في عالم اليوم المجنون، بهت الإنسان الجبار، حين وجد كل الاحتمالات مداسا عليها ببساطير الواقع، في مسير أعمى نحو مستقبل ضبابي، منتعلين آمالا يعدنا به العلم جل جلاله. فإذا كان نيتشه قد ركز في أعماله
الإلحادية على مقولة الفرق بين "هذا حقيقي"، و"أنا أعتقد أن هذا حقيقي"، فإن فيورباخ في إلحاديته الأكثر عقلانية، انشغل بمسألة السبب المنطقي الذي يفسر عدم تدين الحيوان وتدين الإنسان، رغم أن الاثنين على حد سواء لا يختلف أحدهما عن الآخر على نحو جوهري بيولوجيا.
ورغم تخلف الواقع المعرفي العلمي الألماني في تلك الفترة، مقارنة بالغرب اليوم، فقد استطاع فويرباخ، ببصيرة ثاقبة، أن يلحظ أن التمايز الأساسي بين عالم الإنسان وعالم الحيوان، هو أن الأول يختص بأن المخيلة عنده تختلف عن تلك التي عند الحيوان. وفي حين يعتبر نيتشه أن تطور الملكة العقلية عند الإنسان ليست بالأمر الإيجابي، مقابل الغرائز الثاقبة عند الحيوان، فإن فويرباخ يقف عند حدود قدرة المخيلة
البشرية على إقامة حوار داخلي (ديالوج)، يمكن اعتباره أساس كل التطور المعرفي البشري. الأنا الإنسانية يمكن أن تكون أنا وأنت داخليا في آن واحد، وهو ما لا يقدر عليه الحيوان، وفق حدود معرفتنا.
إن البشر هم هذا النوع المميز للوعي المتضمَن في إدراك الشموليات. فكينونة ذلك الوعي بالنوع تكون قادرة على أن تأخذ طبيعتها الجوهرية كغرض للتفكير. حين تكون كينونة بشرية واعية لذاتها كبشر، فهي تكون واعية لذاتها ليس فقط ككينونة مفكرة، بل أيضا ككينونة ذات مشيئة ومشاعر. (إن قوة التفكير هي نور المعرفة، إن قوة الإرادة هي طاقة الشخصية، إن قوة القلب هي الحب). وهذه ليست قوى تكون رهينة أمر الفرد، بل هي قوى تكشف عن ذواتها سيكولوجيا على شكل دوافع النوع غير الأنانية التي يجد الأفراد أنفسهم مغمورين بها على نحو دوري، خاصة أولئك الشعراء والمفكرين الذين يمثل في أعمالهم جوهر النوع بأوضح ما يمكن.
إظهارات كهذه تتضمن تجارب الحب الإيروتيكي والأفلاطوني، الحافز إلى المعرفة، تجربة التأثر بشعور معبر عنه في الموسيقى، وصوت الضمير الذي يجبرنا على تعديل رغباتنا أو تجنب الاعتداء على حرية الآخرين، كذلك التعاطف، والإعجاب، والحافز على التغلب على حدودنا المعنوية والفكرية. وفي هذا دليل على أن حدودنا الفردية ليست حدود جوهر النوع، بل المعيار الذي توجه إليه جهود الفرد نحو التسامي الذاتي.
لكن الكينونة الفردية البشرية لها حدودها على الصعيد المادي أو على الصعيد المعنوي. فتجربتنا المادية محددة بالزمان والمكان، وكذلك نحن محدودون في قدراتنا الفكرية والمعنوية، وإدراكنا لهذا الإدراك يسبب لنا الألم. لذا كان مقابل كل نقص في الإنسان نجد كمالا في الإله، فالإله يكون ويمتلك على نحو دقيق ما لا يكونه الإنسان ولا يمتلكه. فكل ما ينسب إلى الإله ينكر على الإنسان، وبالعكس فكل ما يعطيه المرء للإنسان يأخذه المرء من الإله.
فحسب مارتن لوثر، إذا أردت أن تمتلك إلها، تخل إذن عن الإنسان، وإذا أردت أن تمتلك إنسانا، ارفض الإله، وإلا فسوف لن تمتلك أيا من الاثنين. أن تمجد الإله يعني أن تحتقر الإنسان، النعيم الإلهي يعتمد فقط على البؤس البشري، الحكمة الإلهية تعتمد فقط على الحماقة البشرية، والقوة الإلهية تعتمد فقط على الضعف البشري. وكما قال فيورباخ؛ "إن للفقراء آلهة قوية، وكلما كان الإنسان أشد فقرا وتعاسة، كانت آلهته أقوى".
