أثار تزامُنُ الحراك الشعبي أو الانتفاضة الشعبية بين بيروت وبغداد ضد حكومتي البلدين؛ الكثير من علامات الاستفهام والأسئلة حول العلاقة بينهما، وعن دور للقوى الخارجية في إثارة هذه الانتفاضات الشعبية، ومدى صحة أن أحد الأهداف الاساسية لما يجري هو استهداف الدور الإيراني في المنطقة، وأن هناك صراعا بين المرجعية الدينية في النجف الأشرف والمرجعية الدينية والسياسية في إيران..
وقد عزز هذه الأسئلة والاستفهامات الكثيرة سلسلة المواقف والتصريحات التي أطلقها المسؤولون الأمريكيون، وفي مقدمهم وزير الخارجية مارك بومبيو الذي ركز على أن أحد أهم أهداف المنتفضين في البلدين هو استهداف النفوذ الإيراني، سواء كان هذا النفوذ ممثلا بالحشد الشعبي في العراق أو بحزب الله في لبنان.
كما أن التطورات التي شهدتها إيران في الأسابيع الأخيرة، من تحركات شعبية ضد السلطات الإيرانية بسبب رفع أسعار البنزين، عززت المخاوف لدى ما يسمى "محور المقاومة"؛ من أن وراء كل هذه التحركات استهداف هذا المحور بقيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحلفائها في المنطقة، كما لا بد من الإشارة إلى أن ما يشهده لبنان من أوضاع صعبة اقتصادية ومعيشية؛ ترك انعكاسات مباشرة على الأوضاع الاقتصادية في سوريا، مما أدى لتراجع سعر الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي. وربط الكثير من المحللين والخبراء بين ما يجري في لبنان وما شهدته سوريا من وضع اقتصادي صعب.
ما يعزز كل هذه النظرية ما تبناه الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب من نظرية المواجهة للمحور الإيراني عبر الحصار الاقتصادي والعقوبات الاقتصادية
وما يعزز كل هذه النظرية ما تبناه الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب من نظرية المواجهة للمحور الإيراني عبر الحصار الاقتصادي والعقوبات الاقتصادية، وأن هذا هو البديل الصحيح بدل المواجهة العسكرية المباشرة. ولعل ما تشهده دول وقوى هذا المحور من ضغوطات وصراعات قد يثبّت هذه النظرية، ويؤكد أن الأمريكيين نجحوا في نقل الصراع إلى داخل دول المحور الإيراني، وأن نتائج هذه المعركة ستؤدي إلى سقوط هذا المحور واضطرار إيران للعودة إلى طاولة المفاوضات.
لكن مع أهمية هذه النظرية وصحة الكثير من المعطيات التي تربط بين الاستهداف الأمريكي للمحور الإيراني وحلفائه، فإن هناك وجها آخر للمعركة ينبغي التركيز عليه ودراسته بعمق؛ من خلال معرفة الأسباب الحقيقية التي تقف وراء كل هذه الحركات والانتفاضات الشعبية والتي لا يمكن أن تأتي من فراغ أو دون أسباب داخلية مباشرة.
ولن أتطرق إلى ما جرى وما يجري في إيران لأنه قد سبق الحديث عنه في مقال سابق، وهو يحتاج لدراسات مفصلة، ولأن السلطات الإيرانية نجحت حاليا في السيطرة على الوضع في الداخل الإيراني من خلال مواجهة كل التحركات الاعتراضية، سواء من خلال الأجهزة الأمنية والعسكرية أو عبر الحشود الشعبية التي نزلت إلى الشوارع لتأييد النظام.
وأما في لبنان والعراق، فالأزمة مستمرة، وهي تتفاقم رغم استقالة الحكومة في البلدين ورغم كل المساعي والجهود لإنهاء الأزمة، سواء من خلال التحركات السياسية لتشكيل حكومة جديدة، أو الأساليب الأمنية أو الاستعانة بالعشائر والقوى الشعبية المضادة لإحداث توازن مع القوى المنتفضة أو التي تعمل لتخريب الأوضاع بكل الوسائل المتوفرة.
ما يجري في البلدين (وهناك نقاط مشتركة ونقاط خلافية) هو تأكيد على فشل النظام السياسي القائم حاليا، رغم أن النظام في لبنان عمره حوالي المئة عام، أي منذ تأسيس لبنان الكبير عام 1920. وأما النظام العراقي فهو النظام القائم منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وإن كانت بعض جذور الأزمة قد تعود إلى ما قبل ذلك.
نحن أمام فشل كبير لكل التجربة العراقية السياسية والحزبية والاقتصادية التي قامت منذ 2003، ولم يعد بالإمكان السيطرة على الوضع مجددا إلا من خلال إعادة النظر بكل هذه التجربة ومعرفة الأخطاء التي حصلت، والبحث عن نظام سياسي وحزبي واقتصادي جديد. كما أنه لا بد من دراسة طبيعة الأجيال الشبابية الجديدة وأسباب هذه النقمة الكبيرة لديها على كل ما هو قائم، سواء على صعيد السلطات الدينية أو السياسية، وأسباب تحميل إيران مسؤولية ما يجري. ودون هذه الدراسة المعمقة لا يمكن معالجة الأخطاء القائمة أو الخروج من الأزمة.
لا يمكن أبدا أن نفصل بين الداخل والخارج في ما يجري في كل دول المنطقة من صراعات وأحداث، لكن طالما أن الداخل يعاني من المشاكل والصراعات وسوء الإدارة فإن الخارج سيكون حاضرا
وأما في لبنان، فإن المشكلة تكمن أساسا بكل النظام السياسي والاقتصادي الذي ساهم في نشر
الفساد وتعزيز
الطائفية والمذهبية والزبائنية السياسية، وأقام تركيبة سياسية غير قادرة على إدارة البلد بشكل صحيح. وإذا كانت قوى المقاومة قد اضطرت في السنوات الماضية للتعايش مع هذا الواقع الفاسد وغير السليم، سواء بسبب تركيزها على الأخطار الخارجية أو لعدم الغرق في صراعات داخلية، فإنه لم يعد بالإمكان القبول بهذا الواقع، وأصبح من الضروري إجراء مراجعة شاملة لكل هذه التجربة.
وفي الختام، لا يمكن أبدا أن نفصل بين الداخل والخارج في ما يجري في كل دول المنطقة من صراعات وأحداث، لكن طالما أن الداخل يعاني من المشاكل والصراعات وسوء الإدارة فإن الخارج سيكون حاضرا. ولا يمكن مواجهة مشاريع الخارج إلا من خلال رؤية إصلاحية شاملة داخلية، وهذا هو المطلوب اليوم قبل الغد، إن في بيروت أو بغداد أو دمشق أو أية عاصمة عربية أو إسلامية.