مات الرئيس المصري السابق حسني مبارك يوم الثلاثاء، بعد عقد تقريباً من خلعه في انقلاب فوضوي أنهى حكمه الفولاذي ولكنه لم يوفر لمصر من بعده هوية ديناميكية.
بات مبارك خلال الأعوام الأخيرة نسياً منسياً، إلا أن موته يذكر بما يعانيه الشرق الأوسط من مفارقات وآلام. فقد حكم مصر لما يقرب من ثلاثين عاماً، مستبد انتهج سبيل التحديث، فحافظ على السلام مع مصر وحرر الاقتصاد، ولكنه تردد في تفكيك الدكتاتورية العسكرية وأساليب الدولة البوليسية التي انبثق عنها.
شكلت الثورة ضد مبارك في وقت مبكر من عام 2011 نقطة الذروة في حراك "الربيع العربي"، ولقد ساعد الرئيس باراك أوباما، الذي كان يتعامل مع الأمور بدرجة عالية من المثالية، في التعجيل بإسقاطه، الأمر الذي لم يغفره له زعماء المملكة العربية السعودية والدول العربية المحافظة الأخرى. جاءت بعد مبارك لجنة يهيمن عليها العسكر، ثم تبعتها من بعد حكومة يترأسها محمد مرسي العضو في جماعة الإخوان المسلمين، الذي ما لبث أن أطيح به في انقلاب مضاد أوصل الجنرال عبد الفتاح السيسي، الرئيس السابق للمخابرات الحربية إلى الحكم، والذي حكم بكاريزما أقل بكثير من تلك التي كان يتمتع بها مبارك.
وخلال تلك الملحمة الملوعة، ظلت الولايات المتحدة ترتكب الخطأ تلو الخطأ – مشجعة خلع مبارك في الشوارع بعد أن وافق على التنحي طواعية، ثم قامت بدور الحاضنة لحكومة الإخوان المسلمين التي كانت فاقدة لمهارات الحكم، ثم ساندت الانقلاب العسكري. في نهاية هذه القصة المدوخة، انتقلت مصر من بلد يحب أمريكا إلى بلد ينقم بشدة الوصاية الأمريكية.
كان من العلامات المميزة لسلطة مبارك أن مصر لم تتمكن بعد إسقاطه من استعادة توازنها على الإطلاق. لقد هيمن مبارك على كل نواحي الحياة المصرية لدرجة أنه بعد شهور من ثورة ميدان التحرير في عام 2011 كانت تمتزج في مصر مشاعر البهجة والإرهاق الشديد في نفس الوقت، كما لو أن البلاد كانت تفيق من غيبوبة. مات مبارك إلا أن بصماته ظلت حية عبر المنظومة العسكرية التي مازالت تمسك بمقاليد السلطة بشكل فعال تحت رئاسة السيسي.
كان مبارك عنيداً بطبيعته، ولم يكن من طبعه المغادرة بيسر وسهولة. فقد ظل متمسكاً بالمنصب لسنوات بعد أن بدأ المسؤولون الأمريكان في حثه على النظر في أمر نقل السلطة. وكلما دُفع أكثر باتجاه المغادرة كلما زاد تمسكه بموقعه. بدأت آخر فترة رئاسية له بعد إجراء ما افترض أنه انتخابات ديمقراطية في عام 2005، وكان ذلك هو الاقتراع الأول من نوعه بالنسبة له. إلا أن من تجرأوا على منافسته على صناديق الاقتراع، مثل مرشح المعارضة أيمن نور، تعرضوا للتنمر وإلقاء القبض عليهم.
ومع ذلك، لو أن مبارك استمع لناقديه وأعلن أنه لم يكن ينوي الترشح تارة أخرى في عام 2011، لربما تمكن من الحفاظ على إرثه كزعيم نجح في تحويل مصر إلى بلد أكثر ثراء وأكثر انفتاحاً. إلا أن هذا التنازل لم يفرض عليه إلا في الأول من فبراير / شباط بعد أن تحولت احتجاجات ميدان التحرير إلى تظاهرة شعبية حاشدة.
كان مبارك رئيساً غير متوقع، وذلك بدءا من لحظة ارتقائه إلى المنصب في أكتوبر / تشرين الأول من عام 1981 بعد اغتيال أنور السادات. فقد شاع على نطاق واسع بين المصريين أن السادات إنما اختار ذلك الشخص البليد، الذي كان جنرالاً سابقاً في سلاح الجو، نائب رئيس له، لأنه كان لا يرى فيه منافساً محتملاً، ولذلك التصق به حينها لقب مضحك كان اسماً لنوع من أنواع الجبنة الفرنسية: "لا فاش كي ري"، أي البقرة الضاحكة.
بدا مبارك مدركاً لنقطة ضعفه عندما رفض تعيين نائب للرئيس حتى أواخر أيامه في السلطة عندما أعلن عن تعيين مدير مخابراته عمر سليمان في المنصب. أما خطته الفعلية، كما راج آنذاك، فكانت تتمثل في العمل على توريث الرئاسة لابنه جمال، إلا أن الوالد لم يملك في نهاية المطاف سوى أن يتخلى حتى عن طموحات جمال أيضاً.
لقد أسخط كثيراً من المصريين أن يتصور ذلك المسؤول العسكري السابق، ذو الشخصية الباهتة، أن بإمكانه أن يبدأ سلالة فرعونية جديدة خاصة به. ومع ذلك، ظل مبارك ملتزماً بمعاهدة السلام التي وقعتها مصر مع إسرائيل في عام 1979، إلا أن سلام مصر مع إسرائيل في عهده ظل بالمجمل "سلاماً بارداً". بالرغم من ذلك، كان في السر يتعامل مع الزعماء الإسرائيليين والأمريكيين، حتى وإن كان في العلن يحرص على النأي بنفسه عنهم. عندما ألقى أوباما خطابه الشهير في القاهرة في يونيو / حزيران من عام 2009، دعا أعضاءً من جماعة الإخوان المسلمين ولكنه لم يدع مبارك.
ويبقى العنصر الأكثر إيجابية في إرث مبارك هو تعيينه خلال العقد الأخير من وجوده في السلطة مصلحين اقتصاديين، مثل رئيس الوزراء السابق أحمد نظيف ووزير التجارة السابق راشد راشد، والذين ساعدت سياساتهما المنبثقة عن السوق الحرة في الدفع بمعدل النمو في مصر إلى أعلى من خمسة بالمائة. إلا أن من مؤشرات السخط الشعبي الشديد ضد كل ما كان يمس مبارك أن هؤلاء المصلحين الاقتصاديين تعرضوا للهجوم بعد سقوط الدكتاتور بزعم أنهم متورطون في الفساد.
تلك كانت لعنة مبارك، أنه حتى سياساته الناجحة لم تكن محبوبة.