طغت قضية ما أطلق عليه إعلاميا "جريمة الفيرمونت" على وسائل التواصل الاجتماعي خلال الفترة الماضية، وهو ما كان له أثره على إفراد مساحات تغطية واسعة للجريمة على وسائل
الإعلام المصرية.
إلا أنه بتتبع أداء الإعلام المصري، سواء القومي والحكومي أو شبه المستقل (الذي تسيطر عليه أجهزة أمنية)، فإن الإعلام المصري لم يتوقف عند حد الرسوب في أدائه، بل إنه أصبح متورطا في تلك القضية.
قضية "جريمة الفيرمونت" هي جريمة ذات ثلاث أبعاد: بُعد اجتماعي وبُعد سياسي وبُعد أمني، وهو ما يجعلها قضية ذات أولوية واهتمام لدى وسائل الإعلام. وما يزيد تلك القضية أهمية هو التغير المحوري في مسار القصة الرئيسية للقضية، وتوسع دائرة أبطالها لتصبح مرتبطة بعدة فئات، منها فنانون وسياسيون ورجال أعمال.
قضية "جريمة الفيرمونت" بدأت ببلاغ حول
اغتصاب جماعي لفتاة بأحد أشهر فنادق القاهرة، ثم ما لبثت وسائل الإعلام أن حولتها إلى قضية حفل جنس جماعي، ثم طرأ تطور أهم وهو أن حفل الجنس الجماعي لم يكن الأول، ولكنه واحد ضمن سلسلة شملت أعمال جنس جماعي وشذوذ جنسي بشكليه للذكور والإناث، واتهام الفتاة مفجرة القضية لتتحول من ضحية إلى واحدة من منظمي الحفل، وبالتالي متهمة. ثم أصبح الصراع الخاص بتلك القضية في ذروته حينما بدأت معلومات تنتشر حول قيام أجهزة الأمن باعتقال ثلاث فتيات شاهدات في القضية وإخفائهن قسريا! حيث اعتقلت قوة من الأمن المصري، أولى الشاهدات من منزلها، السبت الماضي، ثم اعتقلت الثانية بينما كانت تستقل سيارتها، والثالثة من أحد الأماكن العامة في القاهرة وفقا لمصادر حقوقية في القاهرة.
الخطأ الجوهري الذي وقع فيه الإعلام المصري بكل أطيافه هو التعامل مع هذه القضية من خلال مصدر واحد، وهو تحريات الأمن العام ومحاضر النيابة، وهو ما يعني أن الرواية الأمنية هي المصدر الرئيسي والوحيد للرأي العام حول الجريمة، فيما كان ينبغي أن تتعدد مصادر المعلومات. فجهات التحقيق رغم كونها من أهم مصادر المعلومات في القضايا الجنائية، إلا أن روايات شهود العيان، وروايات المتهمين أنفسهم وأسرهم من الزوايا شديدة الأهمية، وهو ما يحمي القضية من محاولات التلاعب بها من خلال أجهزة التحقيق أو مراكز القوى، خاصة في مثل تلك القضايا المتهم فيها أبناء شخصيات عامة ومشهورة، وقد يكون بعضهم له علاقة بالسلطة.
ذلك الخطأ هو ما وضع القضية في مرحلتها الحالية في مساحة الشك، فكيف للرأي العام أن يثق فيما تعلن عنه جهات التحقيق الآن، من تحول الضحية التي تم بناء القضية عليها بالأساس إلى متهمة؟!! تكمن خطورة هذا السؤال في أن سلطات التحقيق لها سوابق متعددة في تلفيق الاتهامات والاعتماد على تحريات أجهزة الأمن المفبركة وغير المنطقية، ثم إثبات كذب تلك التحريات وزيف الاتهامات التي توجهها جهات التحقيق في مصر.
