هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز"، تقريرا أشار فيه إلى أن العراق يحرق غازه ثم يستورده من الخارج، في حين أن الكثير من سكانه بلا كهرباء.
وقال معدا التقرير، الصحفيان أليسا روبين وكليفورد كروس، وفق ما ترجمته "عربي21"، إن العراقيين جنوب البلاد يعيشون معاناة كبيرة بسبب حرق الغاز والكيماويات التي تنفث من فوهات آبار النفط في قراهم.
ونقلت عن خالد قاسم فالح، أحد القيادات العشائرية، قوله: "تخيل أنه من القرية التي أنحدر منها، كل عائلة لديها شخص مصاب بالسرطان.. هذا هو الوضع في قرية نهران عمر".
والمواد الكيماوية في أجواء نهران عمر وغيرها من البلدات النفطية في جنوب العراق، تأتي من شعلات اللهب البرتقالية على رأس آبار النفط التي تحرق الغاز الطبيعي الذي يخرج مع النفط.
وتوقفت كثير من البلدان عن حرق هذا الغاز لأنه مصدر ثمين. فكمية الغاز التي تحرقها العراق تكفي لإمداد ثلاثة ملايين بيت بالكهرباء، بحسب وكالة الطاقة الدولية.
اقرأ أيضا: مشروع إقليم البصرة بالعراق.. هل يأخذ طريقه للتنفيذ؟
ولكن عملية الحرق تنتج كيماويات تلوث الجو والأرض والمياه، وظهر أنها تجعل حالات الربو والضغط أسوأ وتساعد على الإصابة ببعض السرطانات، وتسرع من التغير المناخي.
ولكن لا يزال العراق يحرق أكثر من نصف الغاز الطبيعي الذي تنتجه حقول النفط، وأكثر من أي بلد آخر سوى روسيا.
وهذه الممارسة تؤدي إلى المفارقة العجيبة في العراق، في بلد يحتوي على أكبر احتياطي من النفط والغاز في العالم، ولكنه يعاني من نقص مزمن في الكهرباء، وانقطاع متكرر للتيار. ولتغذية محطات التوليد التي تعمل بالغاز وخاصة خلال أشهر الصيف الحارة تستورد الغاز من إيران بشكل أساس.
وقال علي الصفار، رئيس قسم الشرق في وكالة الطاقة الدولية في باريس: "يمكن للعراق أن يكون مكتفيا ذاتيا.. وبدلا من ذلك فهو في مستوى خاص بها: وهو حالة فريدة لأنه يحرق الغاز [الناتج عن آبار النفط] ويستورده".
ومع ترنح اقتصاده بسبب انهيار أسعار النفط وجائحة كورونا، لا يمكنه دفع عدة مليارات من الدولارات لإيران لشراء غازها. كما أن شراءها الغاز من إيران يتعارض مع العقوبات التي تفرضها أمريكا على إيران، التي تهدف لمنعها بيع النفط والغاز.
ويعترف المسؤولون العراقيون بالحاجة لتقليل حرق الغاز، ولكنهم يقولون إن جهود تحديث المعدات على الآبار وتركيب الأنابيب اللازمة لحفظ الغاز الصادر من آبار النفط تعثرت، بسبب الحرب، والآن الاقتصاد سيئ.
وبعد أن سيطر تنظيم الدولة على ثلث البلد في 2014، احتاجت المعركة كل دخل الحكومة لعدة سنوات، وفي الأشهر الستة الماضية، ومع تراجع أسعار النفط، حرمت الحكومة من مصدر دخلها الرئيس، وأغلقت جائحة كورونا جزءا كبيرا من الاقتصاد.
وقال وزير النفط العراقي السابق، ثامر غضبان: "حسنا، تحترم انتقادات الشعب.. ولكن ليأتوا ويحاولوا تشغيل محطات إنتاج النفط والغاز في هذه الظروف".
وعلى مدى سنوات، لم يكن تخزين ذلك الغاز أولوية على اعتبار كميات النفط التي ينتجها البلد والأرباح الكبيرة التي يجنيها من النفط، ولكن ذلك يتغير، بحسب ما يقول المسؤولون.
وبعد سنوات من التأخير، فتح العراق منشأة استعادة وحبس الغاز المنبعث مع النفط في البصرة في 2018 بتكلفة تقدر بحوالي 1.5 مليار دولار، بحسب خبراء صناعة النفط. ولكنها خطوة أولى ولا تحبس سوى نصف الغاز المنبعث من ثلاث آبار كبيرة في البصرة، وهناك 15 حقل نفط في محافظة البصرة وحدها.
وأعلنت وزارة النفط خططا الشهر الماضي، لحبس معظم الغاز الذي تقوم بحرقه حاليا في جنوب العراق. وقال غضبان إن المشاريع ستنتهي خلال عامين أو ثلاثة وتدخل مرحلة الإنتاج.
