قضايا وآراء

‎المشروع التركي الجديد.. ماذا يريد؟

محمد حامد
1300x600
1300x600
لا شك في أن المشروع التركي قد بدأت ملامحه تظهر تقريبا بعد تمكن النظام من السيطرة على مقاليد الحكم بتركيا. وكما هو معلوم أن حزب العدالة والتنمية يحكم تركيا منذ عام 2002 إلى يومنا هذا، وهو قد فاز بكل الانتخابات التي أجريت سواء النيابية أو الرئاسية أو الاستفتاء على الدستور. والحديث دائر حول ما هي طبيعة المشروع التركي الجديد، وماذا يريد؟ هل هو كما يلقبه أعداؤه "العثمانيون الجدد"؟ أم إنه مجرد حزب يريد أن يضع لتركيا مكانة في العالم الجديد، لتكون قوة إقليمية كبيرة بالمنطقة؟ والسؤال المطروح أيضا: ماذا تريد تركيا من كل هذا؟
 
‎يعتقد الأتراك بأنهم ظُلموا منذ سقوط الخلافة العثمانية، عن طريق الاتفاقيات المجحفة بحقها كوريث لإمبراطورية كانت تحكم مناطق شاسعة من المنطقة، وهي الدولة العثمانية. فهم الآن على خلاف مع حلفائهم التقليديين كأمريكا والاتحاد الأوروبي، حتى أن بعض الأصوات من الدول الأوروبية تطالب الناتو بطردها منه. وهي على خلاف أيضا مع كبرى الدول العربية، كالمملكة العربية السعودية وجمهورية مصر والإمارات، وخلاف مع روسيا حول سوريا وليبيا، وهي بحالة غليان (حرب) حاليا في شرق البحر المتوسط مع اليونان ومصر والكيان الصهيوني، فرأينا الاجتماع بينهم لتوزيع حصة الغاز من دون تركيا، فقامت تركيا بإرسال سفنها المتطورة للتنقيب على الغاز محمية من الجيش التركي!

إذا فالتوتر قائم، وحتى قبل سنوات قليلة لم تكن تركيا تملك قواعد عسكرية خارج أراضيها، ما عدا الوجود العسكري في شمالي قبرص الذي يعود لعام 1974، عندما أرسلت تركيا آلاف الجنود إلى الجزيرة بحجة حماية الأقلية التركية هناك، وهي الخطوة التي ألقت بظلالها لسنوات عديدة على علاقاتها مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية التي لم تعترف بجمهورية شمال قبرص التي أعلنتها تركيا من جانب واحد.

أما اليوم فهي تمتلك قواعد عسكرية في كل من الصومال وقطر وقبرص، ووجود عسكري في سوريا والعراق، ودعم عسكري ولوجيستي لحكومة الوفاق الليبية المعترف بها دوليا.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وخسارة دول المركز التي تضم الدولة العثمانية وألمانيا والمملكة البلغارية والنمسا والمجر، فُرضت على الدولة العثمانية شروط مهينة على وصف الأتراك، فكانت حرب الاستقلال بقيادة الزعيم مصطفى كمال أتاتورك لتحسين تلك الشروط، وكانت معاهدة لوزان عام 1923 التي حددت حدود تركيا الحالية. قبلت تركيا الاتفاقية لأنها كانت مرغمة بسبب ضعفها وخسارتها، أما اليوم بعد أكثر من 97 عاما على تلك الاتفاقية ترى تركيا أنها تملك فائض قوة، وأنها تستطيع تغيير اتفاقية لوزان بسبب قوتها وحضورها الإقليمي، فتركيا تعتبر متفوقة نسبياُ اقتصاديا على دول الجوار مع وجود مشاكل اقتصادية تعترف بها الحكومة، وأصبحت تعتمد على نفسها بشكل كبير بالتسليح الذاتي لجيشها وأصبحت من الدول الرائدة في صناعة الطائرات بدون الطيار، وهي ثاني أكبر جيش في حلف الناتو بعد أمريكا، وقد غدت ذات حضور قوي بالشرق الأوسط، وفي هذا الصدد يذكر رئيس الوزراء السابق البروفيسور أحمد داوود أغلو في كتابة "العمق الاستراتيجي" فكرة بأنه يجب أن يكون لتركيا دور أكبر من دورها الحالي. فهي يجب أن لا تكون فقط همزة وصل بين أوروبا والشرق الأوسط، بل تستطيع أن تكون قوة إقليمية عظمى (دولية)، فتكون لها سياسات مستقلة عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

