هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يُشار إلى إسخيلوس (525- 456 ق.م) بأبي التراجيديا. وذلك أنه كما يُجمع دارسو الكلاسيكيات هو مَن طوّر العرض المسرحي، فكان أول من أدخل الممثل الثاني إلى العرض المسرحي بحيث يخلق حوارًا حقيقيًّا وبذرةً للصراع، وذلك بعد أن وضع سلَفُه (ثسبيس Thespis) بذرة التراجيديا بأن انفصل عن كورَس مُنشِدي الترانيم الصافية (الدثيرامبوس Dithyrambos) الموجَّهة إلى (ديونيزوس) إله الخمر والخصب عند الإغريق ليظهر كممثل يؤدي شخصياتٍ متعددةً على المسرح بمساعدة الأقنعة المختلفة.
وُلِد (إسخيلوس) ف إليوسس Eleusis مواطنًا أثينيًّا، لعائلةٍ يروى أنها كانت تنتمي إلى النبلاء، وعمل في صِباه في حقول الكَرم. ويروي بوزانياس Pausanias عنه – كما ينقل كثيرون وبينهم (جون بلاكي) في ترجمته لأعماله – إن ديونيزوس تجلى له ذات يومٍ وهو في حقول الكرم وأمره بأن يبدأ في كتابة الدراما.
ويُروى كذلك أن إسخيلوس كتب ما بين السبعين والتسعين مسرحية، لم يبق منها بتمامه إلا سبع تراجيديات هي (الفُرس – الضارعات – السبعة ضد طيبة – برومثيوس مقيّدًا – أجاممنون – حاملات القرابين – الصافحات)، وتمثل الثلاث الأخيرة ثلاثية مكتملة هي ثلاثية أوريست (أو الأوريستيا Oresteia) كما يُشار إليها، وتحتل مكانة متميزة بين أعماله في الدرس الأكاديمي، كما أنه يُعَدّ أول من أدخل فكرة الحكاية المسرحية المجزأة على أكثر من نص وأكثر من عرض بفضل هذه الثلاثية. وهي موضوع مقالنا.
تتناول الأوريستيا مأساة بيت أجاممنون عاهل أرجوس كبرى مدن إقليم البيلوبونيز في جنوب اليونان القديمة والحالية. أجاممنون تبعًا لأساطير اليونان هو قائد الجيش الإغريقي المهول المكون من ألف سفينة حربية، ذلك الذي أبحر إلى طروادة في الأناضول ليستعيد هيلين زوجة منيلاوس أخي أجاممنون، بعد أن اختطفها باريس/ ألكساندروس أمير طروادة وابن عاهلها بريام.
وحرب طروادة التي استمرّت تبعًا لأساطير اليونان عشرة أعوام هي الحدث المركزي في المخيلة الإغريقية التاريخية، فملحمتا الإلياذة والأوديسا المنسوبتان لهوميروس تدور أولاهما حول الحرب ذاتِها، وتدور الثانية حول رحلة عودة أوديسيوس أحد أبطال الحرب من طروادة إلى موطنه إيثاكا.
وعَودًا إلى موضوعنا، عاد أجاممنون بعد انقضاء الحرب إلى قصره وقد كادت زوجته كليتمنسترا تفقد الأمل في عودته إذا انقطعت أخباره وأخبار الجيش الإغريقي عنها وعن أهل أرجوس.
عاد مجللاً بالنصر بالطبع، ومعه (كاساندرا) ابنة بريام وأخت باريس، سبيّة، يفترض أن يستضيفها قصره بصِفَتها أَمَة ومحظية للعاهل المنتصر.
اقرأ أيضا : انشقاقات اللوثرية: الأناباتيست وأنبياء زويكو
الخبر الصادق الوحيد الذي طار إلى كليتمنسترا في غياب زوجها هو تضحيته بابنتهما (إفيجينيا) إرضاءً للربة أرتميس لتسمح الأخيرة لأسطول اليونان بالوصول إلى شطآن طروادة.
وقد أوغر هذا بالطبع صدر كليتمنسترا على زوجها الغائب. كما أن (إيجيست Aegisthus) ابن عم أجاممنون تقرب من كليتمنسترا في غياب زوجها، وحين تأكدت عودة الزوج، دبر الاثنان خطة لقتل أجاممنون العائد، وليخلو لهما الجو أبعدت كليتمنسترا ابنها (أوريست) وريث عرش أرجوس إلى فوكيس Phocis حيث كفله الملك ستروفيوس زوج أخت أجاممنون.
