(1)
أرجوك لا تستمر في قراءة هذا المقال قبل أن تتوقف فترة مع هذه الأسئلة وتفكر في إجابة عميقة لها. كلمة "عميقة" هنا تعني ببساطة أن تهمل أول إجابة سريعة تقفز إلى لسانك، ثم ترمي الثانية إلى هامش الشعور، وربما تحتاج لإزاحة الثالثة قبل أن تبدأ في مناقشة الإجابة الرابعة مع نفسك.
- ما الذي دفعك لدخول هذا الموقع، وهذا القسم، والتوقف عن هذا المقال للتصفح أو القراءة؟
- ما هو تقييمك المسبق للموقع؟ وللكاتب؟ ولعنوان المقال؟
- ما مدى اختلاف تعليقاتك على المقالات والقضايا المختلفة التي قرأتها من قبل؟ بمعنى هل تناسب التعليق مع موضوع كل مقال؟ أم أن لديك موقفا مسبقا جاهزا، وآراء محسومة ومغلقة، تكتفي بتكرارها في كل تعليق للعرض والتأكيد، وليس للتفاعل والحوار والسؤال؟
- هل تأثرت قناعاتك في أي مرة، بعد قراءة مقال مخالف لأفكارك أو معلوماتك؟
- هل فكرت يوماً بأن الكلام الذي تقوله ليس كلامك بالضبط، لكنه ناتج تأثيرات خارجية كثيرة، أو بمعنى مباشر: هل شعرت يوماً أن هناك من يضع الكلام في فمك، وأنت مجرد ناطق؟
(2)
مشكلتي في الكتابة والحياة عموما، لأنني لا أنسى الوردة وقت الحديث عن الخبز، ولا أهمل الحب وقت الكتابة عن الحرب، لذلك تبدو تعبيراتي متداخلة، وتبدو كتابتي هائمة بلا موضوع محدد، وكثيراً بلا حلول نهائية ومواعظ واثقة ومطالبات قاطعة، لكنني في هذا المقال سأحاول على سبيل التجربة أن أقلل عدد مسارات المتاهة وأحدد مسبقا الموضوع الذي استدرجكم للتفكير فيه، وهو يخص حالة الطالبة "حنين حسام" التي تحولت إلى قضية شغلت العقل
المصري شعبيا ورسمياً، كما يخص الأزمة الموازية التي طرحها مقال
الكاتب "نيوتن" في صحيفة "المصري اليوم" عن وضعية سيناء.
فالقضية الأولى نالت اهتماما واسعا من الإعلام الرسمي ومن إدارة أعرق جامعة مصرية (جامعة القاهرة)، ووصلت إلى اهتمام النائب العام الذي اصدر سريعا قرارا باستدعاء الطالبة والتحقيق معها، وبدرجة أقل نال مقال نيوتن الاهتمام والتحقيق والعقوبات. وفي الحالين كان الخوف من الكلام رسمياً، إذ تحركت ضدهما مؤسسات الدولة بتناغم واضح، لكن التدقيق أكثر يكشف أن الجدال كان مشتعلا في الشارع بين الناس، فقد ظهرت عشرات الفيديوهات ومقاطع البث المباشر للتعليق على حالة "حنين حسام" التي صنعت شعبية كبيرة على موقع "تيك توك" وسط فئات من المراهقين والمراهقات، وتضمنت الفيديوهات اشتباكات تناقش اللغة الإنجليزية ومستوى ثقافة المعجبين بها وتصنيفهم العمري، من جودة المحتوى الذي تقدمه. وظل كل هذا الاقتتال الكلامي مسكوتا عنه من جانب
السلطة، حتى اصطاد الإعلام فيديو قصيرا تطلب فيه الفتاة مشاركة غيرها في غرف مصورة للتعارف والدردشة مقابل مكافآت مالية، وهي تجارة معروفة ومنتشرة في أنحاء العالم، لكن الإعلام الموالي للدولة انطلق مدافعا عن "أخلاق المجتمع"، ووصف دعوة الطالبة العلنية بأنها دعوة للفجور، وتزيين طريق الانحراف لبنات الأسر الشريفة في بلد الأزهر!