‎إنّ من أشد الصعوبات والتحديات التي تواجه حزب العدالة والتنمية هي شريحة كبيرة من الشعب التركي نفسه الذي تربى على القومية وعلى العلمانية، وفي كثير من الأوقات علمانية صلبة ضد الدين الإسلامي. وقد حاول (وما يزال) الحزب من خلال أذرعه الإعلامية وخطابات الرئيس تغيير هذه النظرة تجاه الدين، مع أن الحزب يقول بأنه حزب محافظ معتدل وليس إسلاميا. وهذا ما عمل عليه الحزب خلال السنوات الطويلة أثناء حكمه، التي ستجعل تركيا ذات طابع إسلامي منفتحه على العربي وغير العربي لتغيير الهوية التركية الجديدة، وتنفتح على العالم الإسلامي أكثر.

وما أريد ذكره هنا أنه قد نجح في اختراق المجتمع التركي ولو جزئيا لتغيير الأفكار والأنماط خصوصا لشريحة الأطفال. وكمثال على التغيير الحاصل، استطاعت تركيا عام 2014 تدريس اللغة التركية القديمة، وإعادة تدريس الدين الإسلامي ومدارس إمام خطيب الذي بلغ عدد طلابها عام 2018 أكثر من مليون طالب، مقارنة بخمسين ألف طالب عام 2002، قبل تسلم الحزب السلطة.
 
إن المشروع التركي الجديد الذي يقوم على زيادة نفوذ الأتراك بالشرق الأوسط من خلال تغيير اتفاقية لوزان التي بدأ يتحدث عنها الساسة الأتراك، وعن طريق التنقيب في البحر المتوسط، وإعادة ترسيم الحدود مع ليبيا من أجل زيادة حصتها من الغاز، وإقامة قواعد عسكرية خارج تركيا.. يؤكد أن الصدام مع المحيط خيار قائم وبقوة في ظل إصرار الحزب الحاكم بتركيا على مشروعه الجديد بالمنطقة.

وهنا لا نقول بأن الحزب يريد إحياء العثمانية من جديد، بل يريد بسط هيمنته بشكل أكبر في المنطقة ليصبح دولة إقليمية قوية.

‎ومما لا شك فيه أن دور الأتراك بدأ بالظهور بعد الربيع العربي أواخر عام 2010؛ من دخولها في الصراع السوري، ودعمها ورهانها على صعود الإخوان المسلمين في مصر خصوصا (لكن بكل أسف فشلت التجربة، ومن الممكن أن يكون هذا الرهان قائما على المدى البعيد، ورفضها للانقلاب العسكري على خيار الشعب بمصر)، ودعمها للحكومة الشرعية في ليبيا ضد محور الأنظمة المضادة للربيع العربي بعد سنوات طويلة من إهمالها للشأن العربي والتدخل بالشرق الأوسط، ودعمها لقطر خشية تهديدات محتملة من السعودية والإمارات، ومحاولاتها عمل قاعدة عسكرية في جزيرة سواكن السودانية في البحر الأحمر.

ولا شك في أن المصالح التركية عامل أساسي ورئيس لهذا التحرك، فتركيا تريد دولا عربية منتخبة من قبل الشعب حتى تملك قرارها وسيادتها، من أجل إقامة علاقات استراتيجية مع تلك الدول. وقد كنا سمعنا على بداية علاقات قوية مع مصر إبان حكم الرئيس محمد مرسي.

