هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
حتى بعد مرور خمسة عشر عامًا على تخرُّجي، لا أستطيع إلى الآن أن أقف أمام حالة تورُّم حميد بالغدّة النكفية Parotid Pleomorphic Adenoma – تلك التي تستدعي استئصالاً للفص السطحي من الغدة Superficial Parotidectomy – دون أن تقفز إلى ذهني تلك الجملة عنوان المقال: "توتو زوّغ بدري مع سوسو"!
الحرف الأول في كل كلمة هو الحرف الأول في أحد الأفرُع الخمسة للعصب المُخّي السابع (الوجهي Facial nerve) الذي يمرّ داخل الغدة المذكورة ويتفرع بها، والذي يجسّد البعبع الأهَمّ للجرّاحين في هذه العملية، حيث ينبغي تفاديه هو وفروعه لتجنب إحداث الشلل الوجهي للمريض بعد العملية. هكذا (توتو= temporal – زوَّغ=zygomatic – بدري=buccal – مع=mandibular – سوسو=cervical).
انتشرَ مؤخّرًا على فيسبوك فيديو للأستاذ د.عبد المتعال فودة أستاذ الفارماكولوجي بطبّ المنصورة وهو يشرح لطلَبَتِه الأعراض الجانبية لعقار الأتروپين ويلخّصها في عبارة "زغلولة الناشفة حبست جوزها ابو سريع". وتباينت التعليقات بين المرح الذي لا يلوي على شيء من جِهة، والسخرية العنيفة التي تعتبر طريقة التدريس بمثل هذه العبارات تخلُّفًا تعليميًّا خاصًّا بمنطقتنا من العالم.
وفي رأيي أن هذا الاتّهام يتّسم بكثير من التعجُّل، خاصةً أن فن استخدام مُساعِدات الذاكرة Mnemonics موجود كذلك في غير بقعتنا من العالَم، ويكتسب أشكالاً متباينةً من الطرافة داخل الثقافة الواحدة والحقل المعرفي الواحد.
في حساب المثلثات مثَلاً هناك مساعِدات الذاكرة المستخدمة في حفظ موقف إشارة الدّوالّ المختلفة من الإيجاب والسلب في كل ربع من أرباع الفراغ المقسوم بالمحورَين X & Y. فنحن نعرف أن قِيَم كُلّ الدوالّ موجبة في الربع الأول (All)، بينما قيمة الجيب فقط موجبة في الثاني (Sine)، وفي الثالث قيمة الظِلّ (Tan) وفي الرابع قيمة جيب التمام فقط هي الموجبة (Cosine). أي أنّ الأحرُف الأولى من أسماء الدّوالّ الموجبة القِيمة في الأربعة هي بالترتيب A-S-T-C. ومن العبارات المتعارَف عليها لحفظ هذه القاعدة هناك: All Students Take Calculus – All Silly Tom Cats – All Stations to Central – Add Sugar to Coffee.
وفي هذا المقام لا أنسى أستاذ الرياضيات وهو يلقننا عبارة تقوم بنفس الدور بالعربية ونحن في الأول الثانوي:
"كل جبار ظالم جاته داهية" حيث كلمة (كل) لكل القِيَم، والجيم لقيمة الجيب (جا)، والظاء للظِل (ظا)، والجيم الثانية في (جاته) مع نُطق الكلمة نفسه للتذكرة بجيب التمام (جتا). كما يصعب أن أنسى ضحكتَه وهو يخبرنا بعبارة أخرى تقوم بنفس الدور ويقولها أساتذة الرياضيات في مدارس البنات: "كل جميلة ظريفة جاتها عريس"!
ربما يكون الرد الأول الذي قد يقفز إلى ذهن من يعتقدون في تخلُّف هذه الطريقة أنّ وجود مِثل هذه الأمثلة في ثقافات أكثر تقدُّمًا لا يعني أنها بالضرورة أمرٌ مُرَحَّبٌ به أو ذو مردود إيجابي، وهو رَدّ سليم منطقيًّا، نقع في مغالطة الاحتكام إلى السلطة argumentum ad auctoritatem إذا أصررنا على تجاهله (حيث نعتبر المجتمع الأكثر تقدمًا في التعليم مرجعيةً مُطلقةً بهذه الطريقة). إلا أننا نؤكد هنا على أن المقصود بالفقرة السابقة هو بيان أنّ هذه الطريقة في التعليم غير قاصرة علينا.