فهل القضية فعلا هي قضية خوف دولة السلام الدافئ على دخول سيناء في مزاد السوق المفتوح؟ وهل القضية فعلا هي خوف السلطان من تأثير غرف الدردشة على أخلاق الفتيات؟
(3)
لن أناقش القضيتين (نيوتن وحنين) من منطلقات وطنية أو أخلاقية، سأناقشها معكم في حدود الأسئلة التي طرحتها في مدخل المقال:
- من وضع الكلام في فم حنين وعلى لسان نيوتن؟
- من وضع الكلام أيضا على لسان الديهي والخشت والنائب العام؟
- وإذا جردنا هذا الكلام من الصوت العالي والغوغائية والإجراءات الرسمية التي تحرف الكلام عمدا من مسار العالم المفتوح وحريات العولمة و"ابويا عارف" إلى المسار الجنائي والقانوني والاحتكام لعصا الدولة ورجالها؟
- وإذا نظرنا إلى كلام كل من نيوتن وحنين (كمثال) ووضعناه في وضعية مقارنة مع السياسات الرسمية للدولة وخطابها الرسمي والإعلامي، ومع وقائع وممارسات كثيرة ومتكررة، فسوف نجد أن نفس الكلام بصياغات وأسماء أخرى قوبل بالتحية والترحيب والإشادة بالانفتاح والتنوير على طريقة الدكتورة بنت الباشمهندس والكائن الخرسيتي!
عند هذه المفارقة ينتبه المواطن البريء الباحث عن استقامة الكلام والمنطق، ويبدأ رأسه في هزة بندولية سريعة يمينا ويسارا، كأنه ينفض هذه الزفة التجريسية عن أفكاره، ثم يسأل ببراءة واستبيان: أين المشكلة؟.. المشكلة فين؟
هل المشكلة في وجود طرف خارجي وضع الكلام في فم نيوتن بغرض مشبوه يهدف إلى نزع سيناء من وحدة الأرض المصرية وتوظيفها كسوق مفتوح في المشروع الشرق الأوسطي الجديد؟
هل نيوتن هو الذي وقع كامب ديفيد وسمح لإسرائيل بالاحتفال على شاطئ النيل بتأسيس دولته الصديقة؟ وهل هو الوحيد الذي يقيم علاقات تجارية ويروج للسلام المسموم؟ أم أن نظام كامب ديفيد هو الذي وضع الكلام في فمه؟
هل المشكلة في وجود جهة خارجية وضعت الكلام في فم حنين لإفساد الشرف المصري وتسليع البنات للمتعة في غرف الشات؟
والأهم: هل هذا الاتجاه مضاد لسياسات الدولة؟
يعني هل الدولة الفاضلة تسعى إلى دمج سيناء طبيعيا في الجسد الجغرافي والسكاني لمصر، والمانع هو نيوتن الانفصالي التطبيعي بتاع إسرائيل؟!
وما المشكلة أصلا في إدارة بعض المحافظات باستقلالية دون "إله المركزية"؟
وهل كان النقاش مثلا في نمط الإدارة الفيدرالية.. مميزاته وعيوبه؟ أم أن المقصود هو افتعال ضجة من جانب صحف ومؤسسات لم تعارض من قبل العلاقات التطبيعية مع إسرائيل، ربما لطرح الموضوع ووضع الكلام في فم كثيرين في سفح المجتمع بحيث يسهل تطبيع الحال المقرر سلفاً؟
وعلى مستوى
الأخلاق وهوية الشباب وصرعات اللايف و"التيك توك"، هل تمتلك الدولة خطة لتحفيز نموذج المرأة العالمة النافعة صاحبة الرأي والموقف والفهم التحرري الصحيح، وتحاصر مظاهر التفسخ والانحلال ونماذج فيفي عبده وسما المصري، وبرامج الراقصات والمسابقات والتسالي على الشاشات المملوكة والمدعومة والموجهة من أجهزة الدولة على السواء؟!
طبعا لن أقدم إجابات جاهزة كما اتفقنا، فالإجابة هي حصيلة تفكيرك وتأملاتك، وما هذه السطور إلا عوامل مساعدة وتحفيز لتملتك الإجابة التي تناسب ثقافتك وأخلاقك وهويتك وتصوراتك للحياة التي تعيشها
(4)
في إطار اهتمامي بالتفكير الاستراتيجي في مشهد الوباء والتداعيات التي ستعقبه، توقفت كثيرا أمام ثنائية القديم والجديد، فقد انفرط الكلام عن اقتراب زوال العالم القديم والتبشير بمتغيرات هائلة تؤدي إلى ظهور "عالم جديد" أو "نظام عالمي جديد". يعجبني هذا الفهم لحركة التاريخ في العالم، لأنه يستند على قانون حتمي اسمه "الصيرورة"، أي التغير الإجباري أو التغير بالضرورة، بحيث لا يبقى للإنسان إلا ترويض هذا التغيير لصالحه كما نجح الأسلاف في ترويض الحصان. لكن الأمور لا تمضي بهذه البساطة وبهذا الاختزال الذي يساوي بين كلام حنين عن غرف الدردشة المفتوحة، ودعوتها الساذجة لتكوين وكالة توظف فيها فتيات بأجر في مهمة تجارية تخضع لقواعد التحكم المالي للدولة أكثر مما تخضع للكلام المطاطي عن الأخلاق والفضيلة!!