ويرى خبراء الطاقة العالميون أنه على اعتبار الوضع الاقتصادي للعراق، فإن هذا التوقعات متفائلة جدا.
والطيران إلى البصرة ليلا يشبه الدخول إلى فرن، حيث تنبعث ألسنة اللهب وتظهر كأنها أحواض من الضوء البرتقالي في الليل.
اقرأ أيضا: العراق يعلن خطة إصلاح لتقليص اعتماد الاقتصاد على النفط
المدينة حارة، تصل فيها درجات الحرارة دائما إلى أكثر من 120 درجة فهرنهايت (49 درجة مئوية)، ويقطنها 3 ملايين نسمة، وهي في جنوب شرقي العراق.
وفي البصرة والمحافظة المحيطة بها 60 في المئة من احتياطي نفط العراق المثبت. ولكن لم تكن درجات الحرارة هي التي بهرت المستمعين لنشرة الأخبار الجوية في شهر آب/ أغسطس الماضي.
ولكن المذيع قال، فيما أصبح بعد ذلك تحذيرا معتادا: "نقرع ناقوس الخطر.. سيكون اليوم هناك غازات سامة في أجواء جنوب العراق، التي يمكنها أن تؤذي الناس. الغازات السامة ناتجة عن النفط وعوادم السيارات".
وليس حرق الغاز هو السبب الوحيد للتلوث في مناطق العراق الجنوبية الشرقية الغنية بالنفط. بل إن المصانع البتروكيماوية ومحطات المجاري واليورانيوم من مخلفات الأسلحة والعتاد الذي استخدم خلال الحرب كلها تسهم فيما يسميه شكري حسن، أستاذ البيئة في جامعة البصرة "خليطا من الملوثات".
وقال: "إن نوعية الهواء سيئة جدا ونوعية الماء أيضا سيئة وهناك مشاكل في التربة.. كل ذلك يجعل البصرة مكانا لا يصلح للعيش".
كما أن حرق الغاز يدمر البيئة، فهو يطلق ما لا يقل عن 30 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنويا، أي حوالي 10 في المئة من الغازات الناتجة عن حرق الغاز على مستوى العالم.
وفي الوقت ذاته، فإن عملية الحرق تجعل العراق يخسر غازا يمكن استخدامه في محطات توليد الكهرباء، التي يتم الاعتماد فيها على الزيوت البترولية، ما يزيد الأضرار البيئية.
ولدى العراق قوانين بيئية جيدة على الورق، ولكن لا أحد يطبقها، بحسب علي شداد الفارس، أحد مقاولي البناء المحليين، ويترأس لجنة النفط والغاز في مجلس المحافظة.
وقال: "إن شركات النفط التزمت بحماية البيئة ولكن ليس هناك متابعة حكومية. إنها وظيفتهم ليحموا الشعب ولكنهم لا يفعلون ذلك".
وتقع قرية نهران عمر على بعد ساعة خارج البصرة وتعطي لمحة عن حياة الجحيم وسط حقل نفط.
وعدد سكان القرية 1500 نسمة، وتتألف من ثلاثة تجمعات على نهر دجلة، حيث ينفرج قبل أن يصب في الخليج. واكتشفت الحكومة النفط هناك وبنت أول بئر في ستينيات القرن الماضي. واليوم هناك خمسة آبار تسيطر على المنطقة الشرقية من القرية.
ويخرج من الآبار خليط من النفط والماء والغاز، وغاز الميثان بشكل رئيس. ويتم تحويل النفط عبر أنابيب إلى خزانات وأنابيب إلى ميناء أم قصر.
والماء المختلط بالنفط يتم التخلص منه في بركة في أطراف القرية ويقتل أي حياة هناك. فلا شيء يعيش في الماء ولا ينمو بجانبه أي مزروعات أو أي حشائش وحتى الطيور الصحراوية تتجنب الحط قريبا من تلك البركة.
وحرق الغاز هي طريقة رخيصة للتخلص من غاز الميثان الذي إن لم يحرق سيشكل خطر انفجارات. وكثير من الدول المنتجة للنفط، بما فيها أمريكا، تحرق الغاز، ولكن ليس بقرب بيوت الناس.
وفي نهران عمر، تحترق تلك النيران ليل نهار ويصدر عنها حرارة كبيرة حيث تبدو وجوه الناس الذين يسكنون قريبا منها، وكأنها قد حرقتها الشمس طلية الوقت. وحتى ورق الأشجار يلتف من الجانب المواجه للنيران.
