هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تسع سنوات مرت على ثورة 25 يناير، تسع سنوات كافية للوقوف مليا عند هذه اللحظة التاريخية التي مرت على شعب لم يثر منذ 1919، وهو أمر ليس مستغربا. فالشعوب لا تثور كل عام، والثورة هي أرقى وأنبل فعل بشري عرفه علم الاجتماع، ذلك لأن الثورة طالما كانت على ظلم، ومن ثم فالحراك الثوري يسبقه تحليل وتحقيق لأسباب الاحتقان وتأصيل لدوافع الثورة وتخطيط لمسارها وتأصيل لأهدافها.
ولما كانت الثورات على النظام، والذي بحكم الطبيعة يمتلك القوة سواء الخشنة المتمثلة في السلاح، أو الناعمة المتمثلة في التحكم في أرزاق الناس، يعطي من يشاء، ويمنع عن من يشاء، ويرفع من يشاء، ويسجن ويذل من يشاء، ويتحول في هذا الحال بتحول المستهدف، وبحسب المآل، فإن الثوار هم أنبل البشر لعلمهم المسبق بالسحق والقمع والمنع الذي سيصيبهم جراء فعل الثورة..
الثوار أنبل البشر لأنهم يحلمون بالأفضل ولو أنهم لن يعيشوه، ويسعون نحو الفضيلة في أزمنة الفساد والإفساد، ويضحون بأموالهم وأنفسهم لتكون كلمة الحق هي العليا..
"عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية" هي ملخص مطالب ثورة رأت في إذلال شعب وسرقة مقدراته خطيئة على من اقترفها أن يتوب، وتوبته العزل والتكفير عما اقترف؛ في غياهب السجن الذي غيب فيه خيرة عقول هذا الشعب، وأنظفها وأطهرها.
لقد عزم ثوار يناير أن يحدثوا الفرق فأحدثوه، ودشنوا حركة التغيير في العالم العربي، وهو ما شكل سياسة العالم أجمع في فترة ما بعد 2011. فإن كانت ثورة تونس صاحبة السبق، فإن ثورة يناير هي ما دفعت لإحداث التغيير في العالم بأسره. فيناير هي التي وضعت نهاية لصيغ وأشكال الحكم التي وضعها الاستعمار منذ مطلع القرن العشرين.. ثورة يناير هي التي أرجعت القيم الحاكمة التي تتنازع عليها الشعوب وستظل خلال القرن الحالي.
خيارات الأنظمة الآن ومن ورائها دول الاستعمار القديم تتمحور في إفقاد المجتمعات المنظومة القيمية، سواء بالقمع أو بالإعلام والإشاعات وإفشاء الرذائل والنخر في صلب المجتمع لقتل نخوته بالفساد.
تسع سنوات ليست بالمدة الطويلة للحكم على ثورتنا، فهي في طور النمو والنضوج وتصحيح الأخطاء، ولا يجب السماع للمرجفين الذين يهونون من الفعل المجتمعي في 25 كانون الثاني/ يناير 2011، واصفين إياه بأنه ليس ثورة، وهم في ذلك ما بين حاقد أو كاره أو عميل. فالمجتمعات المتحضرة تعرف المعنى الحقيقي للحراك الثوري والمطالب الشعبية التي يتحرك من أجلها الملايين.
لقد مرت الثورة الفرنسية بمراحل كثيرة من النهوض والسقوط والتضحية والخيانة والإخفاقات والنجاحات، لكنها في النهاية تصنف من قبل من يهونون من ثورتنا بأنها أعظم ثورة عرفتها البشرية.
المطلوب الآن هو الاستفادة من التاريخ، لا الوقوف عنده أو البكاء عليه، أو المقارنة أو الشماتة، أو حتى جلد الذات، بل لتصحيح الأخطاء والانطلاق من حيث انتهينا. المطلوب الآن هو الاصطفاف بين كل مكونات الوطن، وعلى كل المكونات أن لا تنظر لمصالحها الخاصة بقدر ما تنظر لمصالح الوطن الجامعة. ولا يكون ذلك إلا بتبني خطاب جامع يعلي من الخطاب الوطني، ويضع الخطوات اللازمة لإنقاذ الشعب من مصيره المحتوم الذي ينتظره، في ظل سياسات خرقاء على كل المستويات، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلاقات الخارجية، وقبل كل ذلك المأساة التي ينتظرها الشعب والمتمثلة في ملء خزان سد النهضة وما سيترتب عليه من جفاف ومجاعة مؤكدة.
لا أرى في دعوات الاصطفاف حتى الآن ما يحقق الاسم المطلق والهدف المرجو، فلا تزال المعارضة تخاطب نفسها، ولم تستفد حتى الآن من الحالة التي وصل إليها الشعب من احتقان، ذلك لأن الشعب نفسه حتى الآن لم يجد من تلك المعارضة ما يثق فيه، لا سيما وأن الوجوه المتصدرة يتم حرقها كل يوم من قبل النظام، وهو ما يرسخ عم الثقة في ظل فشل أو حتى إفشال تلك الوجوه من قبل النظام العالمي، فالنتيجة عند المواطن واحدة، فهو في ذلك لا يفرق كثيرا.
لذلك فالواجب هو الدفع بكوادر ثورية جديدة تمتلك الوعي اللازم والحنكة والمعرفة لضخ دم جديد في شرايين الثورة بأفكار إبداعية، وتكون غير مأزومة بأزمات الماضي وخلافاته الشخصية التي للأسف تحدد مسارات العمل الثوري، ومن ثم خلق مسارات جديدة وموثوقة لصناعة حاضنة شعبية تحمل الثورة من جديد. وهذا يعني بالضرورة إيجاد سبل معرفية ومادية لتحصن الثورة وحاضنتها الشعبية من الغلو والإسراف، مع توطين فهم صحيح لمعنى الثورة وتعاملها مع مخالفيها ومناهضيها. وهذا ما يستوجب تحصين الثورة والثوار وحاضنيهم ضد العوامل الخارجية والفاعلين منهم، على المستويات التنظيمية أو التخطيطية أو التمويلية، فإذا ما استتبت هذه الأمور بقي على القيادة الجديدة اختيار التوقيت الأمثل لانطلاق شرارة الثورة، فهذا التوقيت تحكمه العوامل الداخلية والخارجية.
سئل أحد المفكرين الصينيين، عن الثورة الصينية بعد مرور خمسين عاما على اندلاعها، فقال: إنه من المبكر الحكم على ثورة ما زالت تخطو خطواتها الأولى.