هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في مقال سابق تحدثنا عن مأساة بيت أجاممنون كما صوّرها إسخيلوس أبو التراجيديا الإغريقية في ثلاثية أوريست، حيث تبدأ أحداث الثلاثية بعودة أجاممنون قائد اليونان من حرب طروادة التي استغرقت عشرة أعوام، واغتياله على يد زوجته كليتمنسترا وعشيقها (إيجيست)، ثم عودة ابنه (أوريست) إلى بلده (ميكيناي Mycenae)، ومقابلته أختَه (إلكترا) واتفاقهما على الانتقام لأبيهما باغتيال أمِّهما وعشيقها الذي أصبح ملكًا، ووصولاً إلى مطاردة ربّات الانتقام لأوريست وتلقّيه الوحي في دلفي (مهبط وحي ربِّه الحامي أپولّو) ليذهب إلى الأريوپاجوس (تل الإله آرِس) في أثينا حيث يُحاكَم وتبرّئه أثينا ربّة الحكمة ويتخلص من مطاردة ربّات الانتقام.
والمهم أنّ تناول إسخيلوس للمأساة أصبح هو خط الأساس الذي بنى عليه اللاحقون تناوُلَهم لها، وذلك بحُكم سبقِه التاريخي.
* إلكترا عند سوفوكليس:
تقول الموسوعة البيزنطية (سودا Suda) –المؤلَّفة في القرن العاشر الميلادي– إنّ سوفوكليس (497 – 406 ق.م) قد كتبَ مائةً وثلاثةً وعشرين نصًّا مسرحيًّا، لكنّ ما وصلَ إلينا كاملاً من هذه النصوص سبعةٌ فقط (وهو للصُّدفة نفس الرقم الذي وصلَ إلينا من نصوص إسخيلوس). و(إلكترا) أحد هذه النصوص، وتقابلُ أحداثُه الجزءَ الثاني من ثلاثية أوريست لإسخيلوس، أي (حاملات القَرابين Choephorai).
ربما يتمثل أبرز الاختلافات بين إلكترا سوفوكليس وحاملات القرابين في ظهور أختٍ حيّةٍ لإلكترا، هي كرايزوثميس Chrysothemis في نَصّ سوفوكليس. ومِن خلال هذه الأخيرة نستكشف خبايا نفسية إلكترا التي لم نطّلع عليها مع إسخيلوس. كرايزوثميس تفضّل أن تساير الرياح وألا تمشي عكس التيار، فهي تعيش في كنَف أمها القاتلة وزوج أمها الملِك مغتصِب العرش مسالِمةً لا تُظهِر ولا تُبطِن ثورةً على ما آلَت إليه الأمور في قصر أبيها أجاممنون.
وخلال الحوار الطويل الذي يجمعها بإلكترا، تفصِح إلكترا عمّا يعتمل في نفسها من صراع بين نوازع الانتقام لأبيها ممثِّلةً العدالةَ كما تتصورُها، ونوازع الوفاء لأمِّها، تلك التي تمنعها من الإقدام على الانتقام من الأمّ باعتباره فعلاً شائنا.
ثمّ اختلافٌ آخر بين النصَّين، حيث تظهر في (حاملات القرابين) مرضعةُ أوريست، وبلسانها يُلمِح إسخيلوس إلى خُبث كليتمنسترا الشديد، فهي تُظهر اللوعة حين تسمع الخبر الكاذب عن وفاة ابنها، لكن يلتمع في عينيها فرحٌ سِرّيٌّ بخلاصِها من تهديد هذا الابن.
هذا فضلاً عن حُلم كليتمنسترا الذي ترى فيه أنها تُرضِع ثعبانًا، وتردد ما رأته وهي تحت تهديد أوريست بالقتل، وحين يواجهها أوريست بخطيئتها تقولُ إنّ أباه المقتول لم يكن بلا خطايا، فيرُدّ أوريست قائلاً إنها امرأةٌ تجلس في دفء غرفتها، ولا ينبغي لها أن تَحكُم على الرجال الذين يسافرون عبر البحر ويتكبدون المشاقّ.
