هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في مساء يوم الجمعة السادس عشر من شهر تشرين أول (أكتوبر) وقعت حادثة شنيعة في ضاحية من ضواحي العاصمة الفرنسية باريس، حيث قام شيشاني مسلم بذبح أستاذ تاريخ في مدرسة فرنسية قيل إنه عرض رسوماً مسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم استفزت الشيشاني وأغضبته فأقدم على ذبح المعلم بالسكين، ثم قامت الشرطة بقتله أثناء مطاردته.
وتتابعت ردود الأفعال، حيث أدانت المؤسسات الإسلامية الكبرى كالأزهر، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الحادث وانتقدت بشدة فعل الشاب الشيشاني المسلم، وكان يفترض أن يحدث إجماع شعبي إسلامي على رفض جريمة الذبح، لكن الذي حدث أن أيَّد بعض المسلمين على مواقع التواصل الاجتماعي ما فعله الشاب وعدّوه علامة على محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرة على الدين، ودعا بعضهم إلى صلاة الغائب عليه، وانتقد الكثيرون بيان الأزهر بل أعلن بعض المشاهير على السوشيال ميديا وفاة الأزهر، وبالغت التعليقات في الهجوم على البيان، وامتلأت التعليقات بذكر نصوص وأدلة على وجوب قتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً كان أم كافراً، وهو ما يعكس الأزمة الفكرية والأخلاقية والنفسية التي نعيشها، وكيف بلغ بنا الحال إلى أن ما يجب أن لا يختلف في إنكاره ورفضه، صرنا نختلف عليه بل ويسوغه البعض ويرحب به.
وجه الإشكال تقييد إدانة الجريمة
يلفت النظر في بعض الإدانات الصادرة عن المؤسسات الرسمية والشعبية للجريمة أنها ربطت بين جريمة الذبح وسلوك المعلم الفرنسي والتصريحات السابقة للرئيس ماكرون؛ كأنهم يريدون الاستنتاج أنهما بقولهم وفعلهم حمّسوا الشاب لارتكاب جريمته.
والإدانة للجريمة كان يجب أن تصدر مجردة عن إدانة إساءة المعلم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن رفض الإساءة أمر بدهي معلوم، وربطها بالحدث قد يُفهم على أنه تبرير لفعل الشاب والتعاطف معه والإلقاء باللائمة على المعلم المذبوح، تماماً مثلما حدث من بعض الدعاة حين انتقدوا فعل المتحرش ثم وجهوا اللوم وحصروا السبب في لباس المتحرش بها، وهو خطأ كبير أيضا لأنهم يبررون بذلك فعل التحرش من حيث لا يشعرون، وكأن المتبرجة إذا تحرش بها أحد فلا تلوم إلا نفسها، أما المتحرش فمسكين معذور لم يملك نفسه أما سفور النساء، والواجب فعله دون تردد هو إدانة ورفض الفعل والجريمة في الصورتين: التحرش والذبح بعيداً عن أى تبريرات أخرى من شأنها أن تُضعف من شناعة الجريمة في أعين فاعلها والناس وهو ما سيُنتج إغراء غيره بتكريرها ما دام الذبح يجعله بطلاً محبا للنبي صلى الله عليه وسلم في أعين بعض المسلمين وإن قلّوا.
على أن المتعاطفين مع الذابح الشيشاني لم يقفوا على تفاصيل الحادثة واكتفوا بتحميل المعلم الفرنسي المسؤولية بعرضه للرسوم المسيئة، وقد تبين فيما بعد حسب حكاية ـ لا ندري مدى دقتها ـ أب لأحد التلاميذ في فصل المعلم المذبوح قائلاً على لسان ولده: كان الأستاذ لطيفاً مهذباً ولم يكن كارهاً للإسلام، وقد طلب من التلاميذ المسلمين رفع أيديهم والخروج من الحصة قبل عرض الرسوم تجنباً لعدم جرح مشاعرهم، وقد رفضت فتاة الخروج من الفصل فكانت تلك بداية ونهاية حياة المعلم.
القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة يقرران منهجية التعامل مع الإساءة للمقدس
القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة هما المصدران الحاكمان على غيرهما من الأدلة، وبالأحرى على أقوال الفقهاء والتابعين، ومنهجية الصبر والتجاهل هي ما أسس له القرآن الكريم والسنة النبوية في التعامل مع تلك الإساءات التي وقعت في العهد النبوي في صور متعددة ورد ذكر بعضها في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 52 ـ 55] ، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 97 ـ 99] ، وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10]، وقوله تعالى {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 10] وقوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، وقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] ، وقوله تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
فهذا الحشد من الآيات القرآنية واضح في بيان المنهج الأمثل للتعامل مع الإساءات للنبي صلى الله عليه وسلم وهو منهج لا عنف ولا قتل فيه، وأما السنة النبوية فمن أهم النصوص المبينة لعدم قتل الكافر المسيء للنبي صلى الله عليه وسلم، حديث سلمة بن الأكوع الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه قال رضي الله عنه "فلما اصطلَحْنا نحنُ وأهلُ مكةَ، واختلط بعضُنا ببعضٍ، أتيتُ شجرةً فكسحتُ شوكَها فاضطجعتُ في أصلِها، قال: فأتاني أربعةُ من المشركين من أهلِ مكةَ فجعلوا يقعون في رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأبغضتُهم، فتحوَّلتُ إلى شجرةٍ أُخرى، وعلَّقوا سلاحَهم، واضطجَعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مُنادي من أسفلِ الوادي: يا لَلمهاجرين! قُتِلَ ابنُ زُنَيمٍ، قال: فاخترطتُ سَيفي ثم شددتُ على أولئِك الأربعةِ وهم رقودٌ، فأخذتُ سلاحَهم فجعلتُه ضِغثًا في يدي. قال: ثم قلتُ: والذي كرَّم وجهَ محمدٍ ! لا يرفعُ أحدٌ منكم رأسَه إلا ضربتُ الذي فيه عيناه. قال: ثم جئتُ بهم أسوقُهم إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. قال: وجاء عمي عامرٌ برجلٌ من العبلاتِ يقالُ له مكرزٍ يقودُه إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على فرسٍ مُجفَّفٍ في سبعينِ من المشركين، فنظر إليهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: (دَعوهم يكن لهم بدءُ الفجورِ وثناه ) فعفا عنهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم، فهذا حديث جليل صحيح دلالته واضحة على عدم قتل من يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان الحكم معلوماً لسلمة لقتلهم جميعاً ولم يذهب بهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولما أعرض عنهم وذهب إلى ظل شجرة أخرى بعيداً عنهم، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنهم ولم يتعرض لهم بأذى، ولو كان القتل حدَّهم، ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يعفو، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: "تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب".
القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة هما المصدران الحاكمان على غيرهما من الأدلة، وبالأحرى على أقوال الفقهاء والتابعين، ومنهجية الصبر والتجاهل هي ما أسس له القرآن الكريم والسنة النبوية في التعامل مع تلك الإساءات التي وقعت في العهد النبوي في صور متعددة ورد ذكر بعضها في القرآن الكريم،
ومن الأحاديث المهمة في هذا الباب أيضا حديث إسلام أُمّ أبي هريرة وهو حديث طويل أخرجه مسلم في صحيحه وفيه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَكْرَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ".... الحديث، فأبو هريرة يعلم أن لا قتل لساب النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا لما طلب منه الدعاء لأمه المستحقة للقتل بفعلها، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتردد في الدعاء لها، وينتهى الأمر بإسلامها بعد ساعات من دعوة النبي الأكرم بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم.
