تقدم تونس نموذج بناء الديمقراطية داخل الفقر، فهل تنجح الديمقراطية داخل الفقر؟ يبدو أن هذا الوضع لا يبشر بنجاحات كبيرة، إذ نضطر إلى تحليل مقارن بين تجربة فقيرة اقتصاديا وبين بناء ديمقراطيات الغرب على مدى قرنين من الزمان بفضل الفائض الاستعماري، وهو عنصر مغفل عند الحديث المعجب بتجارب الغرب.
ونعني بالفائض الاستعماري تلك الثروات البشرية والمادية التي تم نهبها طيلة فترات الاستعمار وتحويلها إلى البلدان الغربية، بما مكنها من تدليل شعوبها وصرفها إلى متع الديمقراطية ومباهجها؛ دون سؤال عن مصادر الثروة وعن الضحايا خلف البحار البعيدة.
ويمكننا التوسع بالقول إن النهب الاستعماري لا يزال متواصلا بما يسمح بتدليل الشعوب الديمقراطية. من أين للتجربة التونسية أن تجد موارد كافية للتصدي للأزمة الاجتماعية المتفاقمة ومواصلة بناء الديمقراطية السياسية بسلاسة؟
حكومة قادمة تحت الضغط
يجري رئيس الحكومة المكلف مشاورات سياسية مع الأحزاب البرلمانية لتحسس موقفها من حكومته، ونميل إلى الاعتقاد بأنه سيلقى قبولا وموافقة من الجميع؛ لسبب واضح هو أن كل الأحزاب ستهرب من الأزمة إلى الحكومة أو تتخفى داخلها لكي لا تتهم بتعفين الوضع السياسي.
نميل إلى الاعتقاد بأنه سيلقى قبولا وموافقة من الجميع؛ لسبب واضح هو أن كل الأحزاب ستهرب من الأزمة إلى الحكومة أو تتخفى داخلها لكي لا تتهم بتعفين الوضع السياسي
هناك معطى أول مهم يسبب الخوف؛ هو الصراع الذي يطل برأسه بين
رئيس البرلمان ورئيس الحزب الأول طبقا لنتائج انتخابات 2019 (
النهضة)، وبين رئيس الدولة الذي استعاد مبادرة تعيين رئيس الحكومة. الرجلان غير متوافقين على رسم حدود نفوذهما واجتناب نقاط التماس الحرجة، وخاصة في الموقف من الوضع الليبي.
وهناك معطى ثان لا يقل تأثيره عن الأول، وهو الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تجعل الدولة على حافة الإفلاس. وهذا الوضع يجعل الأحزاب خائفة من عدم المصادقة على الحكومة، بقطع النظر عن درجة تمثيلها فيها. وهنا مربط الفرس، أو مقبرة الديمقراطية في بلد فقير.
نتيجة هذين السببين موجهة إلى
حزب النهضة (الحزب الأول)، فهو متهم بعداء الرئيس وترذيله، وهو مدعو إلى المصادقة على الحكومة وإلا فإنه يكون مسؤولا عن الأزمة الاجتماعية والاقتصادية.
القبول بحكومة لا تعبر عن المشهد الانتخابي هو مقبرة للصندوق الانتخابي. وليس هذا جديدا في تونس بعد الثورة، ولكن فرضه عبر تهديد الأحزاب لا يجعله مشهدا ديمقراطيا قابلا للاستمرار.
القبول بحكومة لا تعبر عن المشهد الانتخابي هو مقبرة للصندوق الانتخابي. وليس هذا جديدا في تونس بعد الثورة، ولكن فرضه عبر تهديد الأحزاب لا يجعله مشهدا ديمقراطيا قابلا للاستمرار
يذهب الناس إلى الانتخابات ويختارون ولكن خيارهم لا يحكم، بل يحكم من سقط في الصندوق لأن هناك أزمة اقتصادية واجتماعية تستدعي خطاب المصلحة الوطنية، فيتم إخضاع الفائزين باسم المصلحة أو تحت تهديد بالخيانة. من هنا جاء السؤال عن إمكانات الديمقراطية في ظل الفقر.
