هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من النتائج الرئيسة التي ترتبت على مبدأ التوحيد عند المعتزلة كما ذكرنا سابقا، كانت إشكالية صفات الله التي ترتب عليها أيضا إشكالية أخرى ظلت ماثلة في التاريخ اللاهوتي الإسلامي إلى يومنا هذا، وهي مسألة خلق القرآن.
إقرار المعتزلة بأن القرآن مخلوق وليس أبديا، هو نتيجة منطقية تتوافق مع المقدمات العقلية التي انطلقوا منها في قراءة النص الديني المقدس، ضمن محاولة لعقلنة هذا الخطاب، ونتيجة منطقية أيضا لرؤيتهم التوحيدية التي تنزه الله، فالقول على العكس بأن القرآن غير مخلوق وأنه قديم أزلي يتعارض مع وحدانية الله.
وفي هذا يكتب المفكر أحمد محمود صبحي في الجزء الأول من كتابه "في علم الكلام: دراسة فلسفية لآراء الفرق الإسلامية في أصول الدين" أن الكلام عند المعتزلة ليس صفة من صفات الذات الإلهية، فكلام الله ليس أزليا، إذ كيف يكون كذلك وفي القرآن أمر ونهي ووعد وعيد، وكل ذلك يقتضي وجود المأمور أو المنهي أو الموعود، ولو كان الكلام صفة أزلية لأصبح القرآن قديما ولشارك الله في الألوهية، ذلك أن القدم صفة ذات للألوهية، فكل قديم هو إله، أما القرآن فهو حروف منظومة وأصوات مقطوعة ويتجزأ إلى اقسام.
لم ينكر المعتزلة الصفات القديمة إذا كان المقصود بهذه الصفات عين الذات، ولكنهم أنكروا أن تكون الصفات أشياء أو ذواتا قديمة قائمة خلف الذات، لأن هذا يؤدي إلى تعدد القدماء، وبالتالي تعدد الآلهة، فصفة القديم لا تطلق إلا على الله.
يذهب بعض المفكرين والمؤرخين إلى أن هذه المسألة ذات جذور من خارج الفضاء الفكري الإسلامي، فالبعض اعتبر أن القول بخلق القرآن جاء بتأثير من اليهود الذين يعتقدون بخلق التوراة، أما من قال بأزلية القرآن، فجاء رأيه متأثرا باللاهوت المسيحي الذي يؤمن بقدم الكلمة.
كلا الطرفين (المنادين بخلق القرآن، المنادين بأزلية القرآن) وجدا في كلام الله ما يدعم حججهم، فثمة آيات تعارض آيات أخرى، وفيه ناسخ ومنسوخ، وفيه آيات مرتبطة بزمان ومكان محددين، وفيه وعد ووعيد، وفيه ثواب وتوبة.. إلخ.
لكن عندما وصل الأمر إلى إعطاء قول وموقف في كلام الله، أكد المعتزلة أن صفة الكلام ليست هي صفة عين الذات، بل هي صفة زائدة على الذات، لأن الكلام هو عبارة عن حروف منظومة وأصوات مقطعة، والكلام ليس جنسا أو نوعا ذا حقيقة عقلية، بل هو اصطلاح يجري باللسان.
كلام الله
وذهب المعتزلة خطوة أخرى، بتأكيدهم أن الكلام إما أن يكون جسما أو عرضا، واعتبر النظام وعدد من المعتزلة أن كلام المخلوقات عرض أما كلام الله فهو جسم، وعليه فإن كلام الله مخلوق محدق، لأن الأجسام والأعراض لا يمكن أن تكون إلا كذلك.
وإذا كان كلام الله مخلوقا، فالقرآن مخلوق أيضا لأنه كلام الله تعالى، وهنا نشأت مشكلة أخرى، وهي إنه إذا كان كلام الله محدثا/ مخلوقا فكيف أحدث الله الكلام؟
يجيبون بأنه لا يمكن أن يكون الله قد أحدث الكلام في ذاته، لأنه إذا تكلم خلق في ذاته الصوت الذي هو جسم أو عرض، فأصبحت ذاته محلا للحوادث، ولا يجوز أن يحدث لا في محل لأن الأجسام والأعراض تتطلب محلا تقوم به، فلا يبقى إلا أنه يحدث في محله.