وكان دافع إيجيست إلى هذه المؤامرة رغبته في الانتقام لأبيه ثايست Thyestes الذي دنّس فِراش أتريوس Atreus والد أجاممنون ومينيلاوس فانتقم منه أتريوس بأن ذبح أطفاله وطهاهم وقدمهم إليه وليمةً، ولم يُظهر له رؤوسهم وأيديهم ليعرف أنه قد أكل لحم بنيه إلا بعد أن فرغ ثايست من طعامه، ولم ينج من هذه المذبحة إلا إيجيست الذي ورث كراهية بيت أتريوس عن أبيه وقرر الانتقام.
تنتهي مسرحية (أجاممنون) وهي الحلقة الأولى من الأوريستيا باغتيال البطل بعد أن تُظهر كاساندرا نبوءتها بخراب البيت، حيث تلقي كليتمسنترا وإيجيست شبكة على أجاممنون وهو في الحمّام ويطعنانه حتى يخر ميتا.
أما ف الحلقة الثانية (حاملات القرابين Choephorai) فنجد أوريست وقد عاد من فوكيس بصحبة بيلاد Pelades صديقه وابن العاهل ستروفيوس، وقد بيّت النية على الانتقام لأبيه بناءً على وحي الربّ أبولُّو في دلفي الذي وعده بإنجاح مسعاه في الانتقام وبالبراءة بعد قتل أمه كليتمنسترا وعشيقها إيجيست. يزور أوريست قبر أبيه ليجد هناك أخته إلكترا على رأس ثلّة من النائحات يحملن القرابين إلى القبر.
يتعارف الأخ وأخته ويُسِرّ إليها بما عاد لإنجازه، وينجح في دخول قصر أبيه متخفّيًا في زي رحّالٍ جاء ليُنهي إلى مسامع الملكة خبر وفاة نجلها أوريست، ثم إنه ينتهز غفلة الأم والملِك الجديد مغتصب العرش إيجيست ويقتلهما بعد حوارٍ مأساوي مع الأم تلومه فيه وتحذره من ربّات الانتقام/ الإيرينيّات Erinyes/ Furies اللاتي لن يتركنه في سلام إن قتل أمّه.
أما الحلقة الثالثة (الصافِحات Eumenides) فتبدأ في دلفي مهبط وحي الرب أبولّو، حيث تطارد الإيرينيّات أوريست إلى هناك، ويطول حوار أبولّو إله الشمس ابن كبير الآلهة زيوس مع ربات الانتقام العجوزات بشأن أوريست الذي أصابته لوثةٌ من جنونٍ بعد قتله أُمَّه بسبب مطاردتهنّ إيّاه، ويتقرر أن يُفصل في قضية أوريست وموقفه من البراءة أو الإثم في معبد أثينا ربة الحكمة على الأكروبول.
تنتقل الأحداث فجأة إلى معبد أثينا حيث يُندَب اثنا عشر قاضيًا للبتّ في القضية، وبعد مرافعات الإدانة من ربات الانتقام ومرافعات الدفاع من أوريست وربّه الحامي أبولّو ينقسم القضاة نصفين بالتساوي في موقفهم من أوريست، لكن أثينا تنقذه من الموت بتدخلها حيث تضع صوتها في صف المبرئين من الإثم، وتسترضي رباتِ الانتقام بأن تَعِدَهن بمكانة مرموقة في أثينا، فيقبلن شفاعتها ويصفحن عن أوريست في النهاية.
* في ترجمة بلاكي
ككثير من الأعمال اليونانية الكلاسيكية خضعت الأوريستيا لمحاولات عديدة للترجمة إلى اللغات الأوربية وغيرها. ويبرز بخاصة من بين هذه المحاولات جهدُ (جون ستوارت بلاكي John Stuart Blackie 1809 – 1895) أستاذ الكلاسيكيات والأدب اليوناني بجامعة إدنبره، والذي عُيّن في هذا الكرسي المرموق بسبب ترجمته مسرحيات إسخيلوس السبع إلى الإنجليزية التي نشرها عام 1850.