هل هناك إجماع على قتل سابّ النبي وإن كان كافراً؟
من أشهر الكتب التي تعد مصدراً رئيساً في نقل عقوبة ساب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب ابن تيمية: الصارم المسلول على شاتم الرسول، وقد حكى فيه الإجماع على قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان كافراً ثم نقض هذا الإجماع بحكاية الخلاف قائلا: "قال وحكى عن النعمان يعنى أبي حنيفة: لا يقتل يعني الذمي، ما هم عليه من الشرك أعظم" الصارم المسلول ص 13. فالإجماع لا يصح في المسألة، ونقض الإجماع الخطوة الأولى لإعادة النظر في المسألة وكونها مسألة اجتهادية خلافية لا إجماعية، وتلك مسألة يطول نقاشها وبيانها وقد أفردت لها بحثا قدمته لندوة التعامل مع الإساءة للمقدس التي نظمها المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في باريس، 16 جمادى الآخرة 1436 هـ / 5 نيسان (إبريل) 2015م وترجم ونشر باللغة الروسية.
كيف نفهم أقوال الفقهاء في المسألة؟ وهل تتنزل على واقعنا اليوم؟
الفقهاء الذين قالوا بقتل المسلم إنْ سب النبي صلى الله عليه وسلم أسسوا قولهم على الحكم بردته، وعليه فمن يقول بعدم قتل المرتد وهو ما نرجحه يقول بعدم قتل الساب، أما قتل الكافر إن سب النبي صلى الله عليه وسلم فالفقهاء يقصدون الكافر الذي يعيش في دار الإسلام بعهد ومن بنود العهد أن يتعرض للنبي صلى الله عليه وسلم بالسب، فإن تعرض له بالسب نقض عهده وأمانه كما جاء في بعض كتب المالكية: "يُنْقَضُ عَهْدُ الذِّمَّةِ بِسَبِّ نَبِيٍّ مُجْمَعٍ عَلَى نُبُوَّتِهِ عِنْدَنَا"منح الجليل شرح مختصر خليل (3/ 225)، على أن حديثهم كان في مرحلة ما قبل وجود الدولة الحديثة بقوانينها وتبدل نظامها على نحو لا يمكن تنزيل هذه الأحكام الفقهية عليه، وعليه فإن تنزيل حكم قتل الساب للنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم في الواقع الأوروبي خطأ مبين؛ لأن الفقهاء لم يقصدوه إشارة أو عبارة بل لم تكن تلك الصورة المعاصرة موجودة في زمانهم. على أن كل ما ورد عن الفقهاء من أحكام إن سُلم به في هذه المسألة تنفذه السلطة القضائية والتنفيذية ولا يوكل تنفيذه إلى الأفراد وإلا عمت الفوضى وشاع القتل في المجتمعات.
هل أمر أو أذن أو أقر أو سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل من سبه؟
لم يأمر ولم يأذن ولم يقر ولم يسكت صلى الله عليه وسلم عن قتل من سبه ويمكننا فهم كل الوقائع التي يستشهد بها على قتل الساب وفق الأقسام التالية بإيجاز: الأول: نصوص ضعيفة أو موضوعة لا قيمة لها من ناحية السند كحديث عصماء بنت مروان، وقصة الأعمى الذي قتل جاريته أم ولده لأنها كانت تسب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: ما ورد في سياق حربي وقتال بين فريقين ولا صلة له بالسب وإن ذكر فيه، كحديث عبد الرحمن بن عوف قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضْلَعَ منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخبرتُ أنه يسب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم... الخ فقتله لم يكن بسبب السب وإلا لقتل قبل المعركة والحرب.