وبذلك، فإن الله متكلم، ولكن لا بكلام قديم بل بكلام محدث يحدثه وقت الحاجة إلى الكلام، وهذا الكلام المحدث ليس قائما بالله بل خارجا عن ذاته يحدثه في محل فيسمع من المحل.
يقول القاضي عبد الجبار أحد أهم أئمة المعتزلة:
القرآن كـلام الله ووحيه، وهـو مخلــوق
محــدث، أنزلـه الله علـى نبيـه ليـكــون
علمـا ودالا على نبوته، وجعله دلالة لنـا
علــى الأحكــام لنرجع إليه في الحــلال
والحــرام، واستـوجب منـا بـذلك الحمـد
والشكر والتحميد والتقديس...
القــرآن يتقــدم بعضـه علـى بعض، وما
هذا سبيله لا يجوز أن يكـــون قديما، إذ
القـديم هـو مـا لا يتقدمـه غيره... وآخر،
ونصف وربع، وسدس وسبـع، وما يكون
بهذا الوصف، كيف يجوز أن يكون قديما؟
إن المقدمات العقلية التي استند إليها المعتزلة تتصف بالضرورة العقلية، وكان هذا الأمر ضروريا للدفاع عن العقيدة الإسلامية في مواجهة غير المسلمين الذين يشككون بالعقيدة الإسلامية.
لم يكتف المعتزلة بتجاوز المألوف في الجدل اللاهوتي بقولهم بخلق القرآن، بل تجاوزوا ذلك إلى نفي صفة الإعجاز عنه، وهو ما نُظر إليه بوصفه مسا بمقدسات أجمع عليها المسلمون، وكانت مصدر فخرهم وتميزهم بأنّ كتابهم العظيم يستحيل الإتيان به من حيث النظم والبلاغة والفصاحة.
في هذا المجال، كما في خلق القرآن، كان المعتزلة منطقيّين مع أنفسهم وأمناء لمنهجهم العقلاني في النظر إلى الأمور وعلى الأخصّ منها النص الديني، برفض كل ما لا يقبله العقل.
إلى جانب الأدلة العقلية، قدم المعتزلة أدلة نقلية:
ـ الآية 9 من سورة الحجر: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.
ـ الآية 2 من سورة الأنبياء: وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث.
حدوث العالم
إن تأكيد المعتزلة على وحدانية الله، فرضت عليهم نفي الشرك المبني على القول بوجود وسائط بين الله والإنسان أو بين الله والعالم، أي التأكيد على وجود انفصال بين الله والعالم.
وفي محاولة لتأكيد وحدانية الله، ذهب المعتزلة كما السنة إلى القول بأن العالم ليس قديما وإنما مخلوقا من قبل الله، لكن في حين اكتفى الفقهاء بالأدلة النقلية، أضاف المعتزلة أدلة عقلية لمواجهة المانوية التي تؤكد وجود ترابط عضوي ـ وجودي بين الله والعالم.
ينقل الجابري في كتابه بنية العقل العربي رأي المعتزلة في حدوث العالم نقلا عن الباقلاني، قال المعتزلة: إن القسمة العقلية تقتضي أن العالم إما أن يكون قديما وإما أن يكون محدثا، ولما كان العالم عبارة عن أجسام، وكانت الأجسام مؤلفة من أجزاء، فإن الحكم على العالم بالقدم أو بالحدوث يتوقف على تحديد طبيعة تلك الأجزاء، وهم يقولون إنها لا تتجزأ إلى ما لا نهاية، بل لا بد أن تقف فيها التجزئة عند حد معين، أي عند جزء لا يقبل التجزئة، وسموه الجوهر الفرد.
وتدلنا المشاهدة على أن بعض الأجسام أكبر من بعض، فلو كانت تقبل القسمة إلى ما لا نهاية لكان عدد أجزاء الجسم الصغير، كالنملة، مساويا لعدد أجزاء الجسم الكبير، كالفيل، ولكان هذان الجسمان متساويين في المقدار.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلما كانت الأجسام تعتريها أعراض ضرورة، إذ لا بد في كل جسم من لون وطعم وشكل وحركة وسكون، فإن الجواهر الفردة التي تتألف منها الأجسام لا بد أن تعتريها نفس الأعراض، وإلا كيف يمكن أن يكون الجسم على حالة (باردة) وتكون أجزاؤه على غير تلك الحالة (غير باردة)؟ وإذن فالأجسام، وبالتالي العالم كله جواهر وأعراض.