ترجم بلاكي إسخيلوس بكاملِه شِعرًا، وانطلق في هذا الحرص من إدراكه لطبيعة التراجيديا اليونانية التي تقترب من الأوبرا المعاصرة بقدر ما تبتعد عن مفهومنا الحديث للعرض المسرحي، ولذا عمد إلى عنونة كتابه: "مسرحيات إسخيلوس الغنائية The Lyrical Dramas of Aeschylus"، وقد قدّم للكتاب بمقدمة ضافية عن طبيعة التراجيديا اليونانية، وحذّر قرّاءه من الدخول إلى عالمها محمَّلين بتوقعات مستحيلة تأبطوها من خبرتهم المسرحية المعاصرة، ومن أفضل فقرات هذه المقدمة تعبيرًا عن مراد بلاكي، تلك الفقرة التي يقول فيها:
"لا ينبغي للمرء أن ينتقل من المرقص إلى الكنيسة مباشرةً، وإنما عليه أن يلوذ بلحظاتٍ من الإعداد المناسب لهذا الانتقال. وهكذا الأمرُ مع كل نزهةٍ أدبية.
فعلينا دائمًا أن نعتاد مُناخ البلد الجديد الذي ننتقل إليه قبل أن نتوقع إحساسًا بالراحة فيه." ثم يقول: "فلو كان للمرء أن يستمتع بالتراجيديا اليونانية وينبري للحكم عليها، فعليه أن يحاول أمرًا وراء المعرفة بما تعنيه هذه التراجيديا بالنسبة لفكرته العامة عن المسرح التي أتى بها من العروض المسرحية الحديثة.
هذا الأمر هو أن يعرف ما كانت تعنيه هذه التراجيديا بالنسبة للإغريق القدامى أنفسهم وهم جالسون في الهواء الطلق على مقاعدهم الخشبية أو المنحوتة من الحجَر، وفي آذانهم أصداء الترانيم الباخوسية البهيجة، يفصلهم زمان طويل عن أرسطو الذي أتى بعد ذلك بقُرون ليستخلص قواعد تأليف المأساة المسرحية التي لن يثور عليها أحدٌ قبل شكسبير".
والحقيقة أن اختيار المرقص والكنيسة يبدو اختيارًا موفقًا للغاية في تعبير بلاكي، فتراجيديا اليونان وُلِدَت من رحم طقوس ديونيزوس/ باخوس الدينية، والحكايات التي دارت حولها هي حكايات السلَف بالنسبة ليونان القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وهما القرنان اللذان شهدا ازدهار التراجيديا اليونانية على أيدي الثلاثي إسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدس واحدًا وراء الآخَر.
وكما يشُدّ الدين أتباعه دائمًا إلى لحظة مرجعية في الماضي، كانت حكايات هؤلاء السلف تمثل تراثًا دينيًّا بالنسبة لليونان، عمد رواد التراجيديا إلى استنطاقه بالدروس والعِبَر بطرائقهم المختلفة، وبهذا تبدو التراجيديا اليونانية معادلاً للكنيسة في عبارة بلاكي، بينما جسد المسرح المعاصر بانفصاله العلماني الأساسي عن الدين معادلاً للمرقص.
أما هوامش بلاكي التي جمعها في ملحق ضخم بكتابه فهي زاد حقيقي لدرس الترجمة، وهي كذلك في رأيي حتى بالنسبة لمن لا علاقة مباشرةً لهم بالأدب الإغريقي.
وآية ذلك أنه يعمد أحيانًا إلى مناطق إشكالية – في رأيه – في النص اليوناني، ويطرح أمامنا الكيفية التي ترجمها بها من سبقوه على درب ترجمة إسخيلوس، لا إلى الإنجليزية وحسب وإنما إلى الألمانية كذلك! ثم يبين لنا لماذا انحرف عن ترجمتهم أو نبذها أو اتّفق معها، منطلِقًا من رؤية عميقة لكل ما يحيط بالنص من ظروف تاريخية، فضلاً عن معرفة مدققة باللسان اليوناني وظلال التعبير المختلفة في لغة الإغريق.
أي أن بلاكي لم يقدم ترجمة براجماتية سريعة لمسرحيات إسخيلوس، وإنما وضع بين أيدينا مجلدًا شديد الإخلاص لتقاليد البحث اللغوي الأكاديمي ودرسًا متجددًا في آليات الترجمة.
وثم خاصية أخرى في هوامش بلاكي، هي احتفاؤه البالغ بالظلال اللاهوتية والدينية لدراما إسخيلوس، وعلى سبيل المثال، في نص (أجاممنون) يورد هذين السطرين بلسان الكورس في الوزن التروخي الرباعي Trochaic Tetrameter:
"With the gentle soothings cherished
Of the oil that knows no malice"
ويمكن ترجمتهما إلى "بقرابينَ طَهَتها المَلِكَةُ بالزَّيتِ القُدسِيِّ الصافي." والمهمُّ أنه هنا يضع هامشًا يقول فيه: "نرى في هذا المقطع الأهمية الدينية للزيت الذي استخدمه القدماء في طقوسهم المقدسة، ونورد هنا ملاحظة وليام سيوِل William Sewell التي نتفق معه فيها (كانت للزيت المستخدم في الطقوس الدينية قيمة رفيعة.