*مُساعِدات الذاكرة .. ما حكايتها؟
اسمها في اللغات الأوربية Mnemonics مُشتَقّ من الجذر اليوناني القديم mn?m? الذي يعني التَّذكُّر، ويمُتّ بصِلة قرابة إلى اسم إلهة الذاكرة في الأساطير اليونانية (منيموسينِا Mnemosyne) أُمّ ربّات الفنون التسع مِن زيوس ملِك آلهة الأولِمب، كما أنها من العمالقة Titaness السابقين على الآلهة، وهي كبقية العمالقة ابنةُ زواج السماء (أورانوس) والأرض (جايا). وتخبرنا الموسوعة البريطانية بأنّ مِن عقائد الديانة الأورفية Orphism أنّ الموتى يشربون بمجرّد موتهم من نهرٍ في العالَم السفلي يُسمّى (لِيثِي Lethe) – وهو اسم يعني (النسيان) باليونانية – لينسوا تمامًا حياتهم السابقة فتكمل أرواحهم رحلتها في أجسادٍ أخرى بالتناسُخ، ولذلك كانت الأورفية تقضي على من يدخلونها بأن يبحثوا عن نهر الذِّكرى الذي يحمل نفس اسم الإلهة Mnemosyne ليتذكروا خبراتهم الحيوية السابقة بكاملها ويُحرروا بذلك أرواحَهم مِن رحلة التناسُخ.
وبعيدًا عن الأسطورة، يُنزِل التاريخ أسماء بعينها منزلةً خاصةً في فن الذاكرة، وبين هؤلاء الخطيب الروماني شيشرون (106ق م-43 ق م) ومِن قبلِه الشاعر اليوناني (سيمونيدِس 556 ق م – 468 ق م) الذي يُقالُ إنه اخترع طريقة (قصر الذاكرة Memory Palace) في التذكُّر، وهي طريقة تربط المعلومات الجديدة التي لا رابطَ منطقيًّا بينها بصورةٍ يستقيها الإنسان من بيئته القريبة التي يحفظ خارطتها عن ظهر قلب، فتيسّر بالتالي استظهار المعلومات الجديدة. ومن عصر النهضة هناك (چوردانو برونو) الفيلسوف الإيطالي الذي حكمت عليه محاكم التفتيش بالهرطقة وأُحرِق في روما سنة 1600، حيث بدأ يتناول موضوع فن الذاكرة في مؤلَّفِه (عن ظلال الأفكار De Umbris Idearum) مازجًا بين فنّ الذاكرة والسحر الهرمسي وعلم النفس بحسَب (مارسليو فِتشينو Marsilio Ficino).
والشاهد أنّ كل من يذكرهم التاريخ بهذا الخصوص هم أشخاص قدّسُوا الذكرى بشكلٍ ما أو بآخَر، فلم يكن صنيع التاريخ معهم إلا نوعًا من ردّ الجميل.
* ما يهمنا من مُساعِدات الذاكرة:
بينما تُحصي الدراسات أنواعًا مختلفةً من مُساعِدات الذاكرة، يهمنا في هذا المقال نوعان، هما المُساعِدات الاسمية Name Mnemonics والمُساعِدات التعبيرية Expression Mnemonics.