كذلك نجد في نَصِّ إسخيلوس أنّ أوريست يسأل صديقَه (پيلاد Pylades) سؤالاً من باب تحصيل الحاصل، إن كان يجبُ عليه أن يخضع لتوسلات أمِّه بالعفو عنها، فيجيبُه الصديقُ بأنه هكذا سيكذّب وحي أبولّو الذي أمره بالانتقام ووعده بالنجاة، وخيرٌ له أن يتّخذ من كل بني الإنسان أعداءً، على ألاّ يُعادِيَ أحدَ الأرباب.
والخلاصةُ أنّ شخصيات إسخيلوس تبدو أكثر إخلاصًا لنوازع شديدة التحديد، وأكثر إيمانًا بوجهات نظرها، لا يخالجها شَكٌّ في صحة موقفها، فالأمُّ تخشى انتقامَ ابنِها ولا تخالجُها عاطفةُ الأمومة الجيّاشة، كأنها قد انفصلَت عنه شعوريًّا منذُ أرسلَته إلى قصر زوج عمّته في (فوكيس)، والابنُ عازم على إنفاذ مشيئة أبولو التي هي مشيئتُه، ويُمعِن في اللعب بأعصاب أمِّه بأن يسأل صديقَه ذلك السؤال العبثي، وإلكترا تعلِّقُ أملها الوحيد في الحياة على عودة أخيها لينتقم لأبيهما، ومنزلة المرأة متدنّيةً حتى ولو كانت أُمًّا، فلا يصحُّ لها أن تُسائلَ الرجُلَ ولا أن تحكُم على أفعالِه.
كل هذا في مقابل (إلكترا) سوفوكليس، حيث نرى حوارًا بين كليتمنسترا وابنتها لأوّل مرّة، وهو حوارٌ ينطوي على كثيرٍ من المشاعر المضطربة والاستفزاز المتبادَل والغضب المكبوت الذي ينفجر كل بضعة أسطُر، ونرى فيه بوضوحٍ ذلك الحُب غير المشروط من ناحية إلكترا لأبيها المقتول، حيث تُدافع عن تضحيته بابنته الكبرى إفيجينيا حين ذبحَها في (أوليس) إرضاءً للربّة أرتميس لكي تسمح الأخيرةُ لجيش الآخيِّين (اليونان) بالإبحار إلى طروادة، وربما لهذا يُعزى اصطلاح (عُقدة إلكترا Electra Complex) -الذي صكَّه (كارل يونج) للتعبير عن التعلُّق النفس-جنسي Psychosexual المرَضي للبنت بأبيها– إلى مسرحية سوفوكليس بالتحديد بين مسرحيات رواد التراجيديا الثلاثة الذين تناولوا المأساة.
فرغم ظهور وسواس الرغبة في الانتقام لدى إلكترا في المسرحيات الثلاث، إلاّ أنّه بالفعل اتخذ مَنحَىً مرضيًّا في نَصّ سوفوكليس، فضلاً عن أنّ هذا الأخير كان أكثرَ مَن دخل بنا دهاليزَ عقل إلكترا، وأظهرَنا على شطحات خيالِها، لاسيّما حين بدأَت في التحدُّث مع العجوز مُعلِّم أوريست باعتبارِه أباها.
* يوريپيدِس:
وصلَت إلينا أربعة نصوص مسرحية أفردَها آخر روّاد التراجيديا الإغريق (480-406 ق.م) لمأساة بيت أجاممنون، هي (إلكترا – أوريست – إفيجينيا في أوليس – إفيجينيا بين التاوريِّين). انفرد يوريبيدِس بتزويج إلكترا من فلاّحٍ بسيط سليم الطويّة، وهي زيجةٌ فرَضَتها كليتمنسترا وإيجيست لإبعاد (إلكترا) عن القصر وإذلالها، ولكي يضمنا –إن وُلِد لها ابنٌ– ألاّ يكون من أصلٍ نبيلٍ فيطمح إلى الانتقام واسترداد عرش جدّه أجاممنون، وذلك بعد أن رفض (إيجيست) تزويجَها للخاطِبين الكثيرين النبلاء الذين تقدموا لها. لكنّ الزوجَ الفلاّح يرى نفسَه أقلَّ شأنًا من أن يكون سيِّدًا لبنت الملِك المقتول، فلا يَقرَبُها إلاّ مواسيًا لها فيما تشعُرُ به باستمرارٍ من الحسرة، ويؤازرها في انتظارِها عودةَ أخيها لتحقيق الانتقام.
