحكم بأن يذهب أنيس إليها فإن اعترفت ترجم. وإلا كان معنى هذا أن رجم هذه المرأة كان قبل نزول آية اللعان في سورة النور؟!
والأصل بلا شك، وهو ما انتهى التشريع إليه: أن من يتهمها الزوج بالزنى، يلاعن بينهما، فإما أن تعترف، وإما أن تشهد أربع شهادات، كما قال تعالى: (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين) النور: 9،8. بل لو أنها نكلت عن اللعان، ورفضت أن تلاعن، فلا يقام عليها الحد، عند بعض الفقهاء،(12) وقد احتج أصحاب هذا الرأي بقوله صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي لاعنها زوجها، ووجد في كلامها ريبة: "لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة، في منطقها، وهيئتها، ومن يدخل عليها".
وكان الأولى الستر كما هو معهود في التشريع الإسلامي، وقد فطن الإمام الشوكاني لهذه فقال: (وقد استشكل بعثه صلى الله عليه وسلم إلى المرأة مع أمره لمن أتى الفاحشة بالستر. وأجيب: بأن بعثه صلى الله عليه وسلم إليها لم يكن لأجل إثبات الحد عليها، بل لأنها لما قذفت بالزنى، بعث إليها لتنكر فتطالب بحد القذف، أو تقر بالزنى فيسقط الحد).(13) وجواب الشوكاني غير مقنع، لأن من ترمى بالزنى يرسل لها من يسألها إذا كان من رماها رجل أجنبي عنها، أما الزوج فإذا قذف الزوجة فهنا يكون بينهما اللعان. وهو ما نستشفه من الحادثة أنها قبل آيات اللعان وليس بعدها.
الهوامش:
1 ـ رواه البخاري (2695) و(2724) ومسلم (1697) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1113).
2 ـ رواه البخاري (6835).
2 ـ رواه البخاري (6842).
4 ـ انظر: عارضة الأحوذي على الترمذي لابن العربي (6/207).
5 ـ انظر: من مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للملا القاري (4/59).
6 ـ انظر: القاموس المحيط للفيروزبادي مادة (عسف) ص 772.
7 ـ انظر: لسان العرب لابن منظور مادة: (عسف) (9/206).
8 ـ انظر: عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني (24/5،4).
9 ـ انظر: فتح الباري (12/139).
10 ـ انظر: فتح الباري (12/143).
11 ـ انظر: طريقة الخلاف في
الفقه بين الأئمة الأسلاف للإسمندي ص: 210.
12 ـ انظر: نيل الأوطار (7/131).
13 ـ انظر: نيل الأوطار (5/261).