في الأولى تُجمَع الأحرف الأولى من الكلمات المفتاحية في موضوعٍ ما لنصنع منها اسمًا أو كلمةً واحدة. وهناك مثالٌ معروفٌ للمهتمّين بالنظرية الموسيقية الغربية هو ما يسمّى بدائرة الخامسات الصاعدة، أي دليل علامات الرفع (دييز) في كل سلّم كبير مستقر على إحدى النغمات، وتجمعها كلمة (فدصر لَمَس). وكما نلاحظ، لا تعني الكلمتان شيئًا محددًا، وإن كانت كلمة (لَمَس) –كفِعل- تساعد دارس الموسيقى في تذكُّر الكلمتين معًا. أما إذا عُدنا إلى التعليم الطبّي، فلا أنسى أبدًا مُحاضِرة علم وظائف الأعضاء التي نقلَت إلينا في درس عملي عن أ.د.هاني السباعي - أستاذ الفسيولوجي بطِبّ قصر العيني – كلمةً جمع بها الحروف الأولى للخطوات التي تَصنع بها الصفائحُ الدموية جلطةً مؤقتة لإيقاف النزيف. لقد كانت كلمةً بالنُّطق المصري القاهري، موفَّقة للغاية في التعبير عن العملية الفسيولوجية التي تصفُها: أَرَف ARAF (أي قَرَف)! بهذه الكلمة اختصر التصاق الصفائح بجدار الوعاء الدموي Adhesion ثم إطلاقها محتوياتها Release ثم تجمُّع المزيد منها Aggregation وأخيرًا تكوُّن الجلطة Formation.
أما في طريقة المُساعِدات التعبيرية، فهناك مستوىً بسيطٌ تظهر فيه الحروف الأولى من الكلمات المفتاحية في كلماتٍ مكوِّنةٍ لجُملةٍ ما، كما في (توتو زوغ بدري مع سوسو)، وهناك مستوىً أعقَد، تعبّر فيه كل كلمة في العبارة عن معنى محدد مرتبط بالموضوع المُراد تذكُّره، كما في (زغلولة الناشفة حبست جوزها ابو سريع) حيث تشير (زغلولة) إلى زغللة العينين، و(الناشفة) إلى جفاف عام في الإفرازات الجسدية، و(حبست) إلى احتباس البول، و(ابو سريع) إلى تسارع نبضات القلب، بينما تنتكس مفردة (جوزها) إلى المستوى الأبسط، فلا يوجد رابط بين هذه المفردة والعَرَض الجانبي المُراد تذكُّره (المياه الزرقاء/ ارتفاع ضغط العين Glaucoma) إلا حرف الجيم المصرية.
ومن طريف خبرتي الشخصية بهذه الطريقة كذلك عبارتان أذكرهما من الصف الثالث الإعدادي، اقترحهما أستاذان لمادة العُلوم، كلتاهما تحاول تسهيل تذكُّر ترتيب عناصر المتسلسِلة الكهروكيمائية ترتيبًا تنازُليًّا تبعًا لنشاطها. إحدى العبارتين "بُصّ كام أخ حُرّ هَيِنزَفّ بِلا ذهب"، وفيها يقوم حرفا كلمة (بُصّ) مقام البوتاسيوم والصوديوم، و(كام) مقام الكالسيوم والمغنسيوم، وهكذا. ومن الواضح أنها عبارة تؤدي معنىً مفيدًا يقرّبها من التذكُّر. أما العبارة الأخرى فكانت "بوص بكا مغلوم خحريد نحز فِبلاذ"! امتازت الثانية بإشارة بعض حروفها إلى عناصر أسقَطَتها العبارة الأولى، فباء كلمة (بكا) تشر إلى عنصر الباريوم الأنشط من الكالسيوم والأقل نشاطًا من الصوديوم، والذي تجاهَلَته العبارة الأولى. لكنها بالتأكيد لا تفيد أي معنىً على الإطلاق! لكن ربما لولَع شخصي بما هو غريب، فضَّلت العبارة الثانية التي تبدو كطلاسم الأحجِبَة، وربما لا أتورّع عن استخدامها إلى الآن كـ(حالة Status) تصف ما أشعر به في برنامج واتس آب! والشاهد أنّ سِماتٍ شخصيةً معينةً يمكن أن تؤثر في تفضيل الدارس لإحدى مُساعِدات الذاكرة على غيرها!