لقد كان لتلك السياسات إيجابيات كبيرة ردمت كثيرا من الفجوة بين الشعب التركي والشعوب العربية بشكل عام، بعد عزلة الشعب التركي ما يقارب القرن عن محيطه الإسلامي. وقد كان لتدخل تركيا اللافت في القضية الفلسطينية دور كبير في تقليل الهوة الموجودة بين الشعب التركي والشعب الفلسطيني، فأصبحنا نرى مظاهرات ووقفات مساندة لغزة والقدس. ولا ننسى سفينة مرمرة لكسر الحصار عن غزة واستشهاد تسعة أتراك على متن السفينة في البحر. وأصبح هناك اهتمام من الأتراك بقضايانا العربية، فرأيناهم يتظاهرون ضد المجرم بشار الأسد بعد قتله شعبه، والتظاهر أمام السفارة المصرية ضد الحكم العسكري في مصر.
 
‎ما أريد قوله هنا أن الأتراك يتحركون في المنطقة بناء على مصالحهم السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، وأن المشروع التركي الجديد لا يتعارض مع تطلعات الشعوب العربية بل هو مساعد ومساند وداعم لها.

أما عند الحديث عن شعبية هذا المشروع بالداخل التركي فهو يحظى بدعم شعبي لا بأس به، بدليل (وكما ذكرنا) أن الشعب التركي انتخب حزب العدالة والتنمية بكل الاستحقاقات الانتخابية الفائتة.

أما الشعوب العربية، باعتقادي هي داعمة لهذا المشروع لأنه في صالحها أيضا. فهو يقف بنفس الخندق لتحرير الشعوب العربية، ورأينا كيف جنبّ التدخل التركي في سوريا أكثر من أربعة ملايين سوري في إدلب من النزوح، ورأينا الدعم العسكري واللوجيستي لحكومة الوفاق في ليبيا ضد مليشيات حفتر.

ختاما، عندما تكون تركيا قوية والدول العربية أيضا دولا قوية ستكون للمنطقة كلمتها ووزنها في هذا العالم، أما العرب اليوم وبكل أسف بلا مشروع حقيقي، ومشروع بعض الأنظمة دعم الانقلابات على خيار الشعوب، بينما تركيا دولة تحاول بكل قوتها أن يكون لها كلمة في هذا العالم.
التعليقات (5)
د علي منعم القضاة
الجمعة، 05-06-2020 05:51 م
لمنتهى السرور أقرأ مقالاتك، لكم تزداد فلاحتي بقراءة هذا البعد الدولي في كتاباتك، نعم تركيا دولة قوية، تحترم شعبها، وتحترم قوميتها، وتحترم جيرانها، الأهم في الموضوع أنها صاحبة سيادة وصاحبة قرار ليس من قوة اقليمية تستطيع ان تفرض عليها رأيا
عثمان
الخميس، 04-06-2020 09:01 م
تحليل ممتاز أستاذ محمد
أحمد يوسف
الخميس، 04-06-2020 06:03 م
مقال رائع وطرح أروع استمر صديقي.
سهيل العويس
الخميس، 04-06-2020 06:00 م
نعم، تركيا في طريقها لتكون احد صناع القرار في العالم الإقتصادي. بدايتا ما قامت به وما زالت تقوم به في ظل أزمة كورونا. شكرا لك أستاذ محمد حامد على هذا المقال القيم
شريف
الخميس، 04-06-2020 11:12 ص
مقال رائع ولعل العرب يستفيقون من غيبوبة طويلة فلا راحة ولا استقرار للمسلمين إلا أن يعتصموا بحبل الله جميعا ويحسنوا التصرف كأمة واحدة. اللهم احفظ أمة حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم