كان أمام ناظري، يجري مع الأطفال يلاعبهم "الغماية" أو ما نسميها "الكوروه"، يختبئون منه، جميعا، بإنفعلاتٍ غامرةٍ بالمُتعة والفرح، خلف أشجار "المنجه" و"البرتقال" التي يرفل بها بستاننا الكبير.
اَبتسُمتُ من أعماق قلبي، وقد هيّج لدي ذلك المشهد البهيج أيام الطفولة في هذا البستان الرحيب، الذي يحيط ببيتنا الكبير، البيت الذي استوعبنا يوما ما نحن الإخوة الستة، مع أطفال من قد تزوجوا وأنجبوا.. أقول لأمي، وقد لمحتها في طريقها لأداء صلاة الظهر في غرفتها:
- انظري كيف يزرع إبراهيم السعادة في قلوب أطفالنا!
فتجيبني بتنهيدة طويله:
- إبراهيم؟ وأين إبراهيم؟ وكيف لي أن أرى إبراهيم؟ وا أسفي على إبراهيم.. أشير إلى شجرة البرتقال الأثيرة لديها، والتي تحبُ ثمرتها الحلوة، الوفيرة؛ وفرةً تُتيح لها أن تُهدي الجيران منها.
- هناك خلف شجرتك الحبيبة!
- وأي شجرة بقيت في البستان منذ شُح الماء ياولدي. أجابتني وأكملت طريقها باتجاه سجادة الصلاة.
قلت في نفسي:
- لا بد أنها المياه البيضاء قد أعمتها عن رؤية الأشياء.. على كل حال، لقد وعدها إبراهيم أن يأخذها بسيارته إلى أكبر مستشفيات العيون في العاصمة صنعاء حالما يُنهي هذا الأسبوع جميع التزاماته بنقل بعض البضائع من مدينة "عدن" إلى قريتنا.
وبالرغم من أنه يستطيع أن يأخذها معه في رحلاته إلى عدن أو إلى مدينة "تعز" التي لا تبعد عنا سوى نصف ساعة بالسيارة لإجراء العملية السهلة، إلا أن ما يُلاقيه في عدن من مهانة التفتيش، والابتزاز ودفع الإتاوات، وكذلك في مدينة تعز من أغلب نقاط التفتيش التي تتولى السيطرة عليها قوات متفرقة ومتنوعة في ولاءاتها المناطقية والحزبية ، بل إنه كاد أن يفقد حياته فيها.
- ففي إحدى المرات حينما لم يعطِ إحدى نقاط التفتيش الإتاوة المفروضة، والسبب أنه بالفعل كان لا يمتلك مالا، قام أحد أفرادها بتصويب السلاح في رأسه حين حاول إبراهيم التحرك بالسيارة، لكنه نجا بحياته بوساطة الركاب والمتواجدين.
في هذه اللحظة من التفكير المسترسل دخل إبراهيم إلى المنزل وجلس بجواري.. بدأته الحديث، وسألته عن حياته بعد الزواج الذي لم يمر عليه سوى شهرين، وعن اشتياقه لإنجاب الأطفال. لكنه بدلا من أن يجيب على أسئلتي، قرأ لي رسائل ومواعظ "الجمعة" النصية، التي تعود على كتابتها وإرسالها إلي في كل يوم جمعة، ولكم كانت تعجبني وأنا أقرأها في مهجري في هذا البلد الأوروبي.
وهاهي أمي تنهي صلاتها، ستأتي وتشاهد إبراهيم بنفسها,لكن إبراهيم خرج فجأة إلي البستان ليلبي نداءت الأطفال المُلّحة.
قلت لأمي: ياللحظ كان إبراهيم هنا، وقد عاد الآن إلى البستان، لكنني لا أظنك تقدرين على رؤيته بسبب المياه البيضاء.
وكأنني هيّجت أشجانها، لمعت الدموع من عينيها، وهي تقول متصورةً مشهداً غريبا:
- إبراهيم أخوك حانب في "هيجة العبد"، سيارته تعطلت في أحد المطالع الضيقة الخطيرة، وصاحبه يحاول وضع الحجر خلف العجلات لعله يوقفها..
ثم تقول بقلب حزين ودمعٍ هتون: "يا من رددت يوسف ليعقوب رُد عليّ إبراهيم".
