هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
احتفل اليونسكو باليوم العالمي للرياضيات لأول مرة في 14 مارس 2020. ولأن
الشيء بالشيء يُذكَر، لا تفوتنا هذه المناسبة دون أن نخرج من حيّز الرياضيات
العظيم إلى حيّز الفقه الإسلامي! ما العلاقة؟! ستتضح إجابة هذا السؤال تدريجيّا!
* الرياضيات الترفيهية- حقل لا يعبأ
بالواقع:
الرياضيات علم صُورِيّ Formal Science بمعنى أنها غير معنية
بالبحث عن صحة نظرياتها من خلال ملاحظة العالم الواقعي، وإنما تنصبّ عنايتها على
خواص الأنظمة الصُّورية التي تدرسها استنادًا إلى تعاريفها وقواعدها. رغم ذلك، لا
يَخفَى علينا أنّ هذا العلم الأكثر تجريدًا بين العلوم يمثل قاعدة هرم العلوم من
جهة رجوعها كلها إلى الرياضيات التطبيقية. لكن محض وجود الرياضيات البحتة Pure Mathematics غير المعنيّة بالتطبيقات – وإن كانت دائمًا تخضع لاحتمال أن يطالَها التطبيق في
المستقبل – يجعل في الرياضيات قسمًا مكتفيًا ببرجِه العاجيّ متعاليًا على وقائع
العالَم الملموسة. وفي الرياضيات حقلٌ آخر لا تعنيه التطبيقات كثيرًا، هو
الرياضيات الترفيهية Recreational
Mathematics التي تهتم بموضوعاتٍ مثل المربعات السحرية
ومكعّب روبِك Rubik's
Cube والألغاز الشطرنجية وغير ذلك. هو حقل لا
يستعصي في بعض مستوياته الدنيا على من لم يتلقّوا تدريبًا متخصصًا في الرياضيات،
لكن هناك دائمًا رياضيون من العيار الثقيل يَنبَرون لحلّ المشكلات الرياضية
المتعلقة بموضوعات هذه الرياضيات الترفيهية، أو يثيرون فيها مشكلاتٍ جديدةً تتطلّب
بحثًا عن حلول جديدة، دون أن يخطر ببالهم رَبط هذه المشكلات الرياضية بالواقع.
* قفزة إلى فتوى غريبة- تجربة شخصية:
في أعقاب أحداث يناير 2011 في مصر كان
الاستقطاب المجتمعي على أشُدِّه بين الإسلاميين والعلمانيين. وفي غمرة هذا
الاستقطاب وجدتُ نفسي متورطًا في حوارٍ حول ما اصطُلح على الإشارة إليه بـ(فتوى
الشيخ محمد الزغبي بجواز أكل لحوم الجِنّ). أصل المشكلة يتعلق بحديثٍ شريفٍ عُنِي
الزغبي بالإسهاب في بيان تخريجه وأوجُه شرحه في حلقة تليفزيونية نُذِرَت للرد على
الهجوم العنيف الذي تعرض له جرّاء (فتواه).
ولأني بعيدٌ عن تشعُّبات علوم الحديث
اكتفيتُ وقتذاك بالعودة إلى صحيح البخاري لأجد الحديث فيه بالفعل "لا
تُصَلُّوا في مَرابِضِ الإبلِ فإنهنَّ خُلِقنَ مِن الشياطين."، وعُدتُ إلى
فتح الباري شرح صحيح البخاري لأجد المعنى أنّ الإبل "كثيرةُ الشِّراد"
أي الحركة، ولعلها بذلك تلفت المصلّي أو تُلهيه أو تُخرجه عن الخشوع. وهو معنىً
مقبولٌ جدًّا ومتواترٌ في دلالة كلمة الشيطنة. وما أدهشني أنّ الشيخ الزغبي في
حلقته الأصلية لم يلفت المُشاهد إلى هذا المعنى المجازي، ومال إلى المعنى الحرفي
للعبارة (رغم أنه ذكرَ هذا المعنى المجازي في الحلقة المنذورة لاحِقًا للرد على
الهجوم). لكن بقيت المسألة الأكثر إثارةً للجدَل في تلك الحلقة هي جواز أكل
الحيوانات مُباحة اللحم إذا كانت في الأصل جِنًّا متصورًا في أجساد تلك الحيوانات،
ما لم يَعلَم الآكِل بالأصل الجِنّي هذا الحيوان!
وكنتُ واحدًا مِمَّن غضبوا من فكرة الخروج بالفقه عن مناقشة الأمور
الواقعية التي تهم المسلم إلى مناقشة مسائل افتراضية لا نقابلها في الواقع طِبقًا
لما يُخبرنا به الحِسُّ المشترَك.