وبما أن الأعراض تتغير باستمرار، فهي حادثة، وبما أن الجواهر لا تنفك من الأعراض فهي لا تسبقها في الوجود، إذ لا يتصور وجود جوهر بدون أعراض، وبالتالي فهي حادثة مثلها، وإذن فالأجسام حادثة، وبما أن العالم كله مؤلف من أجسام، فهو حادث كذلك.
أما عبد الرحمن بدوي، فينقل رد القاضي عبد الجبار على الذين يقولون بقدم العالم ممن يقولون أنه لو كان العالم محدثا لاحتاج إلى محدث وفاعل، وفاعله إذا حصل فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا، فلا بد من وجود معنى له صار فاعلا، وذلك المعنى إذا كان محدثا احتاج إلى آخر، والكلام في محدثه كالكلام فيه، فيتسلسل إلى ما لا نهاية، وهذا محال.
يرد القاضي على ذلك بقوله: إن الفاعل ليس له، بكونه فاعلا، حال، بل المرجع به إلى أنه وجد من جهته ما كان قادرا عليه، وليس يجب إذ وجد من جهته ما كان قادرا عليه أن يكون هنالك معنى حتى يحتاج ذلك المعنى إلى مُحدث، ومُحدثه إلى معنى آخر، فيؤدي إلى ما لا يتناهى.
ويضف القاضي عبد الجبار: ألا ترى أن أحدنا في الشاهد يحصل فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا، ولا يجب أن يكون هناك معنى؟ كذلك في مسألتنا.
وقبل القاضي عبد الجبار، أكد أبو علي الجبائي أحد كبار المعتزلة أن كل ما يعتريه الزيادة والنقصان فهو حادث، فإذا كان العالم يمكن أن يعتريه الزيادة والنقصان إذن فهو حادث، ومدلول هذا الاستدلال أنه لا زيادة أو نقصان بالنسبة لما هو غير متناه.
ويقول أحمد محمود صبحي إن الجبائي استفاد من هذا البرهان من مناقشات النظام مع المانوية الذين قالوا إن الهمامة، والتي هي روح الظلمة قد قطعت الظلام وهو غير متناه حتى وصلت إلى النور، فكشف النظام تناقضهم بقوله: إذ أن قطع ما لا يتناهى مستحيل، وأن ما لا يتناهى لا يزيد ولا ينقص، وأن كل ما يزيد وينقص ويوصل ويقطع فهو متناه، وإذا كان العالم كذلك، فهو متناه.
ولتأكيد وحدانية الله وأنه صانع العالم ولا أحد يشبهه، وهو وحده اللانهائي، قال المعتزلة بالجزء الذي يتجزأ، وهو أصغر أجزاء الجسم الذي يقبل التجزئة إلى ما نهاية.
وأول من قال بهذه المقولة هو أبو الهذيل العلاف، لأنه اعتقد أن وحدة الجسم هي وحدة مكانية، فالأجسام تتقوم بذاتها، ووجودها وتأليفها وتركيبها يعتمد على الله وحده.
خالف النظام رأي العلاف، وذهب إلى أن لا جزء إلا وله جزء، ومن وجهة نظر النظام، إن القول بتناهي الموجودات وعلم الله عنها حتى يحصيها، إنما هو تصور للعلم الإلهي على نحو إنساني، فالله وفق النظام قادر على أن يخلق أمثال هذا العالم إلى ما لا نهاية.
ويتساءل النظام في رده على العلاف، ألا يمكن تأكيد القدرة والعلم الإلهي إلا بسلب الأجسام خصائصها الذاتية؟ ألا يمكن إيجاد توازن بين القدرة الإلهية والقوانين الطبيعية؟
اعتبر النظام أن لكل جسم طبيعة خاصة من شأنه أن يخضع لها (النار طبيعتها الحرق، الدخان طبيعته الصعود، الماء طبيعته السيلان.. إلخ)، وأن قدرة الله تتجلى في قهر الأشياء على خلاف طبائعها.
اقرأ أيضا: تداعيات التوحيد عند المعتزلة (2-4)