هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز"تقريرا لمراسلها في المملكة المتحدة بنجامين مولر قال فيه إن أطباء ثمانية جاؤوا إلى بريطانيا من مناطق مختلفة من إمبراطوريتها السابقة، وأصبحوا جنودا في مجهود بناء الخدمات الصحية بعد الحرب العالمية الثانية، وقتلهم فيروس كورونا.
وأصبحت أسماؤهم في قائمة أليمة، ضمن الذين توفوا بعد الإصابة بفيروس كورونا في الخدمات الصحية الوطنية (NHS) في بريطانيا.
وبالنسبة لبلد تمزق في السنوات الأخيرة بسبب بريكسيت والحركة المعادية للهجرة التي تمخض عنها، فإن وفاة الأطباء الثمانية – من مصر والهند ونيجيريا وباكستان وسريلانكا والسودان – تشهد على الاعتماد غير العادي للخدمات الصحية في بريطانيا على العاملين الأجانب.
إنها قصة مشوبة بالعنصرية، حيث الأطباء البريطانيون البيض احتلوا بشكل كبير الاختصاصات المرموقة، بينما وجد الأطباء الأجانب العمل في الأماكن التي من الواضح أنها تضعهم في خطوط الخطر الأولى لجائحة فيروس كورونا.
وقال الدكتور هشام الخضر الذي توفي قريبه الدكتور عادل الطيار، جراح زراعة الأعضاء، في 25 آذار/ مارس في غرب لندن: "عندما وقف الناس في الشوارع يحيون العاملين في الخدمات الصحية الوطنية قلت لنفسي قبل عام ونصف كان هؤلاء يتحدثون عن بريكسيت وكيف جاء هؤلاء المهاجرين ليحتلوا وظائفنا".
وأضاف الخضر الذي يعمل جراحا في مدينة نوريتش: "اليوم إنهم المهاجرون أنفسهم هم من يحاولون العمل مع أهل البلد ويموتون في الخطوط الأولى".
ومع حلول يوم الثلاثاء كان قد مات 7079 شخصا في المستشفيات البريطانية بسبب فيروس كورونا، بحسب ما قالت الحكومة يوم الأربعاء، قفزة كبيرة وصلت إلى 938 شخصا خلال اليوم السابق وهو أكبر عدد وفيات في يوم واحد.
وللاطلاع على كامل الإحصائيات الأخيرة لفيروس كورونا عبر صفحتنا الخاصة اضغط هنا
ولم تتضمن قائمة الضحايا الأطباء الثمانية فقط ولكن عددا من الممرضات اللواتي عملن معهم، واحدة منهن على الأقل من أصول أجنبية. وهناك عبء كبير على العاملين في الصحة حيث امتلأت المستشفيات في أنحاء البلد بالمرضى، بمن فيهم رئيس الوزراء، بوريس جونسون، الذي تم إدخاله هذا الأسبوع إلى غرفة العناية المركزة بسبب إصابته بفيروس كورونا.
وبريطانيا ليست البلد الوحيد المدين للأطباء الأجانب وسط رعب وفوضى الجائحة. في أمريكا حيث يشكل المهاجرون أكثر من ربع الأطباء ولكنهم يواجهون في العادة أوقات انتظار طويلة للحصول على البطاقة الخضراء، وقامت كل من نيويورك ونيوجيرسي بفتح الطريق أمام الأطباء المتخرجين من الخارج أن يشاركوا في مجهود التعامل مع فيروس كورونا.
ولكن بريطانيا، حيث ما يقارب من ثلث أطباء مستشفيات الخدمات الصحية من المهاجرين، لها علاقات قوية مع كليات الطب في مستعمراتها السابقة، مما يجعلها وجهة طبيعية لخريجيها.
وكان هذا هو حال الدكتور الطيار، 64 عاما، والولد الأكبر لموظف حكومي وزوجته التي عملت ربة بيت في عطبرة في السودان، وهي مدينة على خط السكة الحديدية على نهر النيل.
وكان له 11 أخا وأختا، أحدهم ترك أثرا خاصا: عثمان الذي مرض عندما كان طفلا ومات دون أن يجد العلاج الملائم. ومع أن الدكتور الطيار بالكاد تحدث عنه إلا أنه أطلق اسمه على ابنه الأكبر.