والحقيقة أن السخرية من مِثل هذه المسائل الفقهية أمر منتشِر ويمثّل رافدًا
مهمًّا من روافد تسفيه الفقه الإسلامي والمشتغلين به. ففي هذا المقال مثَلاً يحشُد
الكاتب عددًا من المسائل التي يندرج بعضُها بلا شَكٍّ في غرائب المسائل الفقهية
التي ناقشَها كبارُ الفقهاء، ومبعث غرابتِها خياليّتُها واستحالةُ تحققها في
الواقع إلا إذا أقدم إنسانٌ على الإتيان بها في جنونٍ لتَزهَقَ نفسُه بعد ذلك!
فهل نعتبر إثارة هذه المسائل الافتراضية
الشطحيّة سَفَهًا بالفعل؟ هل هذه هي الكلمة النهائية؟
* الموافقات للشاطبي- عن الخوض غير
المحمود:
يقول الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى
الشاطبي (ت. 790 ه/ 1388 م) في المقدمة الخامسة التي يسوقُها لكتابه (الموافقات في
أصول الشريعة): "كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوضٌ فيما لم
يدُلَّ على استحسانِه دليل شرعي. وأعني بالعمل عملَ القلب وعمل الجوارح من حيث هو
مطلوبٌ شرعا." ثم يسوق الأدلّة من جوف القرآن، يقول: "(يسألونكَ عن
الأَهِلَّةِ قُل هِيَ مواقِيتُ للناسِ والحَجّ) البقرة 189. فوقع الجوابُ بما
يتعلّق به العمل، إعراضًا عمّا قصدَه السائل من السؤال عن الهلال: لِمَ يبدو في
أول الشهر دقيقًا كالخَيطِ ثم يمتلئ حتى يصير بَدرًا، ثم يعودُ إلى حالتِه
الأولى؟"
هكذا، إذا قِسنا مسألة الشيخ الزغبي بهذا المقياس سنجد أنها ربما تكونُ
أدخَلَ في "الخوض فيما لم يدُلَّ على استحسانِه دليل شرعي." لكنها على
كل حالٍ أفضل حالاً من هذه الناحية من بعض المسائل المُثارة في مقال الرابط الأخير
الذي سلَفت الإشارةُ إليه، فقد يقع لإنسانٍ تؤرقُه الضلالات أنّ الجِنّ ربما يكون
متلبسًا صورةَ حيوانٍ هو مُقدِمٌ على أكل لحمه، فتكون فتوى الزغبي إنقاذًا له من
براثن تلك الهواجس، أي أنه يكونُ عملاً قلبيًّا من ناحية اطمئنانه، وبالجوارح من
ناحية الإقدام على الأكل!
في تقديري أنّ هذه المقدمة الخامسة تقوم مقام الضابط الصارم الذي يضع سقفًا
لمغامرات الفقه وجُنوحه إلى الشطَط. ولا يقتصر الشاطبي في أدلّة هذه المقدمة على
مسائل الفقه فقط، وإنما يثير مسألة الشطَط في تفسير القرآن، فيرجع إلى تأديب (عمر
بن الخطّاب) لـ(صبيغ بن عِسل التميمي) الذي كان يتتبّع متشابهات القرآن ويسأل
عنها، على غرار تساؤله عن معاني "والذارياتِ ذَروا. فالحامِلاتِ وِقرا.
فالجارياتِ يُسرا. فالمُقَسِّماتِ أمرا." وكذلك تأديب (علي بن أبي طالب) لابن
الكَوّاء في مسائل مماثلة، وكراهية (مالك بن أنَس) للكلام فيما ليس فيه عمل.
يَلُوح لنا أنّ هذه المأثورات تضع حدًّا للنهَم المعرفيّ الطبيعيّ في
الإنسان. يورد الشاطبي أثرًا آخر عن عمر بن الخطّاب لامَ فيه نفسَه على استغراقِه
لحظةً في هذا النهَم، أو ربما هو تصنّعَ هذا الاستغراقَ اللحظي ليُعرب عن موقفِه
للحاضرين. نعني قصة صعوده المنبرَ ذاتَ يومٍ وقراءتَه "وفاكهةً وأَبّا"
وقال "هذه الفاكهةُ فما الأبّ؟" ثم قال "نُهينا عن
التكلُّف."، ويعلق الشاطبي: "توقّفَ في معنى الأبّ، وهو معنىً إفرادِيٌّ
لا يقدح عدمُ العلم به في علم المعنى التركيبيّ في الآية."