إممممم.. القصة إذن تخص "الفكة" واسم صاحب التوكيل.. تخص التصريح.. تخص الحصول على إذن ودفع ضرائب، حتى لو كانت التجارة ضد الأخلاق، فالبائع الرأسمالي في نظام السوق لا يهتم بالفروق الأخلاقية بين سلعة وسلعة. فقد يكسب من المايوه أكثر مما يكسب من النقاب، وقد يكسب من الدواء أكثر مما يكسب من الخمر، وهذا لا يعني فضيلة ولا يحزنون، كما لا يضمن لنا عدالة النظر إلى التاجر أخلاقيا ووطنياً على أساس نوعية السلعة وفقط، خاصة في عالم يرفع شعار: الوسائل صارت هي الرسائل. وبالتالي فهناك احتمال أن الدولة نفسها ساهمت بدرجة كبيرة في وضع الكلام الذي قيل على لسان كل من نيوتن وحنين، لأنها سلكت هذا الطريق كتاجر جملة، وما هؤلاء الناطقون إلا صدى فردي لصوت ورغبات الدولة، ولو كانت السلطات فعلا ضد اتجاه كل من نيوتن وحنين، فلتثبت لنا أنها لا تدعم مخطط الشرق الأوسط المريب، والطروحات المتعلقة بمنطقة مفتوحة ضخمة تشمل سيناء وأجزاء من الأردن ومساحة مشروع "نيوم" في شمال غربي الجزيرة العربية، ولتثبت لنا أيضا حرصها على الهوية والنسق الأخلاقي غير التابع بمذلة وانعدام إرادة لشروط السوق الكوني المفتوح وإملاءات العولمة ومسخ الهويات المحلية، والذي يتجلى في كل أنواع السلوك، من الملبس إلى الغناء إلى نوعية الوظائف وتنمية النزعة الاستهلاكية والشهرة المجانية وغلبة التسويق والتقليد على التفكير والإبداع.
(5)
المقولة العامة للبسطاء والعلماء معاً تتلخص في الحديث عن مرحلة انتقالية يخرج في العالم من "قديم" فشل في إسعاده وتأمينه، إلى "جديد" مجهول تتعدد الآمال فيه إلى درجة التناقض، لكن ما الفرق إذن بين العلماء والناس العاديين، خاصة وأن الكلام يبدو متشابهاً، والكل "يهبد" بنفس الثقة والقدرة على دحض آراء الغير، والتشكيك السريع في كل الأطروحات حتى ما ينطق به علماء حاصلون على نوبل؟
لدي هناك بعض التفسيرات التي قد تساعدك في البحث عن إجابة تخصك، أو على الأقل تساعدك في الإفلات من شبكة الخيوط المتداخلة للآراء المتصادمة. والحكاية الأولى تتعلق بثنائية غير مشهورة لكنها مهمة ولفتت نظري منذ سنوات، وهي ثنائية أبعد من حدود الصراع بين القديم والجديد بالشكل البسيط الذي يذهب إليه الجميع بنفس الاندفاع بين عالم ومواطن بسيط، والثنائية الأعمق هي الفرق بين الجديد والجديد! وهذا الفرق لا يمكن فهمه إذا لم نراقب الفرق في اللغة الأصلية بين الجديد بمعنى "new" والجديد بمعنى "neo". إذا تبدو "new" الأولى أقرب للقديم والمولود بشكل اعتيادي وفطري، بينما تبدو "neo" الثانية أقرب للعالم المستهدف تحديثه، عالم إعادة صياغة كل شيء. فالأولى تعني الشيء الذي ظهر ولم يكن موجودا من قبل، بينما تعني الثانية "الريفورم"، أي إعادة تشكيل المفاهيم والعادات والأخلاق والسلوك.
لهذا مثلا كان البطل في سلسلة ماتريكس اسمه "neo" وهي البادئة التي دخلت اللغة، وارتبطت بموجة الديجيتال والواقع الافتراضي، وتقديم تصورات لليبرالية الجديدة والمفاهيم التي تصلح لعالم تجلس فيه حنين داخل غرفتها وتغلق الباب وتفتح الكاميرا لتقدم التسلية والمتعة لشاب خلف الأبواب المغلقة في أكرا أو سانتياجو. ولا شك في أن مفارقة الأبواب المغلقة والكاميرات المفتوحة، هي المفارقة الأبرز التي كرستها حالة الحجر الصحي في العالم، فهي مفارقة تعيد تشكيل حركة وعلاقات الإنسان النيو، ولا تنسوا أنها بحرف "الأو" وليس "الدبليو"!!
