قضايا وآراء

جذور العنصرية في التاريخ الأمريكي (1)

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600

الاحتجاجات واسعة النطاق التي اندلعت في الولايات المتحدة الأمريكية عقب قتل شرطي عنصري الشاب الأمريكي من أصل أفريقي، "جورج فلويد"، خنقاً؛ لم تكن مجرد رد فعل على حادثة واحدة تورط فيها بضعة أفراد من الشرطة، وكان يمكن أن تطوى صفحتها بمحاسبة الفاعلين، بل كانت استدعاءً لتاريخ مرير عميق الجذور بدأ قبل أربعة قرون؛ مع قدوم المستعمرين الأوروبيين إلى القارة المكتشفة حديثاً واستقدام الأفارقة كرهاً لاستعبادهم.

ثمة نوعان من التطرف في التفاعل مع احتجاجات الولايات المتحدة، فأما النوع الأول فهو استغلال هذه الأحداث لإرضاء الشعور عن الذات، وهو النوع الذي يتسم به عادةً الشعور النفسي للضعيف مع كبوة القوي، فيبرر لنفسه ضعفه وعجزه ما دام الأقوياء يخطئون أيضاً! وأما النوع الثاني من التطرف فهو المبالغة في جلد الذات وادعاء أنه لا يحق لنا الحديث عن عنصرية الآخرين لأن عندنا عنصريتنا أيضاً. وهذه النظرة تنطلق من فقدان الثقة بالذات وتغلغل شعور الضعف والهزيمة داخل النفس، بينما النظر إلى تجارب الآخرين بأنها مكتملة أو أقرب إلى المثالية.

يتجاهل التطرف الأول أن الشعب الأمريكي هو من أكثر شعوب العالم فاعليةً، وأن تجربته التاريخية تتضمن أيضاً تراثاً ملهماً من النضال المدني من أجل الحقوق، بينما يقدم التطرف الثاني مقارنات ساذجةً بين العنصرية الأمريكية والعنصرية في بلادنا، وهي مقارنة لا تدل إلا على عدم قراءة التجربة التاريخية الأمريكية ورؤية فرادتها في عشرات ملايين الضحايا الذين بني المجد الأمريكي على أنقاضهم.

بدأ توجه المستعمرين الأوروبيين الأوائل في المستعمرات الأمريكية إلى الاستعباد منذ بداية القرن السابع عشر، إذ نظروا إليه بأنه بديل عن العمالة المدفوعة، بينما كانوا ينظرون إلى السود بأنهم غير متساوين معهم في الإنسانية.

في فيرجينيا تعلم المستوطنون الأوروبيون من السكان الأصليين زراعة التبغ، وفي عام 1617 أرسلوا الحمولة الأولى من التبغ إلى إنجلترا فحقق لهم أرباحاً عاليةً.

عرف المستوطنون الأوائل أن زراعة التبغ وتصديره إلى إنجلترا هو طريق إلى الثراء، لكن ثار سؤال: من سيقوم بهذا العمل الشاق من زراعة التبغ وتحضيره للبيع؟

لم يتمكن المستوطنون من إجبار السكان الأصليين على العمل لديهم، إذ كان السكان الأصليون يفوقونهم عدداً، وبالرغم من أن المستوطنين كانوا قادرين على قتل السكان الأصليين ببنادقهم، إلا أنهم كانوا يعلمون أن بقية السكان الأصليين ربما ينتقمون لذويهم.

كان السكان الأصليون متجذرين في أرضهم وكانوا غير آبهين بالموت، وكانت الغابات الموحشة في نظر المستوطنين الوافدين هي وطنهم المألوف الذي يمكنهم الفرار إليه، لذلك عجز المستوطنون عن استعبادهم.

في عام 1619 أُحضر أول عشرين أفريقي إلى جيمس تاون وبيعوا هناك عبيداً. لم يكن بيع العبيد جديداً، إذ كانت عمليات استجلاب الأفارقة إلى مستعمرات برتغالية وإسبانية شائعةً. وفي ذلك العام كانت سفينة برتغالية تقل 350 أفريقياً، قبل أن تغير على السفينة باخرة بريطانية وتختطف منها عشرين أفريقياً؛ كانوا أوائل الأفارقة الذين بيعوا فيما عرف لاحقاً في الولايات المتحدة الأمريكية.

في آب/ أغسطس 2019، نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالاً للباحثة في تاريخ العبودية ماريا إيليوت والكاتبة ياسمين هاغيز، وذلك بمناسبة مرور 400 عام على إحضار العشرين أفريقي الأوائل إلى أمريكا.

تقول الكاتبتان إنه جرى إخضاع حوالي 12.5 مليون رجل وامرأة وطفل من أصل أفريقي لتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، وإن الأطفال شكلوا حوالي 26 في المئة من تجارة العبيد.

ويشير مقال نيويورك تايمز إلى أن بيع أجساد الأفارقة ومنتج عملهم أدى إلى ازدهار العالم الأطلسي، بما في ذلك أمريكا الشمالية الاستعمارية.

ويذكر المقال قانون فرجينيا الصادر عام 1662، الذي ينص على أن وضع الطفل يتبع وضع الأم، مما يعني أن النساء من أصل أفريقي المستعبدات أنجبن أجيالا من الأطفال الذين يُنظر إليهم كسلع. ويضيف أنه تم سن قوانين صارمة تحدد الوضع القائم على أساس العرق والطبقة، وأن السود في أمريكا كانوا يتعرضون للاستعباد مدى الحياة.

