لهذه الأسباب جريمة تطبيعهم كارثية

لا أتفق مع من يقلل من حجم الكارثة التي حصلت بالتطبيع الناعم والمجاني الذي قدّمته الإمارات والبحرين على طبق من ذهب لدولة الاحتلال، ليس تعظيما مني لشأن الدولتين، ولكن لهول المصيبة التي حصلت وفظاعة ما مهّد لذلك من مقدمات، ثم ما رافق ذلك التوقيع المشين من ممارسات يندى لها الجبين.

فالإمارات والبحرين أصرّتا على أن تكونا في المركز الأول في سجل العار والانبطاح للاحتلال، وبتفوق واضح على الدول التي سبقتهما بتوقيع اتفاقات مع تل أبيب؛ فنحن لم نألف مكالمات هاتفية بين رئيس وزراء الاحتلال ومواطنين من الأردن أو مصر فضلا عن الضفة الغربية المحتلة، كما حدث مع المدعو خليفة باتصاله مع نتنياهو وادعائه تعلم العبرية عبر تطبيق "زووم"، وقد يكون لا يتقن العربية أصلا!

ولَم نشاهد بثا مشتركا للقنوات التلفزيونية المطبعة مع تلفزيون الاحتلال، كما هُو حال القنوات الرسمية في البحرين والإمارات.

ولم نسمع عن حملة شيطنة للفلسطينيين وانتقاص منهم في الإعلام الرسمي المصري أو الأردني قبل توقيع اتفاقات التطبيع كما هُو الحال في إعلام الدول المحاصرة لقطر، ولَم نشهد تواطؤ تجار من تلك الدول في بيع عقارات مقدسية للاحتلال كما سمعنا عن تجار مقربين من نظام محمد بن زايد.

بل وصل الأمر بمقربين من ابن زايد للترحيب مسبقا بأي عدوان إسرائيلي على غزة، وتأكيد عدم اعتباره عائقا في طريق السلام مع مجرم الحرب نتنياهو!

هم يضحكون على أنفسهم ويثيرون الشفقة واستياء الآخرين منهم؛ حين يتحدثون عن سلام مع جهة لا تجمعهم بها أي حدود مشتركة ولَم يخوضوا ضدها أي حروب نظامية مباشرة، متوهمين أن هذا فيه مصلحة لبلدانهم واستقرار لحكمهم، ولو كان ذلك نافعا لأحد لنفع الشاه في إيران الذي لم يشفع له ولاؤه المطلق لواشنطن وعلاقته الدافئة مع تل أبيب في الدفاع عنه أو تثبيته على كرسي الحكم، حين دقت ساعة الخطر الشعبية ضده.

حتى قول الشاعر:

‏لا تُصالح! ولو مَنحوك الذّهَب

‏أتَرى حينما أفقأ عينيك

‏ثمّ أثبت جَوهرتين مكانهما..

‏هل ترى؟ هي أشياءٌ لا تُشترى..

لم يعد له معنى معهم! فهم لم يحصلوا على أي ذهب، وكل ما لديهم من شهامة ومروءة وكرامة فقد ذهب، ولَم تبق عيون ولا جواهر؛ مجرد حديث إماراتي رسمي فارغ عن فلسطين، مع تعليق رمزي لخطة الضم دون مواعيد محددة، يقابله تصرف أكثر سوءا من وزير داخلية البحرين الذي لا يرى في قضية فلسطين أي شأن مصيري لبلاده. وقد أحسن حيث أساء فالأرض المباركة (فلسطين) أجلّ وأرفع من أن تكون قضية مصيرية لأمثاله.

إلا أن الحالة الشعبية الخليجية كانت خلاف تلك الأنظمة المنعزلة عن شعوبها، وكان رفض التطبيع حاضرا عبر منصات التواصل، وبرزت بقوة جهود الرابطة الإماراتية لمقاومة التطبيع مع حضور فاعل لوسم "بحرينيون ضد التطبيع"، مؤكدين بذلك وضوح البوصلة الشعبية نحو قضية فلسطين القضية الأولى للأمة، وانعزال الأنظمة الرسمية عن المزاج الشعبي العام. ولأن هذه الشعوب غارقة في براثن القمع والتخويف من بطش حكامها، فقد جاء حراكها محصورا في الفضاء الأزرق.

اتفاق كارثي خالف إرث الراحل زايد، ونكث بعهد الملك البحريني بعدم التطبيع قبل زوال الاحتلال، وغدت فيه هاتان الدولتان بمثابة البوابة الخلفية للسعودية في العلاقة مع الاحتلال، وباتت أبوابهما مشرعة للصناعات الإسرائيلية لتغزو أسواق الخليج.

ولكن يبقى السؤال الأكثر إلحاحا: لماذا انتقاد البحرين والإمارات وهما لم تأتيان بجديد، فقد سبقتهما لذلك مصر والأردن والسلطة الفلسطينية ذاتها؟ والجواب من جهتي واضح، فرفض التطبيع مبدئي، وعليه فكل فكر أو قول أو فعل أو قبول أو اتفاق من شأنه إزالة حالة العداء مع المحتل يعتبر خيانة لقضية فلسطين وخذلانا لها.

أما من جهة السلطة الفلسطينية، فالقضية مرتبطة بمخالفة البحرين والإمارات للإجماع العربي المتمثل بعدم التوقيع الفردي مع الاحتلال قبل منح الفلسطينيين دولة ذات سيادة على الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، مع عودة اللاجئين، حسب المبادرة العربية للسلام التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز وأقرتها الجامعة العربية. وما جرى برأي القيادة الفلسطينية مثّل طعنة في الظهر ومخالفة للإجماع العربي، ومع ذلك لم تقم الجامعة العربية بإدانة الشذوذ الإماراتي، فضلا عن إدانة التطبيع البحريني الذي لم تجتمع الجامعة العربية لنقاشه، وفي الغالب لن تجتمع.

في النهاية يجب عدم الاستهانة بأي خروج عن إجماع الأمة على رفض التطبيع مع الاحتلال، سواء أقام بهذا الفعل أفراد أم حكام، دول هامشية أو محورية، وعلى كل عقلاء الأمة ونشطائها مواصلة تعرية المطبعين وفضح فعالهم ورفع الصوت عاليا بوجههم، مع عمل حقيقي على الأرض لاستنهاض حراك وطني جامع يقاوم أولئك المتخاذلين بكل الطرق المشروعة والممكنة.