وقال قريبه الدكتور الخضر: "أنا أعتقد أن ذلك ما قاده إلى دراسة الطب.. فلم يكن يريد أن يشعر أحد آخر في العائلة بذلك".
وبعد تخرجه من جامعة الخرطوم أراد الدكتور الطيار أن يساعد في علاج أمراض الكلى والتي كانت تجتاح دول جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. ولذلك انتقل إلى بريطانيا في أوائل التسعينات للتدرب كاختصاصي في جراحة زراعة الأعضاء. ثم عاد إلى أفريقيا في حدود عام 2010 حيث ساعد على إنشاء برنامج زراعة أعضاء هناك.
ولكن الوضع السياسي المتدهور في السودان وولادة ابن جديد له أقنعه بالعودة للاستقرار في بريطانيا حيث عاد ليعمل مرة ثانية مع الخدمات الصحية. وحيث خسر موقعه كطبيب كبير عندما غادر إلى السودان، عمل في وحدة تقييم جراحية في هارتفوردشاير شمال غرب لندن، حيث كان يفحص المرضى القادمين من غرف الطوارئ.
وتعتقد عائلته أنه أصيب بالفيروس في عمله حيث لم يكن يرتدي من الملابس الواقية إلا الأساسية. وحيث كان يعزل نفسه في بيته في غرب لندن وبينما كان يجلس بجانب ابنه البالغ 12 عاما ضعف نفسه لدرجة أنه لم يستطع قول جملة، وعندما وضع على جهاز تنفس لم يستطع قلبه التحمل.
ويقول الدكتور الخضر بأن قريبه الدكتور الطيار ربما بقي حيا لو قامت الخدمات الصحية بفحص مرضى المستشفيات لفيروس كورونا في وقت مبكر أكثر أو زودت الأطباء بملابس وقاية أفضل.
وقال: "عندما نقوما بتحليلات المرض والوفاة ندقق في كل حالة ونسأل 'هل كان يمكن الوقاية؟ وهل كان يمكن التجنب؟'.. وعندما أحاول الإجابة عن هذه الأسئلة اليوم بخصوص قريبي، فبالرغم من كل الصعوبات، يجب علي القول إن الجواب هو نعم".
ويقول المحللون إن نقص الأطباء في البلدان التي يمزقها فيروس كورونا سيجعل الأمور أسوأ مع انتشار المرض. ومع أن أجهزة التنفس هي أكثر النواقص حاليا فإن النقص في الأطباء والممرضات المدربين على تشغيلها قد يترك المستشفيات غير قادرة على استخدامها حتى عند توفرها.
بتشغيل أطباء أجانب، توفر بريطانيا حوالي 270000 دولار أمريكي من أموال الضرائب وهو ما يكلف تدريب الطبيب محليا، وهذه هبة لنظام لا ينفق على تعليم الأطباء حتى لتشغيل مستشفياته. وهذا في الواقع يجعل بريطانيا تعتمد على سخاء الدول التي لديها أنظمة صحة أضعف لتدريب قوتها [الطبية] العاملة.
ومع ذلك توضع العقبات أمام الأطباء الأجانب على شكل آلاف الدولارات للحصول على التأشيرة والإقامة وفوق ذلك 500 دولار رسوم لاستخدام الخدمات الطبية التي يعملون فيها.
ولاستثنائهم من التخصصات المرموقة، يعمل الأطباء المهاجرون فيما يطلق عليه تخصصات سندريلا مثل الطب العائلي وطب المسنين فأصبحوا أعمدة للنظام الصحي في بريطانيا. وليس مثل الأطباء المولودين في بريطانيا الأكثر اختيارية، قام الأطباء المهاجرون بقبول العمل تاريخيا فيما أسماه أحد أعضاء البرلمان عام 1961 "أعفن وأسوأ المستشفيات في البلد".