اقرأ أيضا: العراق يستأنف التبادل التجاري مع إيران بضوابط.. هذه أبرزها
ولم يشهد الأطفال الذين ولدوا في نهران عمر العقد الماضي الهدوء أو الظلام في الليل، فهناك ضوء قوي يضيء المحيط طيلة الوقت.
وقال بشير عبد الجبار، مختار القرية: "لا نستطيع التنفس هنا.. إن أردت التنفس عليك أن تخرج بعيدا عن القرية، وبالنسبة للأطفال إن الأمر صعب جدا فالرئتان لديهم صغيرتان. وبالنسبة لكبار السن أيضا، التنفس صعب لأن الرئتين لديهم ضعيفتان".
كما تتسبب تلك الشعلات بما يسميه السكان المحليون المطر النفطي، وهو عبارة عن مزيج من الماء والهيدروكربونات التي لا تحترق تماما خلال عملية الحرق، وبينما تبرد تمتص الماء من الجو الرطب ويملؤها النسيم من نهر دجلة إلى البيوت القريبة.
ويسقط النفط على أسقف الصفيح فتصبح مثل اللوحات التنقيطية، والطريقة الوحيدة لإزالته هي باستخدام الديزل، بحسب ما قاله عبد الجبار.
ويقول أبو بشير نصر الشريغي، 58 عاما ويعمل أستاذا: "مات ابني قبل خمس سنوات بالليمفوما.. لقد كان رياضيا وكان قويا. وكان مثل كل الأطفال يحب كرة القدم". وأخرج هاتفه وأراني صورة لشاب يلبس قميص كرة قدم أصفر.
وقال إنه عندما مرض ابنه ذهب إلى ليشكو لعضو مجلس المحافظة فاقترح عليه أن يرسل ابنه للعلاج في الخارج، ويقول الشريقي ضحكت وقلت له من الذي سيدفع 50 ألف دولار، تكلفة العلاج.
وتقول الدكتورة مارلين هوارث، الزميلة في جامعة مركز دراسة السموم البيئية في جامعة بنسلفانيا، إن خليط الهيدروكربونات في الأمطار النفطية قد يكون مسرطنا "فالنفط نفسه يمكن أن يحتوي على معادن ثقيلة وزرنيخ وإشعاعات، والتي قد تكون سببا في سرطان الرئة".
وقال الدكتور أوتيس براولي المختص بعلم الأورام والأوبئة في جونز هوبكنز إن المنتجات الثانوية لإنتاج النفط تزيد من مخاطر الإصابة بسرطان الدم والأورام الليمفاوية وسرطان الجلد والكلى والمثانة.
وقال الدكتور عباس تميمي، رئيس دائرة الصحة في البصرة إن معدلات الإصابة بالسرطان في جنوب العراق أكبر بقليل من بقية البلد. ولكنه اعترف بأن وفيات السرطان أكثر من المعلن عنها بسب الوصمة المرتبطة بمرض السرطان.
ومع ذلك فإن حالات السرطان في نهران عمر تبدو أكثر بأي مقياس بحسب السياسي المحلي فارس من لجنة النفط والغاز في مجلس المحافظة وخبراء السرطان في مستشفى البصرة.
ويقول المختار الذي يحتفظ بجدول للحالات المحلية بأنه وعلى مدى الست سنوات الماضية، مات 54 شخصا بالسرطان وهناك 33 مريض سرطان. وهذا يعني 6 في المئة من عدد السكان أصيبوا بالسرطان في تلك الفترة.
وكان حوالي نصف من ماتوا بالمرض أقل من 25 عاما من العمر بحسب السجلات. وفي بعض الحالات مات شخصان من نفس العائلة من السرطان، وأكثر السرطانات انتشارا في نهران عمر سرطان الغدد الليمفاوية والكلى والثدي.
ويلجأ القرويون للمؤسسات الحكومية وشبه الحكومية للحصول على العون ولكن دون فائدة ومن بينهم شركة نفط البصرة، وهي شركة مملوكة للحكومة وللشركة نصيب كبير في إنتاج النفط في جنوب العراق ولجنة النفط والغاز التابعة لمجلس المحافظة والتي تم إلغاؤها حديثا وفرعي البصرة لوزارتي الصحة والبيئة.
ويعرف كل كبار المسؤولين في تلك المؤسسات أن حرق الغاز يهدر الطاقة ويلوث الهواء. وقامت وزارة البيئة، التي أدمجت قبل خمسة أعوام بوزارة الصحة، بفرض العديد من الغرامات على شركة نفط البصرة لعدد من الانتهاكات المتعلقة بحرق الغاز فوق الحد القانوني، ولكن الشركة تعترف أنه من الأقل تكلفة لها أن تدفع الغرامات من بناء منشأة أخرى لجمع وحبس الغاز والتي ستكلف مليار دولار أو أكثر.