ويمضي يوريبيدِس خطوةً أوسعَ في نصيب إلكترا من اغتيال الأُمّ، حيث يستغلُّ حادثَ الزواج الذي انفردَت به نسختُه من الحكاية، ويجعلُ (إلكترا) تحتال للإيقاع بأمِّها، حيث تُرسِلُ إليها مَن يدعوها للقُدوم إلى بيتها بحُجّة أنها وضعت مولودًا، وتنجح الحيلة بالفعل ويقتل أوريست قاتِلَي أبيه. في مسرحية (أوريست) نرى بصورةٍ أوضح فِعلَ ربّات الانتقام في (أوريست)، حيث يعاني في المشهد الافتتاحي كوابيس تُقِضّ مضجعه ونوباتٍ أقرب إلى نوبات الصرَع العنيفة، ولعلّه بالفعل واحدٌ من أعنف المشاهد المسرحية وأقساها في التراجيديا الإغريقية كُلِها.
بخلاف هذا، نرى أوريست يحاول إقناع عمّه (منيلاوس) بحمايته من جموع الأرجوسيِّين أهل المملكة Argives المُطالِبين بدَم أوريست قاتل أُمِّه، ويتوسّل إليه بحقّ الوفاء لذكرى أخيه أجاممنون الذي أقام الحرب وخاضها لاستعادة (هِلِن) زوجة منيلاوس، لكنّ (منيلاوس) يرى في هذا انتحارًا ولا يجرؤ على الوقوف في وجه جُموع أهل المملكة، ويستتبع هذا أن يرى أوريست وصديقُه وأختُه العَمَّ (منيلاوس) جبانًا، ويقررون الانتقام منه بقتل (هِلِن) سبب كل الخراب الذي لحق بكلِّ بيتٍ من بيوت اليونان، واختطاف ابنتهما (هرميوني) لتهديده بقتلها هي الأخرى إن أصرَّ على رفض حماية (أوريست) وأختِه، لكنّ الخطة تفشل وتختفي (هِلِن) أثناء محاولة قتلها!
كذلك ينفرد نّصّا (إفيجينيا في أوليس) و(إفيجينا بين التاوريين) بتتبُّع مصير إفيجينيا، منذ اللحظة التي يستقدمُها فيها أبوها أجاممنون إلى أوليس ليضحّي بها على مذبح (أرتميس)، مرورًا بمفاجأة مَقدَم أمِّها (كليتمنسترا) معها، وخدعة تزويجها إلى البطل (أخيل)، والمواجهة بين أخيل والعروس المخدوعة، ثم اللحظة التي تقرر فيها (إفيجينيا) أن ترضى قضاء الآلهة وتضحّي بنفسها لاسترداد كرامة اليونان، وافتدائها بغزالةٍ على يد الرَّبَّة (أرتميس)، ثُمّ شعورها الجارف بالمرارة وقد نقلَتها الآلهة إلى تاوريكا Tauricaفي شبه جزيرة القرم Crimea لتصبح كاهنة معبد أرتميس هناك، فهي منفية عن وطنها وأهلها، تشعر بالحقد على اليونانيين الذين كادوا يضحُّون بها من أجل زوجةٍ خائنةٍ هي (هِلِن)، مرورًا بوصول أخيها (أوريست) وصديقه (پيلاد) إلى بلاد التاوريين – مدفوعَين كما هما دائمًا بوَحي أپولُّو – ليجلبا من معبد أرتميس صورتها التي سقطت من السماء وينصباها في أثينا ليتخلّصَ أوريست تمامًا من مطاردة ربّات الانتقام.