الصحافة تسمى عادة "السلطة الرابعة"، ورغم كون المؤسسات الصحفية والإعلامية ليست جهات تنفيذية، إلا أن دورها الرقابي الذي تقوم بها كجزء أساسي من صميم عملها، هو أداة الرقابة الشعبية الحقيقية على مجريات الأمور. لذلك فالمؤسسات الإعلامية في مصر بكل أطيافها قد تخلت في هذه القضية عن دورها المهني الرئيسي في أن تصبح الرقيب المجتمعي والمحقق الخاص للجمهور لتفنيد تلك القضية، إذ إن وسائل الإعلام قررت التوقف عن عملها والاكتفاء بنشر رواية الأجهزة الأمنية وجهات التحقيق، لتتحول إلى بوق للسلطة التنفيذية وليس رقيبا يمثل المجتمع.
أما الخطأ الثاني والمهم الذي وقعت فيه وسائل الإعلام المصرية في تلك القضية، هو اقتصار تناول القضية في شقها الجنائي والأمني فقط، دون فتح المجال إلى البُعدين الآخرين المهمين، وهما البُعد الاجتماعي، والبُعد السياسي.
فمهمة العمل الإعلامي أن يبحث عن إجابات على الأسئلة التي تدور في ذهن المجتمع، وكذلك أن يشير إلى الأسئلة الهامة التي لم يلتفت إليها المجتمع، لمساعدة الجمهور على فهم نفسه، والتعلم من أخطائه.
وفي قضيتنا هذه هناك الكثير من الأسئلة التي كانت تجب إثارتها ومحاولة الإجابة عليها، منها على سبيل المثال لا الحصر:
- كيف ومتى بدأت تنتشر حفلات الجنس الجماعي والشذوذ في مصر؟
- ما هي الأوساط المتورطة في تلك الحفلات، وهل تقتصر على طبقة الأثرياء أم تحولت إلى جريمة منظمة تستهدف الفقراء مقابل المال؟
- هل تطورت الأمور في مصر لتصل إلى عصابات الاتجار بالبشر في مجال الجنس؟
- ما هو الخلل المجتمعي الذي نتج عنه انتشار تلك الأعمال المخالفة للتركيبة الثقافية والاجتماعية المصرية؟
- لماذا يرتبط السياسيون دائما بمثل تلك النوعية من الأعمال المشبوهة أخلاقيا؟
- ما هو التأثير السياسي لتلك النوعية من الجرائم على المناخ العام في مصر وعلى الساسة؟
- ما علاقة الخلاف بين الأزهر من جانب والأوقاف والسلطة العسكرية من جانب آخر على تراجع الوازع الأخلاقي والقيمي في مصر؟
- هل للأعمال الفنية والثقافية في مصر علاقة بهذه الظاهرة؟ وهل تعمل على علاجها؟
وغيرها الكثير من الأسئلة التي كان يجب على وسائل الإعلام المصرية أن تعمل على طرحها ومحاولة الإجابة عليها، إلا أن وسائل الإعلام المصرية قررت أن تحصر "جريمة الفيرمونت" على الشق الأمني الجنائي منها، وفي هذا الشق اقتصرت على الرواية الأمنية وفقط متجاهلة كل المصادر الأخرى للمعلومات.
ما تقوم به المؤسسات الإعلامية المصرية ليس فقط رسوبا مهنيا جديدا، ولكنه تورط واضح في تلك القضية ومثيلاتها، فالتخلي عن الدور المهني يقتضي بمجريات الأحوال أن تعم تلك الظواهر في المجتمع دون أدنى مقاومة جماعية، فوسائل الإعلام أحد أهم عناصر المقاومة الجماعية للظواهر غير الأخلاقية والضارة، وتوقف المؤسسات الإعلامية عن هذا الدور يعني أنها متورطة بشكل أو بآخر في السماح لتلك الظواهر بالتغلغل في المجتمع، لتواجه المقاومة الفردية الضعيفة.
أخيرا، فعلى قيادات العمل الإعلامي في مصر أن تُحضّر إجاباتها، كيف ستدافع عن نفسها أمام التاريخ والأجيال حول هروبها وانسحاقها أمام الواقع وتخليها عن دورها كمدافع عن المجتمع.
* صحفي مصري، متخصص في شؤون المجتمع المدني