كأنّها قصة يحضُّ بها أصحاب التفاسير قراءهم على الإحجام عن استقصاء
التفسير! يحيلُنا هذا إلى المحاولات الحديثة لتفسير القرآن، تلك التي تحاول
التوقُّف على معنى كل مفردةٍ وتتأول منها رؤيةً لبلاغة مجيء الصياغة على هذا النحو
دون غيره. فمثَلاً، قد يلوح لِمَن يقف أمام هذه الآيات من سورة (عَبَسَ) أن
يتساءل: لماذا ذكرَت الآيات الحَبَّ أولاً فالعِنَبَ فالقضب فالزيتونَ فالنَّخلَ
فالحدائقَ الغُلبَ فالفاكهةَ فالأبَّ أخيرا؟ ألا يَحول جهلُنا بمعنى (الأَبّ) دون
معرفة سبب هذا الترتيب ببساطة؟!
يبدو الاقتصار على (المعنى التركيبي) بتعبير الشاطبي أقرب إلى الفطرة في
تلقّي النص المقدَّس، بينما الإصرار على الوقوف على كل دقيقةٍ في النص هو مظهرٌ من
مظاهر التلقّي (الحضاري) المعقَّد، فكأنّ المفسّر المعاصر الذي يحاول الاستقصاء ما
وسِعَته إلى ذلك سبيلٌ يعيد بناء فهمنا للنص، لكنه يبنيه بناءً معقدًا منمّقًا
يتجاوب وما في حضارته من تعقُّد، وقد يغيب عنه وهو يغوص في التفاصيل ذلك الرُّوح
الذي كان ينبعث من النص مباشرةً في التلقّي الفطري، وربما لهذا غضب عمر وعلي على
صبيغ وابن الكوّاء!
ومن ردود الشاطبي المثيرة التي يحشدُها في هذه المقدمة كذلك قوله: "أن
تتبُّع النظر في كل شيءٍ وتَطَلُّبَ علمِه من شأن الفلاسفة الذين يتبرأ المسلمون
منهم، ولم يكونوا كذلك إلا بتعلُّقِهم بما يخالِف السُّنَّة. فاتباعُهم في نِحلةٍ
هذا شأنُها خطأٌ عظيمٌ وانحرافٌ عن الجادّة."
وبغضّ النظر عن موقفه المتحفظ من التفلسُف، فإن أصل كلامه صحيح، فالفلسفة
تطلُب في منهجها الاستقرائيّ الوقوف على تفاصيل الظواهر التي تتناولها بالدرس
وتستقرئها في محاولة للوصول على مبادئ عامّةٍ تحكُمها. ثم إنها تتنزّل في الاتجاه
المضادّ من تلك المبادئ العامّة إلى وصفٍ أدَقّ لتفاصيل الظاهرة، مبنيٍّ على ما
وصلَت إليه أولاً من مبادئ. وتتبنى الرياضيات بالأخصّ ذلك المنهج الاستنباطيّ، فلا
يمكن أن تقف أمام عقل الرياضي الشغوف بالرياضيات أية عوائق تَحول دون نظره في كل
المشكلات الرياضية التي تثيرها مبادئه العامة، يستوي في ذلك ما له تطبيق في
الواقع، وما لا يهدُف إلا إلى لذة الوصول إلى الحل، وهنا تلتقي الرياضيات
الترفيهية بمسائل الفقه الغريبة!
في تقديري أن مدخل الشاطبي إلى أصول الفقه يجعل الخوض في مثل تلك المسائل
(خوضًا غير محمود)، لكن ما حِيلة الفقهاء أمام عقولهم الشغوفة بالاستنباط من
المبادئ الأولى، شغفَ الرياضيين بالاستنباط دون النظر إلى موقف المشكلة من التطبيق
العملي؟! المسألة في تقديري نهمٌ معرفيٌ تصعُب مقاومتُه.
* الوظيفة المزدوجة للفقه:
يبدو الفقه في مكانٍ وسَطٍ بين الدِّين من حيث هو أوامر منزلة مقدسة وبين
الدنيا من حيث هي مجالُ كل مُدنَّس (غير مقدَّس). يعمل الفقه على (تديين) كل مجالٍ
من مجالات الدنيا، فالنظر إلى كل نشاطٍ من حيث موقفه من متسلسلة (الوجوب والندب
والإباحة والكراهة والتحريم) لا يصادر فقط تلك النشاطات التي تندرج في الوجوب أو
الندب من جهةٍ أو الكراهة أو التحريم من الجهة الأخرى، وإنما محض النظر إلى نشاطٍ
دنيويٍّ من منطلَق كونِه (مُباحًا) يربطه بالدِّين من حيث يَغفل كثيرون.