في الحقيقة، لم يُغرقنا في التفاصيل الأسطورية أحدٌ من الروّاد الثلاثة مثلما فعلَ يوريبيدس. وهو خلالَ ذلك لا يألو جهدًا في نفث آرائه الشخصيّة في بِنية ديانة اليونان القديمة كلِّها، فهو يُنطِق شخصياته بتلك الآراء التي يتردد صداها بين جنبات نصوصِه، فيقول في (إفيجينيا في أولس) عن (كالتشاس Calchas) العرّاف الذي أشار على أجاممنون بالتضحية بابنته لأرتميس: "رجُلٌ ينطق بقليلٍ من الحقائق وكثيرٍ من الأباطيل"، ويقول بلسان أوريست في (إلكترا): "لا أثق بنبوءات البشر على الإطلاق"، ويصل به الأمر إلى إنطاقهم بالتشكُّك في وجود الآلهة أو بإنكارها على الجُملة. وربما لهذا اتُّهِم يوريبيدس بالمُروق من الدِّين وترويج أفكار هدّامة تفسد شباب أثينا. ويحكي عنه (وِل ديورانت) - في الفصل الخامس من الباب السابع عشر من الكتاب الثالث (حياة اليونان) ضمن موسوعته (قصة الحضارة) – يحكي عنه ما يلي:
"في مسرحية (ميلانپي) المفقودة التي وُجِدَت منها قطعةٌ، يبدأ الحوار بقوله: "أي زيوس – إن كان ثَمَّةَ زيوس – لأني لا أعرفُ عنه إلا ما يقوله الناسُ فيه". ويُقال إنّ النظّارةَ حين سمعوا هذا القولَ هَبُّوا واقفين احتجاجًا عليه."
والشاهد أنّ يوريبيدس لم يُورِد الروايات الأسطورية لشَعبه في نصوصه المسرحية إلا ليعرضَها في كامل غرابتها على مواطنيه، لعلَّهم ينتبهون إلى مجافاتها للمنطق والعقل. وهو إلى جوار ذلك لا يُطيق كلّ مبالَغَةٍ قديمةٍ من إسخيلوس تُجافي العقل، ففي مسرحية (إلكترا) مثَلاً، يسخَر من حكاية تعرُّف إلكترا على أخيها (أوريست) من خصلة شَعره التي تشبه شعرَها وأثَر قدمِه الذي يشبه أثرَ قدمِها. وعلى ذلك، تبدو تقنية (الإله الخارج من الماكينة Deus ex Machina) التي يقول بعض نُقّاد ومؤرّخ المسرح الإغريقي إنّ يوريبيدس هو مَن اخترعها، تبدو تقنيةً يحاول بها لفتَ انتباهنا إلى غرابة حضور الآلهة وإلى أن وجودهم وهمٌ كبيرٌ مُقحَمٌ على سياق الأحداث.
مع ذلك، كان يوريبيدس أكثر اهتمامًا من إسخيلوس وسوفوكليس بالإفصاح عن المشاعر المتضاربة والصراعات الداخلية لأبطاله، ففي (إفيجينا في أوليس) نرى أجاممنون - العُتُلَّ الذي تصوره لنا الإلياذة ويصوره لنا إسخيلوس إنسانًا متعاليًا على المشاعر - للمرّة الأولى نراه إنسانًا ممزَّقًا بين عاطفة الأبُوَّة تحاه ابنتِه الكبرى المسكينة، والولاء لأخيه منيلاوس، والإشفاق من انتقام جيش الآخِيِّين إذا هو أحجَمَ عن التضحية بابنته. كذلك نرى التحوُّلات الشعورية العنيفة التي تعصِف بإفيجينيا في مسرحيتيها، ورغم أنّ شخصيتَها لا تظهر عند أيٍّ من سوفوكليس أو إسخيلوس، إلا أننا إذا تصوّرنا جدَلاً أنَّ أوَّلَهما كان يمكن أن يُطلِعَنا على ذلك النزَق الذي يموج به كيانُها قريبًا ممّا فعلَ يوريبيدس، فإننا نتصور أن إسخيلوس لم يكن ينبغي له –على الأرجح– أن يصوّر إفيجينيا هذا التصوير العنيف، فقد كان مهتمًّا –كما يقول وِل ديورانت– بعظائم الأمور، ملتفتًا بكُلّيته إلى مشيئة زيوس المتحققة من خلال الأرباب، مؤمنًا إيمانًا عميقًا بها.