ولنا أن نقارن ذلك بالتعليمات الواردة في الكتاب المقدس لصناعة الزيت المستخدم في خدمة تابوت العهد.) وعلى الجملة يمكننا أن نعود إلى الإصحاح الثاني من سِفر اللاويين لنطّلع على وصف الأنواع المختلفة من الفطائر المقدسة المصنوعة من الدقيق الفاخر والزيت المخصص لقرابين اليهود" .
والهامش ليس الوحيد الذي يقارن فيه بلاكي السياق الديني اليوناني بالتقليد اليهودي المسيحي، وإنما هي سمة عامة في هوامشه، ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا أنه قضى ثلاثة أعوام من شبابه في دراسة اللاهوت تمهيدًا لالتحاقه بالكنيسة، قبل أن يغير مساره ويقع في غرام الدراسات الكلاسيكية، ومن الجدير بالذكر أن ترنيمة الزفاف التي كتبها بعد زواجه Angels Holy, High and Lowly تُعَدّ أشهر ما كتبه على الإطلاق، ومازالت تؤدَّى إلى وقتنا هذا.
انتهاءً، لا يفوتنا أن بلاكي لجأ إلى إنجليزية قديمة بعض الشيء في ترجمته إسخيلوس، ربما تنتمي إلى الإنجليزية الإليزابيثية Elisabethan English وهي الطبقة المبكرة من الإنجليزية المعاصرة، كُتِبت بها نسخة الملِك جيمس من العهدين القديم والجديد، كما تنتمي لها نصوص شكسبير المسرحية.
والأقرب إلى تصورنا أنه لجأ إلى هذه الطبقة القديمة من لغته ليوحي بقِدَم النص لقارئه ومستمعِه من ناحية، ولينقل إليهما جلال النص وما يحيط به من أجواء القداسة من ناحيةٍ أخرى، وهو اختيارٌ بالغ الذكاء والعمق من بلاكي.
وتبقى ترجمته لإسخيلوس بهوامشها الثرية الدقيقة درسًا في البصيرة الجمالية لكل من يُقبل على قراءتها.
* في ولع لويس عوض
يخبرنا الغلاف الخلفي للكتاب الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1987 بأن د. لويس عوض أنجز ترجمته لثلاثية أوريست في ستينيات القرن العشرين، وأن ترجمتَي أجاممنون وحاملات القرابين عرفتا طريقهما إلى خشبة مسرح الدولة، فأخرج الفنان الراحل كرم مطاوع (أجاممنون) لمسرح الجيب وأخرج اليوناني موزنيدس (حاملات القرابين) للمسرح القومي، بينما حالت نكسة 1967 دون عرض مسرحية (الصافحات).
ترجم أستاذنا لويس عوض النصوص الثلاثة شِعرًا بالكامل هو الآخر، ويحدثنا عن منهجه في الترجمة في مقدمته لأجاممنون، وخلاصة تصرفه العَروضي أنه نقل الحوار والمونولوجات في بحر الرجَز "وهو الإيامبي الأوربي الذي يستخدم عادةً في الحوار في المسرح الشعري، ليس فقط اقترابًا من البحر الأصلي، ولكن لأن الرجَز أقرب البحور إلى النثر، وخاصةً حيث تكثر زحافاته".
في حين أنه آثَر بحر الرمَل الأكثر موسيقية لأناشيد الكورَس ليسهل إنشادها. وهو تصرف عَروضي موفق للغاية، إذ وفّر طاقته في التنويع العروضي لنصوص بالغة الطول إلى درجة الإملال أحيانًا من ناحية، ولم يحرمنا قدرًا من هذا التنويع من ناحية أخرى.
على صعيدٍ آخر، التزم بالوزن والقافية في أناشيد الكورَس، بينما نقل الحوار والمونولوجات بالشِّعر المرسَل، وهو تصرف وافق فيه (بلاكي)، ومن الجدير بالاستدراك أن المؤرخ الاسكتلندي العظيم (توماس كارلايل) في تقريظه لترجمة (بلاكي) عاب عليه فقط التزامَه بالوزن والقافية في مواقع الإنشاد، وهو ما يحق لنا أن نتوقعه من مؤرّخ وفيلسوف مهتم بالحقائق العارية مثل (كارلايل)، في مقابل أديب مهموم بجَرس الكلمات وجمالها الذاتي الخاص مثل (بلاكي).