الفقر السياسي عائق داخلي
في سياق مقارن مع دول الفائض الاستعماري يسهل القول بعدم توافق بناء الديمقراطية في سياق فقر. لكن بالنظر إلى نماذج النمور الآسيوية وأخرى أفريقية صاعدة؛ يمكن أن نقيم معادلة أخرى مخالفة تماما للديمقراطية تخرج البلدان من الفقر، لكن بشرط مهم جدا: هو توافق وطني على مصلحة أعلى من
مصالح الأحزاب والأيديولوجيات. ونعتقد أن هذا كان سببا رئيسيا في نجاح تجارب سياسية واقتصادية في ما اصطلح عليه بالنمور. لقد أخرجت الديمقراطية هذه البلدان من حالة الفقر والتخلف، وفرضت وجودها في الاقتصاد العالمي بشكل غير قابل للانتكاس.
لكن هل يتوفر الوضع التونسي على إرادات مماثلة تنجز الديمقراطية؟ الإجابة سلبية حتى الآن، وإلا ما كنا لنتحدث عن صراع بين البرلمان والرئيس، وما كنا لنشهد عرائض سحب الثقة ومهرجانات ترذيل السلطة التشريعية لمجرد أن فيها مكانا لخصم سياسي.
هذا مؤشر سيئ يكشف تعثر بناء الديمقراطية، إذ يلهي القوى الوطنية عن الانكباب على معالجة العائق الاقتصادي والاجتماعي الذي هو شرط استقامة المسارات السياسية؛ التي كلما استقامت سهلت معالجة المعضلات الاقتصادية والاجتماعية، في عملية تفاعل مستمرة بين السياسي والاقتصادي. ولكن شغل الناس بحروب سياسية فيما الأزمة الاقتصادية تتفاقم؛ يجعل كل بناء ديمقراطي مهددا بالزوال. وهذه هي النقطة الحرجة التي تقف فيها التجربة التونسية اليوم في انتظار حكومة سيقبل بها الجميع مرغما، كما يقبل مريض فان بدواء مر.
مؤشر سيئ يكشف تعثر بناء الديمقراطية، إذ يلهي القوى الوطنية عن الانكباب على معالجة العائق الاقتصادي والاجتماعي الذي هو شرط استقامة المسارات السياسية؛ التي كلما استقامت سهلت معالجة المعضلات الاقتصادية والاجتماعية،
فرضية دفع الأزمة إلى قمتها
هي الفرضية المستحيلة، أي
فرضية رفض الحكومة من قبل البرلمان بما يدفع إلى حل البرلمان وإعادة الانتخابات، وهي الحل الوحيد الناجع ضد تشتت البرلمان الحالي وعجزه عن التشريع وعن إسناد السلطة التنفيذية. ومن عجزه عن الفعل
يتسلل الرئيس وفريقه للإمساك بخناق التنفيذي والتشريعي بحجة "لقد عجزتم والحل عندي" (مثلما تم الأمر بالنسبة للحكومة).
هذا الحل يدفع الأزمة السياسية والاقتصادية إلى قمتها، بما يرفع من احتمال الاضطراب الاجتماعي في مدى قريب، ولذلك لا نرى حزبا قد يفعل ذلك مهما كان وزنه البرلماني. ومن هنا نجد مدخلا آخر أو زاوية نظر أخرى لنفس المسألة.. الأحزاب خائفة من الشارع، وهي تعرف أن مستويات الثقة بينها ضعيفة وبينها وبين الشارع منهارة تماما، لذلك لا تريد أن تعرض نفسها على الصندوق، وتفضل مواصلة العمل بتحالفات مغشوشة أو واهية وبمستويات متدنية من عدم الثقة، حتى إنه يمكن القول إن الحكومة القادمة هي حكومة نفاق سياسي لا يثق أي من مكوناتها في شريكه وجليسه، وهو ما سيعطل عملها ويزيد في تدمير الثقة بينها وبين الناس، ويجعل احتمال الصندوق يقترب بسرعة.
حكومة الخوف أو حكومة النفاق السياسي لن تتقدم في بناء الديمقراطية، وستخسر التجربة زمنا طويلا قبل أن تنهار، لتفتح على احتمالات مختلفة ليس منها توافق الشجعان بالقدرات المتاحة للتقدم.
لكن لعل في ذلك خيرا، فإحدى مكرمات الديمقراطية في تقدمها وتعثرها هي تعميق الفرز السياسي بين المتصدين للشأن العام بعناوين حزبية أو نقابية. ونعتقد أن هذه أيام فرز وتمحيص، وستخرج منها التجربة بوعي أعمق بمن يرغب فعلا في بناء الديمقراطية؛ ومن يعيش حروبه الفردية التي سيقرؤها المؤرخون كأمراض للديمقراطية في بلد فقير.