(6)
الحكاية الثانية التي قد تساعد في التفسير، تتعلق بحوار جدلي عن الفن والواقعية بين عدد من كبار المبدعين في إيطاليا: بازوليني ومورافيا وبرتولوتشي وروسيليني، أثناء التحضير لفيلم "أوديب ملكاً"، حيث تحمس بازوليني للواقعية المباشرة وقال يمكنني أن أستعير شحصية "زبال" من الواقع كما هو، وأجعله بطلاً لعمل فني، لكن مورافيا اعترض قائلا إن الواقعية الفنية لها قواعد وخيال خصب غير تقديم الواقع كما هو، فالفن ليس هو الواقع المباشر. ولما اعترض بازوليني وأعاد التأكيد على أهمية الواقعية بحيث يمكن النظر للزبال كصورة فنية إبداعية، ضحك مورافيا ساخراً وهو يقول: هاهاها واقعية جديدة!!
هنا تدخل برتولوتشي ليسأل بازوليني: هل تأخذ الزبال كما هو في الواقع فقط، أم تأخذ فمه لتضع فيه ما يناسبك من كلام؟
رد بازوليني: هل تريدني أن أجعل الزبال يتكلم مثل هيجل ويقول الديالكتيك والفكرة النقيضة.. إلخ؟
قال برتولوتشي: نعم أنا أستطيع أن أضع الفلسفة في فم زبال، ليكون زبالا واقعيا في شكله وفنيا في رسالة التعبير، حتى لا ينطق فقط بكلمات بذيئة من عينة "Li mortacci tua" (شتيمة إيطالية دارجة توازي يلعن ميتين أهلك في قاموس الشتائم المصرية). ثم أضاف برتولوتشي: ثم ألا يمكنك أن تجد في الواقع الفعلي زبالاً يتحدث مثل هيجل؟ إذاً هو في كل الأحوال شخصية واقعية مهما كانت الطريقة التي يتكلم بها، لكن المحدد الرئيسي لقيمة الشخصية يرتبط بالكلام الذي تستطيع أنت أن تضعه في فمه!
وفسر بازوليني في مقال مفصل بعد ذلك، فكرة الخوف التي تكمن في النفوس من الواقع بدرجة أكبر بكثير من الفن. لذلك فإن السلطات قد تتسامح مع مشاهد الإغراء في السينما ومع حالات من نوع بنت الباشمهندس وناعوت ومنتصر ومرتضى وياسمين الخطيب وسما المصري، برغم بذاءتهم، لكنها تبدأ التحرك إذا خرجت هذه الحالات من مساحة التحكم في دورها لتتحول إلى تيار اجتماعي بين الناس يصعب السيطرة عليه، وهذا يعكس خوف السلطات القديمة من الواقع، حتى لو كان هو نفس ما يفعلونه في حدود محكومة يمكن السيطرة عليها، وبالتالي فإن ترك أو تحجيم نيوتن وحنين ومرتضى وغيرهم محكوم باستمرار تحكم الدولة في اللعبة، وليس في معارضتها للعمل كله. فالدولة تضع الكلام على فم إلهام شاهين ويسرا وأحمد فلوكس، لكنها لا تسمح بتعميم نفس الكلمات بلا تحكم، فالدولة هي المسؤول الرسمي والوحيد في إدارة شؤون سيناء وإدارة شؤون الأخلاق، ولا يهمها في ذلك الحفاظ أو التفريط، يهمها أن تنفذ ما تريده باعتباره الصحيح، وتضع الكلام بالطريقة التي تراها والجرعة التي تقدرها في الأوقات التي ترتبها، ومن يخرج يتم استبداله بممثل آخر يلتزم بنص الكلام في التزامن المطلوب، حتى لا يحدث أي التباس..
(7)
وكما بدأت بالسؤال أتوقف عند سؤال: هل الدولة المصرية التي تزجر حنين ونيوتن، لديها كلام مخالف للمعروض في السوق؟ وإذا كان لديها فلماذا لا تقوله لكي تضع كلاما جديدا عن الوطنية والأخلاق على أفواه الناطقين باسمها من حنين إلى فيفي إلى نيوتن؟
[email protected]