يقول المؤرخ الأمريكي هوارد زن: إن العبودية كانت معروفةً في أفريقيا، لكن العبودية الأمريكية كانت الشكل الأبشع في التاريخ، وذلك لسببين: أن الاستعباد الأمريكي كان مدفوعاً بسعار الربح غير المحدود، وثانياً أنها كانت مؤسسةً على الكراهية العنصرية، إذ كانوا ينظرون إلى البيض بأنهم السادة وإلى السود بأنهم العبيد وأنهم أقل من الآدميين.

شعر المستوطنون البيض أن الأفارقة خيار مناسب للاستعباد، إذ إنهم بخلاف السكان الأصليين منقطعون عن جذورهم، وهو ما يسهل استعبادهم!

بدأت المعاملة غير الآدمية للأفارقة من لحظة اختطافهم من بلادهم، إذ كانوا يقيدون بالسلاسل معاً ويجبرون على المشي إلى الساحل مسافةً طويلةً تصل أحياناً إلى ألف ميل. وبحسب هوارد زن، فإن اثنين من كل خمسة من الأفارقة ماتوا خلال مسيرة الموت، ومن نجا من الموت خلال المسير كان يوضع على متن السفينة في أقفاص حديدية، ويبقون فيها حتى يتم بيعهم في الجانب الآخر من المحيط.

بدأ الهولنديون بتجارة الأفارقة ثم تبعهم الإنجليز. وفي عام 1637 أبحرت أول سفينة أمريكية لتجارة العبيد، وكانت مقسمةً إلى أقفاص حديدية لحبس المختطفين الأفارقة فيها.

بحلول عام 1800 بلغ عدد الأفارقة الذين جيء بهم إلى القارة الأمريكية أكثر من 12 مليون أفريقي، بينما كان عدد الذين أخرجوا من أفريقيا حوالي خمسين مليون أفريقي، مات أغلبهم من التعب والمرض والتعذيب، وفضل بعضهم إلقاء نفسه في المحيط لوضع حد لآلامه. وقد وصف علماء أفارقة وأمريكيون تجارة الرقيق التي استمرت ثلاثة قرون عبر المحيط الأطلسي بالمحرقة والكارثة الكبرى و"الهولوكوست الأفريقي".

كان استجلاب الأفارقة وبيعهم عبيداً يجري قانونياً في الولايات المتحدة حتى عام 1808. في ذلك العام أصدرت حكومة الولايات المتحدة قانوناً يمنع استيراد رقيق جدد، بينما بقي استعباد الرقيق الموجودين فعلاً وأطفالهم بطريقة قانونية. لكن اقتصاد الولايات المتحدة كان مزدهراً في الزراعة والصناعة بفضل الرقيق، لذلك ظل استيراد الرقيق مستمراً بعد سن القانون بطريقة غير قانونية، واستجلب ربع مليون أفريقي جدد بعد قانون المنع حتى اندلاع الحرب الأهلية عام 1861.

يقول المؤرخ هوارد زن إن المستعمرين الأوروبيين كانوا ينظرون بدونيَّة إلى الثقافة الأفريقية، لكن الحقيقة أن مئة مليون أفريقي كانت لهم حضارتهم، وأنهم بنوا المدن الضخمة، وكانوا ماهرين في الزراعة والخياطة وصناعة الفخار والنحت، وأن الدول الأفريقية كانت مستقرةً ومنظمةً في القرن السادس عشر، بينما كانت الدول الأوروبية تبدأ للتو رحلة التطور.

لم ينظر المستعمرون إلى الأفارقة أبداً بأنهم بشر متساوون معهم، بل نظروا إليهم بأنهم أدوات للخدمة وتحسين الإنتاج، لذلك سعى مالكو المستعبَدين منذ الأيام الأولى إلى تجريدهم من ثقافتهم الأفريقية، وحرموهم من التعليم لأنهم كانوا يخشون أن يلهمهم التعليم الطموحات التحررية أو أن يعيد اتصالهم بانتمائهم الأفريقي.

إن التاريخ مترابط على نحو عجيب، وفي عصرنا الحاضر بعد 400 سنة يجيب الأفارقة الأمريكيون صدى انتزاعهم من جذورهم، فيحرصون على إظهار تميزهم الثقافي في طريقة لباسهم وطريقة تجديل شعورهم وفنونهم التراثية، بل وحتى في طريقة استعمال اللغة الإنجليزية، فيضفون إليها لكنةً تجعلها أكثر غموضاً وتعقيداً من اللغة الإنجليزية الرسمية، في محاولة جماعية لحماية الهوية الثقافية.

يتبع..

 

twitter.com/aburtema

التعليقات (1)
رائد عبيدو
الأربعاء، 03-06-2020 09:56 م
العنصرية الأوربية مرتبطة باحتلال أراضي الآخرين واستعباد الشعوب وإبادتهم وسرقة الثروات، وعلى هذه الثروات المسلوبة وهؤلاء العبيد قامت الحضارة الأوربية الحديثة. وما زالت نسبة كبيرة من الأوربيين ترى بقية الناس في مرتبة أدنى، فلم يدينوا جرائم أسلافهم، ولا تحملوا مسؤوليتهم عما يحدث اليوم لأهل البلاد الأصليين في القارتين الأمريكتيين وأستراليا وفلسطين والصومال وكشمير وهونج كونج ودول كثيرة أخرى، بل ما زالوا يصنعون أسلحة دمار شامل ويستخدمونها، ويساعدون محتلين وطغاة ومجرمين، ويطالبون أصحاب الحق والضعفاء والضحايا بالتنازل والاستسلام وضبط النفس.