قضايا وآراء

حراك الجزائر بعد عام.. وماذا بعد؟

امحمد مالكي
1300x600
1300x600
انقضى عامٌ كامل على انطلاق حراك الجزائر (22 شباط/ فبراير 2019 – 22 شباط/ فبراير 2020)، ظل المتظاهرون خلاله مواظبين على الخروج إلى شوارع العاصمة والفضاءات العمومية في مدن جزائرية كثيرة، رافعين الشعارات ذاتها، ومطالبين بتغيير رموز النخبة التي حكمت البلاد لعقود، وأوصلت أحوالَ عموم الجزائريين إلى ما وصلت إليه. وعلى الرغم من الخطوات التي أقدمت عليها المؤسسة العسكرية، حين أقالت مسؤولين من بطانة الرئيس المخلوع (بوتفليقة)، وأودعت الكثير منهم في أقبية السجن، وأصدر القضاء في حقهم أحكاماً، وبالرغم من إجراء انتخابات رئاسية، قيل عنها أنها تنافسية، وأنها ستفتح أفقاً سياسياً جديداً للبلاد، فقد ظل الشارع بكل زخمه معترضاً عليها، رافضاً لنتائجها، ومستمراً في المطالبة برحيل جميع رموز النظام، وفسح المجال لانتقال ديمقراطي، حر ونزيه، يُعيد بناء شرعية الدولة والسلطة على أسس سياسية وفكرية نوعية جديدة.

ففي الحقيقة، يقدّمُ الحراك الجزائري، بعد مرور سنة على انطلاقه، حالةً استثنائية في خريطة أشكال الحراك التي شهدتها، وما زالت تشهدها، العديد من المجتمعات. فمن جهة، يتميز بطول نَفسه، وتماسُك صفوف أنصاره وصلابة إراداتهم، وسلمية وسائله، وقوة شعاراته، وعمق مطالبه. وهو، من جهة ثانية، مطبوعٌ بدرجة عالية من الجرأة، والشجاعة والاستماتة، في النظر إلى المستقبل ورسم صورة عن خطواته بنائه. وإذا كان هناك من درس أو دروس مستفادة من الحراك الجزائري بعد انصرام سنة على اندلاعه، فيمكن التأكيد، دون تردد، أن الحراك حرّرَ الإنسان الجزائري من عُقدة الخوف بالجهر بما يعتمل بداخله، أو يودُّ المطالبة به، أو التطلع إلى تحقيقه، لنتذكر أن التظاهر في الفضاء العمومي، ظل شبه محظور في الجزائر منذ العام 2001، أي بعد سنتين من العُهدة الأولى للرئيس بوتفليقة، وقد ظل الخطاب الرسمي حاملا سيف سنوات "العُشرية السوداء" (1990-1999)، مُهدداً الجزائريين بالعودة إلى مآسيها، إن هُم أقدموا على فتح بلادهم على موجات الحراك والتظاهر. بل إن الخطاب الرسمي ذاته كثيرا ما دافع عن أن الجزائر كانت السباقة لمعرفة ظاهرة الحراك قبل البلاد العربية منذ غضب خريف 1988، وأنها عاشت فصولاً قاسيةً من العنف والعنف المضاد، فُقد من جرائه آلاف المواطنين، أغلبهم من المواطنين الأبرياء.

أعلنَ الرئيس الجزائري المنتخب "عبد المجيد تبّون" يوم انطلاق الحراك، أي 22 شباط/ فبراير من كل سنة، "يوماً وطنياً للأخوة والتلاحم". وقد صرّح في هذه المناسبة أن "الحراك أنقد البلاد مما كان البعض يريد إدخال الجزائر إليها"، مستشهداً بما حصل في سوريا من دمار وتدمير، وتفكيك للبلاد وتشتيت لأبنائها. فهل يروم خطابه التأكيد على الانسجام الحاصل بين مكونات الحراك ومؤسسات الدولة، بما فيها مؤسسة الرئاسة، وهو الذي لم تتجاوز نسبة المشاركين في انتخابه عتبة الأربعين في المئة، وما زالت شرعيته الانتخابية موضوع اعتراض الحراك ورفض أنصاره؟