"هيجة العبد" هو الجبل أو المنحدر الشديد الذي يسلكه أخي إبراهيم في طريقه إلى مدينة عدن.
الهيجة، هي من أصعب الطرق وأخطرها، وكان شقه وتعبيده منجزا كبيرا لربط محافظة تعز بلحج وعدن قبل سنين كثيرة.
والهيجة تستدعي هذه الأيام أيضاً دلالة فصيحة أخرى: "تهيّج الأشجان والأحزان"، وذلك بسبب ما يسببه هذا الطريق من أحزان في نفوس الكثيرين، بسبب
حوادث السيارات المتزايدة التي تحدث فيه، بعد أن أصبح الشريان الرئيس لإمداد مدينة تعز، والطريق الوحيد لسيارات المسافرين ونقل البضائع، حتى أنك لتتخيله وأنت تراه من أعلى كسوطٍ ملتوٍ يقرع ظهر الجبل المنتصب كعبدٍ آبقٍ بسبب ظلم سيده، فيستحيل ذلك السوطُ ثعباناً ماكراً يلتقم من في طريقه من العابرين..
على أية حال التسمية قديمة، والعبد الذي تنسب إليه هذه الهيجة كان شخصاً يمتلك مُعظم الأراضي والأطيان في هذا الجبل الشاهق.
وإبراهيم أخي مجبر على سلوك هذا الطريق الخطير بعد أن تم قطع طريق "الحوبان" السريع والواسع والآمن، وبالرغم من أن طوله يبلغ مئة كيلو متر وطول الطريق في هيجة العبد مئة كيلومتر، إلا أن الكيلو الواحد في بعض مناطق الهيجة بمئة كيلو من طريق الحوبان، بسبب النصب والتعب والوعورة التي يمثلها. أحياناً كثيرة، تُبذل الوساطات والمبادرات بين أطراف الحرب الأهلية، لفتح الحصار عن هذا الطريق، إلا أنه وفي كل مرة وقبل أن يحين موعد التوقيع على هذا الاتفاق، تتضارب مصالح الأطراف المتصارعة، وحين يجدون أن المواطن فقط سيستفيد من هذا الاتفاق، يختفون جميعاً في اللحظة الأخيرة.
خرجت إلى البستان، وصلت وقد أقام إبراهيم الأطفال صفا واحدا كعادته في جمعهم وقت الصلاة، وما أن رآني حتى ناداني:
- تعال وصلِّ بنا يا أخي.
- بل أنت، فما أحلى الصلاة خلفك. قال:
- بل أنت، فأنت حي ترزق، فلا تُضيع الوقت.
ضحكتُ، فدائماً ما يسمينا إبراهيم نحن إخوته الذين يعيشون خارج البلاد، ويحمل بعضنا جنسيات هذا البلد أو ذاك، بالأحياء المرزوقين، ويضيف:
"أما نحن فالله يُعيننا على حياة العبودية في
اليمن، الأقرب للموت مع الفساد والحرب، وفوق ذلك لا نستطيع حتى أن نئن من الظلم حتى لا نرمى في المعتقلات، كما هو حاصل مع كثيرين عبّروا عن رأيهم الناقد الرافض، ولو كان هذا الرأي عبارة عن سطر منشور في صفحة فيسبوك.
إبراهيم هو أصغرنا نحن الإخوة الستة الذين أنا خامسهم، وتفصل بيننا أعوامٌ ثلاثة، وكان إبراهيم الأحب بالنسبه لي: البسمة والهدوء والحكمة والمرح وحب مساعدة الناس، كان كذلك في زمن اليسر كما هو اليوم في زمن هذه الحرب والعسرة لا يتوانى عن مساعدة الناس.
على سبيل المثال، ما زال إبراهيم يعير جيرانه إسطوانة الغاز التي تجاوز سعرها العشرة آلاف ريال، بالضبط كما كان يفعل ذلك بالأمس وسعرها لايتجاوز الألف ريال؛ وما زال يوصل بسيارته بعض العابرين في الطريق ممن لا يملكون المال، اليوم، وسعر اللتر أضعاف أضعاف سعره بالأمس..
قبل ذلك كان إبراهيم الفتى المدلل، لذلك لم يكمل دراسته مثلنا نحن الذين تفرقنا في أصقاع المعمورة للدراسة ثم العمل.