الثالث: القتل بدافع الخيانة ونقض العهد أو القَوَد كما في قصة عبدالله بن خطل الذي كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اقتلوه ولو تعلق بأستار الكعبة" وقد بين العلماء أن سبب القتل القود أو الخيانة ونقض العهد كابن عبدالبر قال: "وزعم أصحابنا أن هذا أصل في قتل الذمي إذا سب النبي عليه السلام وهذا غلط؛ لأن بن خطل كان حربيا في دار الحرب لم يدخله رسول الله في أمان أهل مكة بل استثناه من ذلك الأمان" الاستذكار ج:4 ص:403، وقال القاضي أبو بكر بن العربي الإشبيلي المالكي: وأمّا قتلُ عبد الله بن خَطَل، فقَتَلَهُ سعيد بن حُرَيْث المخزوميّ وأبو بَرْزَةَ الأسلمي اشتركا في دَمِهِ، وهو رجل من بني تيم بن غالب. قال: وإنّما أمر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ بقتله؛ لأنّه بعثه مُصَدّقًا وكان مُسْلِمًا، وبعث معه رَجُلًا من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه وكان مسلمًا، فنزل ابنُ خَطَل منزلًا، وأمر المولى أنّ يذبح له شاة ويصنع له طعامًا، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئًا، فعدا عليه فقتله، ثمّ ارتدّ مشركًا، فهذا قَوَدٌ من مسلم". المسالك في شرح موطأ مالك (41/472 ـ 475).
واقع الحال أن التعامل مع الإساءات لمقدسات المسلمين بأي صورة من صور العنف كالقتل كما في شارلي إيبدو، أو الذبح كما في واقعة المعلم الفرنسي، أو حتى التظاهرات الضخمة التى عمت العالم العربي كتلك التي وقعت بعد أحداث الرسوم في الدنمارك لم توقف تلك الإساءات، وإنما أعطتها قبلة الحياة وأغرت بالتكرار والمعاندة
والحاصل أن كل الوقائع التي وقع فيها قتل لساب اجتمع فيها السب مع الخيانة والقتل فالعقوبة على المحاربة والقتل لا السب، وهذ نص مهم للإمام بدر الدين العيني يؤكد فيه على هذا المعنى في أربع حوادث مختلفة قال: (فإن قلت: قتل النبي كعب بن الأشرف فإنه قال: من لكعب بن الأشرف فإنه يؤذي الله ورسوله؟ ووجه إليه من قتله غيلة، وقتل أبا رافع قال البزار: كان يؤذي رسول الله ويعين عليه. وفي حديث آخر: أن رجلا كان يسبه فقال: من يكفيني عدوي؟ فقال خالد: أنا فبعثه إليه فقتله. قال ابن حزم: وهو حديث صحيح وذكر عبد الرزاق أنه سبه رجل فقال: من يكفيني عدوي؟ فقال الزبير: أنا، فقتله. قلت: الجواب في هذا كله أنه لم يقتلهم بمجرد سبهم وإنما كانوا عونا عليه ويجمعون من يحاربونه(عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني (24/82).
إن مباركة الفعل من قبل البعض يؤكد على أن الإسلام كم يؤذى من أصدقائه الطيبين أكثر مما يؤذى من أعدائه الحاقدين، وواقع الحال أن التعامل مع الإساءات لمقدسات المسلمين بأي صورة من صور العنف كالقتل كما في شارلي إيبدو، أو الذبح كما في واقعة المعلم الفرنسي، أو حتى التظاهرات الضخمة التى عمت العالم العربي كتلك التي وقعت بعد أحداث الرسوم في الدنمارك لم توقف تلك الإساءات، وإنما أعطتها قبلة الحياة وأغرت بالتكرار والمعاندة، ولا يتردد متابع منصف إلا أن يقضي بأن الخاسر الأكبر في تلك الأحداث هم المسلمون، والرابح الأكبر هم الرسامون والصحفيون وتيار اليمين المتطرف.
الواجب على المسلمين شرقا وغربا محاصرة وتحجيم مخاطر هذه الحوادث وذلك بإجماع شعبي وعلمائي ومؤسسي على إدانتها ورفضها وعدم إعطاء أي مسوغ أو مبرر أو تعاطف مع فاعلها، فإن كان من رد على تلك الإساءات فليكن بأسلوب حضاري قانوني معروف ومألوف ومنسجم مع النظام العام، كالرد على الرسم برسم، وعلى الفيلم بفيلم، والفن بفن، والله تعالى نسأل أن يلطف بالمسلمين في الغرب في قضائه وقدره لطفاً يليق بكرمه، وأن يرزقنا الحكمة والبيان في قولنا وفعلنا إنه سميع قريب.