* أي المعارف تحتاجها؟
تخبرنا الأمثلة السابقة أن مساعدات الذاكرة يمكنها أن تخترق الممارسة التعليمية لكل المعارف تقريبًا، فمثال حساب المثلثات يندرج ضمن العلوم الصورية Formal Sciences المبنية على الاستنباط العقلي بشكل أساسي، والتي تهتم بدراسة النظُم الرمزية Symbolic Systems. بينما الأمثلة الطبّية تنتمي إلى العلوم الطبيعية المبنية على الملاحظة والتجريب.
وعند هذه النقطة يثور سؤال: إذا كانت العلوم الطبيعية معذورة في لجوئها إلى مساعِدات الذاكرة لتسهيل حفظ موضوعاتها التي لا رابط بينها إلا وجودها معًا بالصورة التي لوحِظَت عليها في الطبيعة، فما عُذر العلوم الصورية المبنية على عمليات التفكير العليا؟ ألا تقتل مساعِدات الذاكرة الداعية إلى التلقين والحفظ ملَكات التفكير العليا أو تعطلها على أقلّ تقدير؟
والحق أن الإجابة عن هذا السؤال تقتضينا التدقيق في بعض التفاصيل. في الأمثلة الطبية المذكورة لدينا مثالان من علم وظائف الأعضاء والفارماكولوجي (أرَف وزغلولة الناشفة) ومثال من التشريح (توتو زوّغ). في التشريح لا يوجد منطق واضح بذاته self-evident في تسمية الأبنية المختلفة، فقد كان يمكن أن يتفق علماء التشريح على تسمية فروع العصب السابع أسماء مختلفة تماما. ولا يقتصر الأمر في الحقيقة على الأسماء – التي هي مُنتَج بشري في الأساس – وإنما يتخطاها إلى الحقائق التشريحية نفسها، فمسار العصب السابع مثلاً من جذع المخ إلى الأماكن التي تنتهي إليها فروعه، هذا المسار يمثل حقيقة قررتها الملاحظة المتكررة، وكل التفسيرات التي يعطيها أساتذة التشريح لهذا المسار لا تعدو كونَها تخمينات وتأملات تحتمل الصواب والخطأ، تمامًا كمحاولات تأويل النصوص المقدسة.
وليس الأمر بهذا الاستغلاق في وظائف الأعضاء، فهناك بعض المنطق الذي يخلق سرديةً أو حكايةً مترابطة الأركان مبنيًّا لاحقُها على سابقِها، وإن كان يئول في أساسه إلى معلوماتٍ صمّاء كمعلومات التشريح. ففي مثال (أَرَف ARAF) تترتب الخطوة اللاحقة على ما قبلها، إلى أن نصل إلى معلومة يصعب ردُّها إلى المنطق وتستلزم في حفظها إلمامًا بأساسٍ أصمّ مستعصٍ على المنطق كالتشريح، وهذا الأساس في حكاية تكوين الجلطة مثلاً هو طبيعة العوامل الموجودة داخل الصفائح الدموية وتلك الموجودة على جدران الوعاء الدموي المصاب. وتلحق الدوائيات (الفارماكولوجي) بوظائف الأعضاء، ففي مثال (زغلولة الناشفة) يستطيع الدارس استنتاج الأعراض الجانبية للأتروپين من محض معرفته بالأثر الدوائي له، لكننا هنا أيضًا نصل إلى معلومةٍ لا تُرَدّ إلى المنطق، وهي توزيع مستقبِلات الأتروپين في أعضاء الجسم ودور كلٍّ منها في مكانه.
أما إذا قفزنا إلى مثال (كل جبار ظالم جاته داهية) من حساب المثلثات، فسنجد المسألة أكثر ارتباطًا بالتفكير المجرّد والاستنباط بالتحديد. فما مبرر استخدام مساعِدات الذاكرة؟!