وقال الدكتور أنيس إسماعيل، أستاذ الطب العام في جامعة مانشستر: "الأطباء المهاجرون هم معماريو [نظام] الخدمات الصحية الوطنية – فهم من بنوه وهم من أبقوه متماسكا وعملوا في أقل المناطق شعبية وأكثرها صعوبة، حيث لا يريد الأطباء البريطانيون البيض العمل.. إنها قصة مغيبة".
وعندما انتقل الدكتور الطيار إلى بريطانيا في تسعينات القرن الماضي كان يسير على خطى عائلة طبيب آخر توفي أيضا بفيروس كورونا: الدكتور أمجد الحوراني، 55 عاما.
وكان الدكتور الحوراني أخصائي أذن وأنف وحنجرة، في الحادية عشرة من عمره عندما انتقل أبوه، أخصائي الأشعة، وعائلته عام 1975 من الخرطوم إلى تونتون، وهي بلدة في شمال غرب إنجلترا ومنها إلى مدينة بريستول القريبة.
وكان العديد من الأطباء السودانيين وقتها يأتون لبريطانيا لصقل كفاءاتهم قبل العودة إلى السودان أو الذهاب للعمل في دول الخليج برواتب أفضل. ولكن عائلة الدكتور الحوراني حولت بيتها إلى محطة انطلاق للأطباء السودانيين المهتمين بالبقاء فترة أطول حيث استضافت عائلاتهم في أوقات الامتحانات أو البحث عن سكن.
ويقول أمل الحوراني، شقيق الدكتور أمجد الأصغر منه: "كانت أمي سعيدة بكثرة الضيوف.. لقد أحبت ذلك".
وكون الشخص بريطانيا سودانيا في ثمانينات القرن الماضي ليس سهلا. وكان هناك أحداث شغب في المدن المختلفة في بريطانيا بسبب العنصرية. وكانت المساجد قليلة. ودرس الدكتور الحوراني في مدارس كانت فصولها بشكل كامل تقريبا من البيض.
وكان الطبيب الشاب يقف مع عائلته بصمت: فعندما حاول أحدهم قطع شجرة عمرها مئة عام في حديقتهم قام بإنقاذ الشجرة.
ومع ذلك كان التمييز يقلقه، فعندما جاء الوقت ليمشي على خطى والده ويدرس الطب قال لأخيه إنه "يرغب في دراسة جراحة العظام ولكنه شعر أنه بسبب التمييز لن يحصل على ذلك التخصص".
وزاد إصراره عندما توفي أخوه الأكبر عن عمر 29 بأسباب تتعلق بالربو، وكان هو من وجد أخاه ميتا.
وقد تسبب فيروس كورونا بخسائر كبيرة للأطباء المهاجرين في أنحاء بريطانيا حيث هناك على الأقل ستة آخرون فقدوا الحياة: الدكتور حبيب الزيدي، 76، طبيب عام لفترة طويلة من باكستان والدكتور ألفا سعدو، 68، طبيب مسنين من نيجيريا، والدكتور جيتندرا راثود، 62، جراح قلب من الهند والدكتور انتون سبستيانبيلاي، في السبعينات من عمره، طبيب مسنين من سيريلانكا والدكتور محمد سامي شوشة، 79 عاما، أخصائي أنسجة الثدي من مصر، والدكتور سيد حيدر، في الثمانينات، طبيب عام من باكستان.
ويتذكر باري هادسون، الذي كان أحد مرضى الدكتور الزيدي مناقشاتهما عن فريق الكريكت الإنجليزي ويقول: "كان شخصا بارزا في المجتمع المحلي.. وكانت لديه أخلاق الطبيب الصحيحة ولم يستعجل أي شخص".
وتم دفن الدكتور الطيار في السودان بجانب والده وجده كما أوصى. ولكن لأن طائرات الشحن فقط هي المسموح لها بالسفر لم يكن بإمكان زوجته وأولاده أن يرافقوا جثمانه.
أما جنازة الدكتور الحوراني فقام إمام بصلاة الجنازة عليه مع مجموعة صغيرة متباعدة وقام إخوة الطبيب الأربعة وابنه بإنزال التابوت في القبر، ثم ذهبوا.
أما أخوه أمل الحوراني فسمح لنفسه باحتضانه حيث قال: "لم أستطع إيقاف نفسي".