ولعلّ العبارة الشهيرة التي تؤرّخ للروّاد الثلاثة بمعركة سلاميس Salamis الفاصلة بين الإغريق والإمبراطورية الأخمينية الفارسية عام 480 ق.م توضح لنا جانبًا مهمًّا من التكوين النفسي لثلاثتهم، وهو تكوينٌ انعكس بالضرورة على تناوُلهم الدرامي لأساطير بلادهم، ولا سيّما مأساةَ بيت أجاممنون. تقول تلك العبارةُ إنّ إسخيلوس قد شارَكَ في معركة سلاميس، وكان مشهورا بمشاركته، حتى إنّ قبرَه في (جيلا) في جزيرة صقلّية مكتوبٌ عليه "هنا يرقُد إسخيلوس بن يوفوريون الأثيني الذي مات في حقول الحنطة في (جيلا)، وتشهد ببراعته في القتال غابةُ ماراثون (حيث المعركة الأولى مع الفُرس)، ويعرفها الفارسي ذو الشَّعر الطويل جيِّدًا"، ولا يذكر شاهدُ القبر شيئًا عن كونِه ذلك المؤلّف المسرحي الذي شقّ طريق التراجيديا لمَن بعدَه! أمّا سوفوكليس فقد كان يودّع صِباه إلى مرحلة الرجولة وقتَ (سلاميس)، فكان بالكاد يحتفل مع الصِّبية بانتصار اليونان! وأخيرًا، فقد وُلِد يوريبيدس أصلاً عام (سلاميس).
وما توحي به العبارةُ أنّ إسخيلوس –كعادة أولئك الوطنيِّين الذين يُفنون زهرة شبابهم في ميادين القِتال– كان منذورًا لثقافة وطنه الموروثة، مؤمنًا تمامَ الإيمان بأركانِها، ولاسيّما ديانة شعبِه التي رضعها مع حليب أُمِّه، ولا غرابةَ في ذلك لأنّ الدِّين مقوِّمٌ رئيسٌ في تأسيس الشعور بالوحدة الوطنية، فحتى مع وجود طوائف متعددة، يركز الخطاب التعبوي دائمًا على مواطن التشابُه بين ديانات الطوائف ليؤلِّف بينها. ولعلّ ما يُؤثَر عن إسخيلوس، مِن أنَّ إله الخمر والدراما (ديونيزوس) قد تجلَّى له أثناء عمله في حقول الكَرم وأمرَه بأن يبدأ في كتابة التراجيديا، لعلّ هذا يؤكّد لنا تلك الصبغة الدينية الجليلة المسيطرة على مسرح إسخيلوس.
أمّا سوفوكليس، فهو الذي احتفلَ بالانتصار وهو صبيّ، فلا غرابةَ أن تثور شكوكُه حين يودِّع الصِّبا ويوغِل في الكهولة، ولا غَروَ أن نجدَه يبُثُّ إلكترا صراعاته الداخلية حين يتكلم بلسانها.
أخيرًا يأتي يوريپيدس، ذلك المولود في عام الحرب. وليس مَن سمع كمَن رأى! لقد وُلِد الرجُل وقد انقشع الخطر الفارسيُّ عن سماء أثينا، فشأنُه شأنُ مَن يولَدون بعد زوال الخطر الأجنبي، نجدُهم أكثرَ تسامُحًا مع الأعداء، أكثرَ تقبُّلاً لاختلافات الفُرقاء، أكثرَ عُرضةً للشّكَ في المسلّمات الموروثة بحُكم انتمائهم لفترة الرفاهية وما تستتبعُه من فراغٍ يحُضُّ على التفكير ومساءلة الماضي.
ويبقى المسرح اليوناني مادةً شديدة الخصوبة داعيةً إلى تأمُّل العالَم، وتبقى أساطيرُه قابلةً لإعادة التناول، داعيةً إلى استنزالِها إلى حياتنا المعاصرة، وربما نتناول بعضًا من التناولات الحديثة لمأساة بيت أجاممنون في مقال لاحق.