وعَودًا إلى ترجمة لويس عوض، فهو يخبرنا في مقدمته كذلك بإقدامه على ترجمة حوار مسرحية (الضفادع) لأرسطوفان نثرًا، وبرر ذلك بقوله: "لأن الفكاهة ومألوف الكلام صعب نقله ف أوزان الشعر، لاسيما أني عمدتُ في كثير من المواضع إلى استغلال ما في العامية من طلاوة لأحافظ ما أمكن على النكتة".
وهذا أيضًا في تقديري تصرف بالغ الذكاء والحساسية، يذكّرني بترجمة قرأتها لمسرحيتي (الطيور) و(السحُب) لأرسطوفان إلى الإنجليزية، أنجزهما الأسترالي ذو الأصل اليوناني جورج ثيودوريدس، وقد كانتا آخذتين من عمق الإنجليزية الأسترالية ما مكّن للترجمة أن تنقل الكوميديا بنتَ بيئتها كأوقع ما يكون النقل.
لم يحرمنا لويس عوض من التقديم الضافي لتراجيديا إسخيلوس ولتركيب المسرح اليوناني لنتصور ما كان عليه الأمر حين كانت هذه النصوص تمثّل لأول مرةٍ في أتيكا في القرن الخامس قبل الميلاد.
لكن تصرُّف لويس عوض في دقائق المعنى كان أكثر تحررًا بكثير من (بلاكي)، فرغم رجوع (عوض) إلى ثلاث ترجمات إنجليزية ومطابقتها بالأصل اليوناني، إلا أننا نجد مثلاً ذلك السطر الذي يذكر الزيت المقدس بلسان الكورَس – وقد أوردناه آنفًا – لا وجود له في نسخة (عوض) من أجاممنون، وبدلاً من ذلك يقول الكورَس:
"وبالطيوبِ ضمَّخُوا القُربانا/ وأسكروا بالصندلِ الأوثانا/ وقدَّمَت مليكةُ الحواضِرْ/ أعزَّ ما تملِكُ مِن فطائرْ."
وهكذا تفوتنا تلك اللمحة التي أوردَها بلاكي وعقَّبَ عليها. ويسوقنا هذا إلى أن نعتقد أن ترجمة لويس عوض كانت أكثر براجماتيةً، فقد أراد أن يقدم الثلاثية للمسرح المصري والعربي، ولم تؤرّقه تلك الدقائق اللغوية الأكاديمية والمشكلات اللاهوتية التي أرّقَت سلفه الاسكتلندي قبل قرنٍ من الزمان.
كذلك نجد تصرفًا بلاغيًّا مميزًا لترجمة لويس عوض، فهو لينقل جو القداسة المهيمن على نصوص إسخيلوس تذرَّع بالبلاغة القرآنية والإسلامية بعامّةٍ ما وسعه إلى ذلك سبيل.
ففي أجاممنون يقول الكورَس مثَلاً: "كلُّ مَن خلَّد بالأشعارِ نصرَكْ/ وأتى بابَ زيوسٍ غيرَ مُشرِكْ/ فهو مَهدِيٌّ وهادٍ وحكيمْ/ وهو يمشي في الصراطِ المُستقيمْ." كما يقول في موضعٍ من (حاملات القرابين): "أنتَ يا هرميزُ يا سِبطَ البَتُولْ/ يا ابنَ مايا يا مُنَجِّي يا رَسُولْ/ ليتَ لي عندَكَ مِن حُسن القَبُولْ/ أن تقي أوريستَ تَهديهِ السبيلْ." وفي (الصافحات) يقول: "وإذا أفلَتَ لم يَعدَم إلهْ/ يُحكِمُ الغُلَّ على أيدي الجُناةْ/ فقِصاصُ البغيِ حَقٌّ وحَياهْ."
أما الولع الذي نتحدث عنه فهو ولعه الشديد بعلم الأساطير المقارن. ففي مقدمته لنص (حاملات القرابين) يضع لويس عوض بين أيدينا ورقة بحثية قدمها عام 1952 وقرأها على "نفرٍ من أعلام النقاد" كما يقول، بينهم ريتشارد بلاكمر Richard Blackmur والشاعر آلَن تِات Allen Tate وغيرهما.