يتفق العديد من الباحثين، والمتابعين للشأن الداخلي الجزائري، على أن كل ما حصل في الجزائر منذ انطلاق الحراك، لم يمس بعد "الكتلة الصلبة" المتحكمة في النظام الجزائري، وأن المسؤولين الذين قُدموا وقوداً بقصد التسويق لوجود إصلاحات حقيقية في رأس النظام، لا يعدون أن يكونوا مجرد "ذرّ الرماد في العيون"، لإبقاء الحال على ما هو عليه، والاستنكاف عن فتح الطريق أمام تغيير حقيقي في الجزائر. وإذا كان هذا التحليل سليما، والحال أن يبدو مقنعا، فإلى أين سيؤول حال الحراك؟ وكيف ستتطور علاقة الدولة، بمؤسساتها العسكرية والسياسية، مع المجتمع وحركاته الاحتجاجية؟

لا يبدو أن هناك مشهداً واحداً ووحيداً ستؤول إليه أوضاع الجزائر، فلا الدولة ستستمر في اعتماد أسلوب الالتفاف، وتجنب الحلول الشجاعة والمؤلمة، ولا الحراك سيقدر على البقاء مستمراً في التظاهر إلى ما لا نهاية. لا بد إذن من نهاية، لا يمكن للمتابع إلا أن يتمناها سعيدة للجزائر والجزائريين عامة.

فمن جهة الدولة ومؤسساتها، ثمة مواقع نفوذ مترسخة وقوية جدا، ولا يبدو أن من السهولة حلحلتها، أو تقليم أظافرها، فوجودها يمتد إلى بداية الاستقلال وبناء الدولة الوطنية، والأكثر من كل هذا أنها تمكنت من الإمساك بعصب الدولة ومفاصلها، إلى حد التماهي معها. وقد سمح هذا التطور لهذه الكتلة الصلبة من مراكمة الامتيازات على مدار أكثر من خمسة عقود، لا سيما وأن الدولة الجزائرية من الأقطار المنتجة للنفط، ولها إيرادات بالغة الأهمية من هذه الثروة الوطنية. لذلك، وبحكم وجود مصالح كبيرة وقوية جدا، سيكون من الصعوبة التنازل الطوعي والإرادي عن المصالح، بل من الطبيعي أن تكون مقاومات وردود فعل رافضة لأي تغيير ينحو منحى تفكيك هذه الكتلة الصلبة، ونزع امتيازاتها.

ومن جهة الحراك، قد يُصاب بالوهن مع طول الزمن، ولعل هذا ما راهنت عليه المؤسسة العسكرية، وتراهن عليه اليوم النخبة السياسية المنتسبة إلى النظام القديم، كما قد يدبّ الاختلاف بداخل مكوناته لأسباب موضوعية وذاتية، أو قد يفقد الحراك مع طول الوقت الأمل في التغيير، كما حصل لكثير من حركات الاحتجاج في العالم، فيخبو بريقها. أما المشهد الأمثل فهو أن يبقى الحراك حياً ومستمراً، ومحافظا على تماسكه إلى أن يبلغ مقاصده.

لا يبدو مشهد الانعطاف نحو العنف واعتماد القوة وارداً في تطور ما يحدث في الجزائر، لأن ثمة وعياً اجماعياً بخطورته على الجزائر دولة ومجتمعا. وبين مشهدي استمرار الحراك ومقاومة مؤسسات الدولة للتغيير، قد يحدث تطور وسط ينتصر فيه منطق "رابح رابح"، تجد أطراف الكتلة الصلبة مخرجا ما لها، ويقبل الحراك بالحد الأدنى المطلوب مما يتطلع إليه، على أساس البناء على نتائجه للانتقال إلى وضع انتقالي أكثر وضوحاً وعمقا.
التعليقات (0)