هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
عُقدت يوم الخميس الماضي في مقر حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل الجولة الرابعة من المحادثات التقنية بين تركيا واليونان، وذلك للحيلولة دون وقوع حادث يؤدي إلى الانزلاق نحو صدام عسكري بين الجانبين شرق البحر الأبيض المتوسط. ومن المقرر أن تُعقد الجولة القادمة في ٢٤ من الشهر الجاري، وهو اليوم الذي من المفترض أن يشهد أيضاً اجتماعاً لدول الاتحاد الأوروبي لمناقشة إمكانية فرض عقوبات على أنقرة بسبب الخلاف مع أثينا.
تجري هذه التطورات في ظل تقارير تشير الى استمرار ألمانيا في محاولاتها تخفيض التوتر لتهيئة الأرضية اللازمة لطرفي النزاع للجلوس الى طاولة المفاوضات، بعد أن كانت اليونان قد قوَضت عدّة مبادرات مماثلة الشهر الماضي، الأمر الذي دفع الى تصعيد الأزمة بشكل غير مسبوق والى تدخّل حلف شمال الأطلسي عبر أمينه العام لطرح مبادرة المحادثة التقنّية، لمنع حدوث اشتباك غير مقصود بين الجانبين. وبالرغم من أنّ اليونان كانت قد رفضت هذه المبادرة والأمين العام للحلف، متّهمة إيّاه بالكذب بعد أن أعلن بأنّ الجانبين وافقا على المبادرة التي طرحها، عادت أثينا لتوافق لاحقاً تحت ضغط انكشاف جهودها لتقويض مبادرات تخفيض التصعيد.
لكن موافقة اليونان على مبادرة الناتو لم تكن اقتناعاً منها بجدوى مثل هذه المحادثات التقنية؛ بقدر ما كانت بمثابة مناورة على ما يبدو لنفي التهم المنسوبة إليها بالوقوف خلف تصعيد الأزمة. إحدى المؤشرات على مثل هذا الاستنتاج تمكن ملاحظتها من خلال موقف قبرص المستجد في الأزمة. وتعرقل جمهورية قبرص، وهي واحدة من أصغر دول الاتحاد الاوروبي، قرار الاتحاد فرض عقوبات على بيلاروسيا، وتشترط أن يقوم الاتحاد بفرض عقوبات شديدة على تركيا. ويرتبط موقف قبرص هذا على الأرجح بالتحريض اليوناني ومحاولة توزيع الأدوار لتخفيف العبء عن اليونان.
موافقة اليونان على مبادرة الناتو لم تكن اقتناعاً منها بجدوى مثل هذه المحادثات التقنية؛ بقدر ما كانت بمثابة مناورة على ما يبدو لنفي التهم المنسوبة إليها بالوقوف خلف تصعيد الأزمة
على أي حال، فرض عقوبات قاسية على تركيا يعني أنّ الإتحاد الأوروبي قد أغلق الباب أمام خيار التفاوض بين الجانبين، مُفسحاً المجال للتصعيد العسكري بأن يبلغ مداه، مع ما يحمله مثل هذا الخيار من مخاطر؛ ليس فقط على مستوى العلاقات التركية- اليونانية، وإنما على مستوى الاتحاد والتداعيات التي قد تنجم عنه. وعليه، من الصعب تقبّل فرضية فرض عقوبات قاسية على تركيا، والأرجح أن يقوم الاتحاد بالتخلي عن هذا الخيار أو فرض عقوبات شكلية لإرضاء بعض الأعضاء، والإبقاء على خيار التفاوض في نفس الوقت.
بغض النظر عن هذه التفاصيل التكتيكية، هناك من يرى أنّ اليونان ستضطر في نهاية المطاف الى الجلوس على طاولة المفاوضات. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: أي نوع من المفاوضات؟ وعلى ماذا سيتم التفاوض بالتحديد؟ الجانب اليوناني سيحاول على الأرجح العودة الى المفاوضات الاستكشافية التي تهدف إلى سبر نوايا الطرفين، كما أنّه سيدفع باتجاه تحديد نطاق المفاوضات موضوعياً بالخلاف الجزئي في شرق المتوسط.
الهدف من مثل هذا التصوّر اليوناني تنفيس الاحتقان القائم وتخفيض التصعيد، بشكل يوحي بانتصار أثينا على أنقرة في هذه الجولة، لكن دون حلّ الأزمة بشكل حقيقي أو جذري، بدليل أنّ المفاوضات الاستكشافية من هذا النوع كانت قائمة بين الطرفين من العام ١٩٩٦ تقريباً، ولم تسفر عن أي تقدّم جوهري في أي من المواضيع الخلافية بينهما. فضلاً عن ذلك، فانّ حصر التفاوض في الخلاف الجزئي في شرق البحر المتوسط فقط، يعني إبقاء المواضيع الأخرى بمثابة قنبلة قابلة للإنفجار في أي وقت، وتشمل على سبيل المثال لا الحصر الخلاف في بحر إيجة حول الحدود البحرية والجوية أيضا، والخلاف المتعلق بقبرص، والخلاف المتعلق بتسليح الجزر اليونانية، والخلاف المتعلق بوضع الأقليات التركية والمسلمة في اليونان، والتي يتم انتهاكات حقوقها بالرغم من الضمانات التي تم تقديمها في الاتفاقيات الدولية التي أفضت الى نشوء الدولة التركية الحديثة، بالإضافة طبعاً الى ملف دعم أثينا لعناصر تركية شاركت في الانقلاب العسكري الذي جرى في العام ٢٠١٦ وتأمين الحماية واللجوء لبعضهم.
هذه الملفات تعني أنّه حتى مع افتراض نجاح المفاوضات المحدودة (وهو إحتمال ضعيف)، فانّ الملفات الأخرى لن تسعف العلاقات التركية- اليونانية أو حتى التركية- الأوروبية. في ظل هذه المعطيات هناك حاجة إلى حل السلّة الواحدة الذي يضمن التوصل إلى اتفاق ينهي جميع الأزمات دفعة واحدة، ويفتح المجال أمام آفاق جديدة للعلاقات التركية- اليونانية والتركية- الأوروبية بشكل غير مسبوق، مع الاعتراف بأنّ هذا الطرح صعب ومعقّد ومُجهد، ويحتاج بطبيعة الحال الى توافر الإرادة اللازمة عند الجانب اليوناني ومن يقف خلفه، إلا أنّه الحل الأنجع والأكثر ضمانة وموثوقية.
هناك حاجة إلى حل السلّة الواحدة الذي يضمن التوصل إلى اتفاق ينهي جميع الأزمات دفعة واحدة، ويفتح المجال أمام آفاق جديدة للعلاقات التركية- اليونانية والتركية- الأوروبية بشكل غير مسبوق، مع الاعتراف بأنّ هذا الطرح صعب ومعقّد ومُجهد