وفحوى هذا البحث هي رد مسرحة (هاملت) رائعة شكسبير إلى ثلاثية أوريست. ونحن نعرف أصلاً ولع لويس عوض الاستثنائي بالتنقيب عن جذور أعمال شكسبير، وقد أفرد له كتابًا مهمًا هو (البحث عن شكسبير)، لكنه في هذا البحث لم يترك تفصيلةً في أحداث هاملت إلا تتبعَها إلى ما يشبهها بدرجةٍ ما في أحداث الأورستيا.
وهو يفعل ذلك بحِذق وبراعة نادرَين رغم اعترافه بأن البحث لم يقنع إلا القليلين ممن قُرئ عليهم.
ولم يقف لويس عوض عند هذا الحد، بل إنه أفرد كتابًا آخر هو ( أسطورة أوريست والملاحم العربية) لتتبع الموضوعات الأساسية والموتيفات الرئيسة في الأورستيا وهاملت، وأهمها الانتقام للأب، والأم الخائنة، وقتل الأم وتحولاته، والبطل مدّعي الجنون أو المتخفّي، إلى غير ذلك من الموضوعات.
وعنوان الكتاب خادعٌ بعض الشيء، وربما كان الأوقع أن يسميه (أسطورة أوريست وملحمة الزير سالم)، إذ إن المحور الذي يدور حوله الكتاب هو ملحمة الزير سالم.
والكتاب مثيرٌ في استعراضه للتوازيات بين الحكايتين إلى أقصى حد، ومن الغريب أنه لم يتمتع بمقروئية توازي إثارتَه، كما يكاد يكون غير ملتفَت إليه بالقدر الذي يستحقه بين التركة الفكرية الضخمة للويس عوض.
لا أريد أن أحرق مفاجآت الكتاب لمن لم يقرأه، إلا أنني أعتقد أنه مما يُسيل لعاب القارئ النهِم للمعرفة أن يعرف أن كاتبنا يرى توازيًا بين (جليلة بنت مُرَّة) في ملحمة الزير سالم، وكُلٍّ من هيلين وكليتمنسترا معًا في الأساطير اليونانية، وتوازيًا آخر بين (جساس بن مُرّة) وبين (إيجيست)، وثالثًا بين (كُلَيب بن ربيعة) أو كُلَيب وائل من ناحية، وأوديسيوس عند اليونان، وصولاً إلى رؤيته أنّ شخصية إله الخصب المصري الممزق (أوزيريس) منقسم إلى أربعة شخصيات في ملحمة الزير سالم، وكذلك أخوه إله الشر (سِت)!
والحق أن منطلَقات لويس عوض والنتائج التي تبدو أحيانًا محددةً سلفًا في بحثه المثير هي نفس المنطلَقات والنتائج التي نذر علماء الأساطير أنفسهم لها، فمسألة محاكاة دورة الشمس من الشروق للغروب للعودة للشروق مسألة رئيسة عنده، وربما لم يخطر ببال قارئ ملحمة الزير سالم مثل هذه المحاكاة قبل أن يقرأ إثارة لويس عوض لها.
إلا أنه مما يُحسَب لأستاذ الراحل أن بحثه كان متّزنًا جدًّا بين تيارَي علم الأساطير المقارن، فهو (تفصيليّ Particularist) حين يتطلب الأمر ذلك، حيث يهتم بإبراز الاختلافات بين النسخ العربية واليونانية والمصرية القديمة من الأسطورة، ويحاول ردّها إلى الاختلافات الثقافية بين هذه الحضارات المتعاقبة.
وهو (مُقارِن Comparativist) حين تلوح له ضرورة المقارنة، فلا يترك موطنًا يحتمل التشابهات بين النسخ إلا أبرزه، مقترحًا مسألة الأصل المشترَك الفرعوني.
انتهاءً، لا يخفى بعد هذا الاستعراض السريع المُخِلّ ما تنطوي عليه محاولتا بلاكي ولويس عوض من الأصالة الفكرية والدأب والاجتهاد، على اختلاف أولوياتهما، بين التدقيق اللغوي الأكاديمي ومسائل اللاهوت عند بلاكي، وتتبع الأسطورة إلى منابعها في بحث لويس عوض.
وتبقى نصوص العالَم القديم زادًا لا ينضب، ويبقى همّ الترجمة واحدًا من أشرف وأجَلّ هموم الفكر في كل العصور، وأكثرها عنكبوتيةً واتصالاً بكل حقول المعرفة.