لكنَّ الفقهَ يعمل في الاتجاه المضادّ كذلك، بصِفَته استلابًا للمُقَدَّس
والمُطلَق الدِّيني لصالح الممارسة الدنيوية. فوضع الضوابط أمام تنفيذ الحدود
مثَلاً هو عملٌ فقهيٌّ من الدرجة الأولى، نَصَّ على أهميته أصلٌ مهمٌّ من السُّنّة
نفسها، يتمثل في الحديث الشريف الذي رواه عبد الله بن عباس عن النبي: "ادرءوا
الحُدود بالشبهات" (في مُسنَد أبي حنيفة للحارثي). وهكذا تتراكم حول الأمر
القرآني المباشِر الواضح "والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديَهما" منظومةٌ
مرتَّبَةٌ من الأحكام والشروط تعرف طريقَها رويدًا رويدًا إلى المدونة الفقهية، في
بناءٍ عقليٍّ حضاريّ.
لكن هذا البناء العقلي الفقهي – شأنه شأن كل منتَج عقلي حضاري يتفاعل مع معطيات
الواقع إيجابًا وسَلبًا – يُستغرق أحيانًا في شكل من أشكال اللذة المعرفية التي لا
تسعى خلف أي نفع واقعي. هكذا يحدث في الرياضيات الترفيهية، وهكذا يحدث في مسائل
الفقه الغريبة التي تبدو لنا بالغة الشطَط. هي منتَج حضاري في أصلها، حتى وإن بدت
موضوعاتها للبعض محرضةً على رِدَّة حضارية، وذلك أنها محض إعمالٍ لآليات ومبادئ
الاستنباط الفقهي في موضوعاتٍ متباينة الحظوظ من الخيال والافتراضية.
وحين يصِلنا خبر عن العز بن عبد السلام رحمة الله عليه وقد أُلقِي به في
زنزانة ومعه أسد، فينشغل بالتفكير في مسألة فقهية عن لُعاب الأسد وهل ينقض الوضوء
أو لا ينقضه، فسواءٌ صحّ الخبر أو لم يصِحّ، يبدو الأقرب للحِسّ المُشترَك أنّ هذا
الانشغال اللحظيّ للفقيه العظيم ليس وليد أسطورة أو تزَيُّد، كما أنه ليس بالضرورة
نابعًا من تقواه المعروفة، وإنما هو الهاجس الطبيعي الذي لا يستطيع صاحب الشغف
المعرفي مقاومتَه، تمامًا كما يتذكر سينمائيٌّ مُخلِص أفلامَ الكوارث حين يتعرض
لزلزال أو كارثة من أي نوع!
غير أنه من الشطّط كذلك أن نتّهم المدونة الفقهية الإسلامية كلها بالعبث
والانصراف عن المصالح العامة وما يهم الناس بناءً على وجود هذه المسائل التي لا
تشغل إلا هامشًا بسيطًا، بينما المتن يكتظّ بمناقشة هذه المصالح بشكلٍ واقعيٍّ،
نتّفق ونختلف معه، لكن نظرةً متأنيةً في أي كتابٍ فقهيٍّ جامعٍ كفيلةٌ بتأكيد هذا
المتن. وإن كان الهامش مهمًّا – كعادة الهوامش في كل الأبنية الحضارية – في إلقاء
الضوء على تلك الوظيفة المزدوجة للفقه: تديين الدنيوي واستلاب المقدَّس.
أخيرًا، ربما يُقال إن الُهوّة بين الرياضيات والفقه بعيدة، فالأولى علم
صوري كما أسلفنا القول، لا يعبأ بالواقع أصلاً، بينما الفقه أقرب في موضوعه إلى
العلوم الاجتماعية فهو مغروس في تربة الواقع، ولذا جاز للرياضيات ما لا يجوز
للفقه، وإذا انحرف الفقه عن مناقشة الواقع وقع في الشطّط. وهو اعتراض وجيه
بالتأكيد، لكنه يفترض مثاليةً تكاد تكون مستحيلة في الفقيه الشغوف بحقله المعرفي.
مثالية تتفق وما تكرسه أصول الفقه كما نجدها عند الشاطبي، لكن العقل لا ينصاع
دائمًا لما تضعه الأصول من حدود. وربما يجوز لنا أن نثور لو وُجدت تلك المسائل
الغريبة متناثرةً في متن المباحث الفقهية الجادّة الواقعية، أما إذا ضمّتها حواشٍ
مخصوصة للمسائل الخيالية والافتراضية، بحيث توفّر معادلاً موضوعيًّا لتريُّض طالب
الفقه – شأنها شأن الرياضيات الترفيهية – فحينئذٍ لا نرى داعيًا حقيقيًّا للثورة.
ستكون مجرد رياضة ذهنية ذات طبيعة خاصّة!