الإجابة تُعيدُنا إلى الديانة الأورفية وعقائدها المذكورة آنِفا. على من يعتنق الأورفية حقًّا أن يبحث عن نهر الذكرى ليحرر روحه من التناسخ والبدء من جديد. كذلك على طالب الرياضيات أن يتذكر النتائج التي أثبتها أسلافُه منذ أقدم العصور ليتحرر من ضرورة البدء من جديد في كل مرّةٍ يواجه فيها مسألة رياضية. على تاريخ الرياضيات أن يحوّل الجهد العقلي الذي بذله القدماء إلى صفحات مطوية في كتاب الرياضيات الأبدي، ويحول النتائج التي توصلوا إليها بشِقّ الأنفُس إلى مسلّمات ليستطيع من هم على قيد الحياة أن ينطلقوا إلى آفاق جديدة بأن يبنوا على ما سلف.
لكنّ هذه العملية الضرورية ليست قدَرًا محتومًا كذلك، فالتطبيقات العملية للرياضيات تقتضي الاعتراف بالمسلّمات وتطلُب ممن يعملون بها ألا ينشغلوا بما تمّ إثباتُه وقُتِل بحثا. لكن بالنسبة للعقول الشغوفة بالبحث لا يوجد شيءٌ قُتِل بحثًا، فكل المسلّمات قابلة للمساءلة والمراجعة. لذلك تمرّ بنا مثلاً مرورَ الكِرام حقيقة وجود الأعداد الأولية Prime Numbers ونفاجأ بوجود تخمينات وتساؤلات عديدةٍ أثارتها العقول المخلصة للرياضيات بشأن هذه الأعداد وتوزيعها على خط الأعداد الطبيعية.
إنّ مدلول الآية القرآنية "وذَكِّر فإنّ الذكرى تنفَعُ المؤمنين" لَينبسط خارج إطار الإيمان الديني ليعني أن تذكُّر أي شيءٍ باعتباره مسلّمةً أو أمرًا مفروغًا منه هو أمرٌ نافعٌ لكل مؤمنٍ بصواب ما قاله أسلافُه في موضوعٍ معين، والنفع هنا يعني توفير الجهد لمواصلة الحياة. ومن غريب الصُّدَف أن تتجاوب هذه الآية إلى هذا الحدّ مع العقيدة الأورفية. ربما أراد القرآن للمؤمنين به في مستوىً رُوحيٍّ معيَّنٍ ما أرادته الأورفية للمؤمنين بها: أن يتحرروا من ضرورة خوض الرحلة من أولِها بتذكُّر مسلّماتٍ لا تحتمل النقاش.
* ختام – مهرب مهم من السأم:
أولئك الذين ارتبطت أسماؤهم بفنون الذاكرة وآباؤها المؤسسون - كشيشرون وسيمونيدس وبرونو – كانوا في الحقيقة يمارسون في حياتهم نوعًا من فن الهروب Escapology، فكما يحترف فنانو الهروب الإفلاتَ من القيود الحديدية والصناديق المغلقة والأقفاص المُحكَمة وما إليها، أفلت شيشرون من أعبائه السياسية بخُطَبه البليغة وقصور ذاكرته الخيالية (رغم توظيفِه لها في النهوض بهذه الأعباء بالطبع)، وأفلت سيمونيدس من واقعه بقصائده – شأنه شأن كل شاعر – كما يذكر التاريخ عنه إلى جانب ذلك إفلاتَه مرتين من موتٍ مُحَقَّق، وأخيرًا أفلت چوردانو برونو من قبضة العقيدة الدينية الراسخة واتَبع ما يؤديه إليه عقله وإن انتهى ذلك بإحراقه.
ومثلهم يشعر اليوم طالب الطب الذي عليه أن يقرأ ويعيد قراءة آلاف الصفحات في علوم مختلفة - مستعصية على المنطق في جزءٍ منها على الأقلّ - حتى يحفظها عن ظهر قلب، فتمثل له جملة مثل (توتو زوّغ بدري مع سوسو) أو (زغلولة الناشفة حبست جوزها ابو سريع) مهربًا مؤقتًا يستنشق فيه الهواء ويبتسم ليعود من جديد إلى دفن رأسه في الكتب. هذا بالطبع فضلاً عن وظيفة مثل هذه العبارات كتذكارات حقيقية تُعينُه على أداء مهمته الشاقّة.
فهل نستكثر عليه هذا الهروب المؤقت من السأم؟