كان لا يهتم إلا بملاحقة أحدث أنواع التلفونات والتهافت على الكماليات وتجربة أنواع السيارات، والتجوال بسيارة والدي الكبيرة، وسيارات أصحاب القرية، بل إنه وصل لمرحلة أنه كان يعرف نوع السيارة وصاحبها من صوت محركها من بعيد.. ظل كذلك إلى أن أثرت الحرب في تجارة والدي وأصابها الكساد.
وهنا جلس معه أخي الأكبر، بعد أن قررنا نحن الذين درسنا في دول الشرق والغرب أن نعود للعمل في الدول التي درسنا فيها بسبب ركود أعمالنا أو إفلاس الشركة التي يعمل بها البعض.. واجهه (بقسوة زائدة) بأنه لا يجب أن يستمر في لعب دور الفتى المدلل، وأن عليه تحمل المسؤولية.. كنت أراقب المشهد وأراقب الدمع ينحدر من عيني إبراهيم خجلا من التقريع.
لكنه بعدها أصبح شخصاً آخر، الذي سيستخدم مهاراته الوحيدة (قيادة السيارات) محولاً سيارة الوالد لسيارة أجرة، ثم ليشتري بعدها سيارة نقل، ليصبح هذا الشخص المسؤول الكريم المحبوب من الأطفال والذي يحس بالآخرين أكثر من أي أحد..
عدت بنظري إلى إبراهيم، لكنه قد اختفى تماما ًمن أمام ناظري. نظرت إلى أمي وهي بجوار شباك المنزل وناديتها: هل دخل عندكم إبراهيم؟
ردت: الله يهديك يا ولدي، ما زال إبراهيم في هيجة العبد، وأشارت إلى الجبل بحزنٍ موجع..
أمي دائما ما تبالغ في الخوف على إبراهيم منذ صغره.. أذكر أنها سابقا كانت تمنعه من ركوب الدراجات الهوائية خوفاً عليه، وكانت ترفض أن نشتري له دراجة، أو حتى لي لأنني كنت تقريباً المسؤول عنه عند خروجنا للعب؛ لكنني في إحدى المرات استأجرت دراجة من جارنا "شكيب"، ويا ليتني لم أفعل، فقد سقط إبراهيم عن الدراجة، وأصيب بجروح عديدة في وجهة الذي نزف كثيراً ثم تورم.. وحين عدنا، وما إن رأتنا أمي حتى أصابها الفزع والهلع، وصاحت من صنع بك هذا يا إبراهيم؟
فأجابها (كما علمّته) شكيب أوقعني من فوق الدراجة، فظلت تحضن إبراهيم، وهي تدعو على شكيب، إلى أن اضطررت إلى الإعتراف بالحقيقة خوفاً على شكيب من دعاء أمي.
عدت ببصري في اتجاه أمي، لكن شيئاً غريباً حدث: لقد اختفت واختفى بيتنا، واختفى البستان الكبير.. وفجأةً وجدتني أُطل على "هيجة العبد"، ولا أدري أي قوة خفية حملتني إلى هناك لأرى المشهد كما وصفته أمي بالضبط: إبراهيم في السياره التي ترفض صعود الجبل وتعود إلى الخلف بسرعة، وصاحبه يضع الحجارة تحت العجلات، وبلا فائدة تنقلب السيارة إلى الأسفل.. أنادي ولا يوقف ندائي وصياحي إلا صوت ارتطام شديد في أسفل الوادي، وبقايا أغنية إبراهيم الأثيرة بصوت أبو بكر سالم: اللقاء قد حان..
مد لي يمناك وأطعمني عسل جردان
شوكة الميزان...
كان فيها عطل واضح تعكس الأوزان
الله لطيف الله.. الله لطيف الله..
أنادي: إبرااااااااااهيم.. إبراااااااهيم.
وفجأةً اصحو من نومي في "برلين" على بكاء طفلي المولود الصغير الذي لم يكمل الأسبوع.. "إبراهيم" على اسم أخي المرحوم، الذي ما زالت قصة وفاته المأساوية تلاحقني في صحوي ومنامي، لكنني أحتضن ابني الصغير وأقول وأنا أرى ابتسامة أخي إبراهيم على محياه، متناسياً لوعة وألم فقدانه المفجع :
- سلام عليك يا إبراهيم، بل أنت حي ترزق، بل أنت حيٌ ترزق يا إبراهيم.
انتهت.
[email protected]