مجددا تكشف المقاومة
الفلسطينية عن عملية استخباراتية معقدة، في إطار الحرب الخفية مع أجهزة الأمن والمؤسسة العسكرية
الإسرائيلية، حيث استطاعت استخبارات كتائب القسام الجناح العسكري لحركة
حماس؛ إحباط مخطط من عدة مراحل لاستهداف القدرات الصاروخية للحركة عبرعملية تجنيد واختراق معقدة، تضمنت خطة للتحكم والسيطرة ثم التدمير. وقد أطلقت "القسام" على العملية اسم "سراب" استعرضتها في فيلم توثيقي بثته قناة الميادين الاثنين 18 تشرين الثاني/ نوفمبر.
العملية تم إخراجها من إطار السرية إلى حيز الفضاء بطريقة تشبه
عمليات الجاسوسية العالمية، حيث أظهرت قدرات المقاومة في إطار صراع الأدمغة، من خلال تجنيد عميل مزدوج، وتنفيذ خطة تضليل وخداع امتدت على مدار عامين.
فقد نجحت استخبارات القسام في استغلال حالة النشوة والانتصار لدى القيادة الأمنية الإسرائيلية، لاعتقادها أنها تمكنت من اختراق المنظومة الصاروخية للكتائب.. وهي حالة تشبه إلى حد بعيد شعور القيادة العسكرية للاحتلال بالغرور والثقة الزائدة، لكي تدفع بقوة من النخبة إلى وسط قطاع
غزة لتنفيذ عمليات تستهدف جهاز الاتصالات لكتائب القسام التي تمكنت من إفشالها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، وأطلقت عليها عملية "حد السيف".
ورغم أنها ليست المرة الأولى التي تتمكن فيها المقاومة من ضرب الاحتلال بنفس سلاحه: "العملاء"، إلا أن عملية السراب، أظهرت عمق الفهم لمنظومة الأمن لدى الاحتلال، نتيجة تراكم الخبرات العملياتية والاطلاع على وسائل وأساليب الاحتلال في التجنيد والاختراق. فرغم نجاح الاحتلال إسقاط مئات الفلسطينيين في وحل العمالة، إلا أن المقاومة ومن خلال عملية "السراب" انتقلت من موقع الدفاع إلى الهجوم.
وبعيدا عن المبالغة والتهويل، فإنه ينبغي التذكير دائما بأن المعركة الاستخبارية التي تدور خلف الكواليس، هي معركة غير متكافئة القدرات على الإطلاق، حيث يواجه تنظيم فلسطيني محدود الإمكانيات والخبرات، منظومة استخبارية إسرائيلية، تبلغ ميزانية جهاز الشاباك فيها ثمانية مليارات شيكل سنويا، هذا إلى جانب قدرات غير محدودة لجهاز الاستخبارات التابع للجيش "أمان" وجهاز المخابرات الخارجية "الموساد"، إضافة إلى التعاون الأمني مع أجهزة مخابرات عالمية على رأسها الأمريكية.
ومن الملاحظات اللافتة أن المواجهة الاستخبارية بين الاحتلال والمقاومة انتقلت مؤخرا إلى الشاشات، حيث لجأت المقاومة للاستثمار الإعلامي عبر إخراج بعض عملياتها من الغرفة المغلقة، وسمحت بإعداد فيلمين تم بثهما عبر فضائية الجزيرة والميادين (حد السيف، والسراب)، في المقابل بثت الفضائيات العبرية خلال الشهور الأخيرة سلسلة وثائقيات تناولت أبرز عمليات الاغتيال التي نفذتها ضد قيادات المقاومة الفلسطينية، في إطار الحرب النفسية، وتوجيه رسائل للجبهات الداخلية، وهي مواجهة تكشف عن حجم التحديات والصراع الخفي الذي تخوضه المقاومة الفلسطينية.
ويتضح من خلال متابعة تفاصيل عملية السراب التي تعد أحد أوراق المقاومة السرية وجزءا مما سمح بنشره من أرشيف استخباراتها، أنها رسمت صورة أوسع لمسرح المواجهة، حيث يستعرض الفيلم قدرات المقاومة الاستخبارية، وحجم المعلومات التي تحصل عليها، وخريطة عمل أجهزة أمن الاحتلال خصوصا "الشاباك".
وتعتبر المدة الزمنية الطويلة التي نجح فيها المصدر البشري الذي جندته "المقاومة" لصالحها في تضليل ضباط الشاباك؛ نجاحا استخباريا، وتعكس في المقابل القدرات العالية لدى الطاقم التشغيلي للمقاومة، من خلال الإدارة الذكية لعملية التضليل والخداع.
ومما لا شك فيه أن إخراج تفاصيل العملية للإعلام سيشكل إحراجا لضباط الشاباك أمام العملاء، ويسقط أسطورة الأمن الإسرائيلي الذي يستطيع أن يلعب في أي ساحة كيفما شاء، ويجند من أراد، وفي الوقت نفسه يحافظ على مصادره وعملائه.
أما على الصعيد الفلسطيني والعربي، فإن رسالة عملية السراب تعزز الثقة بقدرات المقاومة في كشف مخططات العدو وخوض صراع الأدمغة رغم التباين الكبير في الإمكانيات، وتهز صورة ضابط الشاباك الذي حاول الاحتلال من خلال دعايته تجسيد شخصية السوبر التي لا تقهر.
كما ترفع العملية من حالة الوعي لدى الجمهور الفلسطيني والعربي بغايات العدو وأساليبه، حيث استطاعت المقاومة وعبر هذه العملية النوعية كسر حاجز الخوف التي تغلغل في العقل العربي، وأثبتت أنه يمكن للعقل الفلسطيني التفوق على العقل الإسرائيلي في معركة صراع الأدمغة، كما تفتح جرأة المصدر الذي نفذ عملية التضليل نافدة أمام العملاء للانتقال من موقع العدو والخيانة إلى جبهة المقاومة والبطولة.
ويبدو أن سراب الاحتلال لن يتوقف عند هذه العملية، حيث تؤكد مصادر المقاومة وتحديدا في كتائب القسام أن في جعبتها المزيد من النجاحات الاستخبارية، وأنها بصدد الاعلان عنها بعد استنفاذ إجراءاتها الأمنية كافة، وأن تبادل الضربات خلف الكواليس على أشده، وجبهة المواجهة الاستخبارية مشتعلة.