لكن عندما يوضع
الإيمان على ميزان معادلة "إما/ أو"، فإنه حين يكون الإنسان حرا، حقيقيا وخيرا وقويا ليس ثمة ضرورة بالنسبة للإله لأن يكون كذلك. إن واقعة الإله تقوم عموما فقط على واقعة أنه يكون ويمتلك ما لا نكونه ونمتلكه. لأننا في الإله لا نمتلك غير تكرار لذواتنا. وجود الإله ضرورة فكرية، حاجة عاطفية.
وضمن هذا المفهوم اللوثري، فإن أحد هذين الاثنين يجب أن يسقط: حين أعتمد على نعمة الإله ورحمته، فأنا لا أعتمد على جدارتي وأعمالي، وبالعكس، فحين أعتمد على أعمالي ومزاياي، فأنا لا أعتمد على نعمة الإله.. النعمة أو الجدارة، فالنعمة تلغي الجدارة، والجدارة تلغي النعمة. لكن النعمة نتيجة الإيمان والجدارة نتيجة الأعمال، والإيمان من الإله والأعمال من الإنسان؛ لأنه في الإيمان أعطي دليلا على الإله، وفي الأعمال أعطي دليلا على نفسي، إنسان يقوم بالعمل.
ويعلن لوثر أنه مع الإله وضد الإنسان، فالإله هو الفضيلة والجمال والقوة والصحة واللطف، والإنسان يجسد الفساد والتضاد والكراهية والتفاهة والعبثية. مذهب لوثر كما يرى فويرباخ إلهي، لكنه لا إنساني، بل وحشي، ترتيلة للإله لكنه هجاء للإنسان.
لقد أصبح ذلك الإله ضعيفا جدا منذ أن استقوى الإنسان بالعلم في المئة عام الأخيرة، مع أن نيتشه كان قد "قتله" في القرن التاسع عشر حين قال على لسان المجذوب الذي يحمل مشعلا في وضح النهار، ويطوف في الاسواق ويسأل: أين الإله؟
ليقول: أود أن أقول لكم إننا قتلناه، أنا وأنتم، نحن جميعا قد قتلناه، لكن كيف قتلناه؟ كيف قدرنا على شرب مياه البحر؟ من أعطانا الممحاة لكي نمسح الأفق بكلمة؟ ماذا كنا نعتقد أنا فاعلون عندما فككنا قيود الأرض من شمسها، وإلى أين تزيح الأرض نفسها؟ ونحن إلى أين ننأى بأنفسنا؟ هل نذهب بعيدا عن جميع الشموس؟ لقد مات الإله، تحطمت صورته التي رسمها الدين. نيتشه افترض أن الإله كان في وقت ما حيّا ثم قتلناه، لكن هذا الحدث الجلل (موت الإله) لم يطرق آذان ولا أذهان الناس. إن نيتشة يتحدث عن موت الإله بالمعنى نفسه الذي يتحدث عنه فويرباخ؛ بأن اعتقاد الناس بدأ بالزوال وأن الإيمان فقد مصداقيته.
فهل "أحيا"
كورونا فكرة الإله رغما عن الغوغائية؟ وهي اعتبار أن الحقيقة علمية ويجب اتباعها، وأن التحقق يجب أن يكون بطريقة كمية أو تجريبية، وأن العلم هو الوحيد القادر على طرح الأسئلة وإجابتها، لكن الحقيقة العلمية حقيقة تاريخية. ففي اعتبار أن العلم هو في آخر ثلاثة قرون فقط، ولا رجوع في رأيه، فإن العلم يمكّن الإنسان من السيطرة على الطبيعة وعدا ذلك هراء. وهنا ننسى أن حركة العلم تاريخية، وأن تاريخ العلم هو أخطاؤه. لذا كان معيار العلم هو التكذيب، فكل قول يمكن تكذيبه هو علم، وكل ما لا يمكن تكذيبه ليس بعلم. لهذا إذا أخذها الغيب مثلا، لا يمكن إثباته ولا تكذيبه. لذا من السخف أن نتمسك بعلم، أي علم، لأنه في أصله ليس ثابتا ولا حقيقيا، إنما هو محاولات لتفسير الحقيقة مرتبطة بزمان ومكان وأشخاص وتاريخ.
أما الإيمان فيمتلك عيونا حادة، بحيث يمكنه أن يرى في الظلام حيث لا يوجد ظاهريا أي شيء، إنه يرى حيثما لا شيء سوف يُرى، يشعر حين لا يكون ثمة شيء يُشعر به. الإيمان هو العين الروحية، عين المخيلة. الإيمان لا يلتزم بذلك الذي هو حاضر، إنه يرى كما أرى كينونة منفصلة. الإيمان منفصل عن هدف الإجلال، فجدار هذا العالم الحسي الحاضر قائم بينه وبين الإله، لكن الإيمان يكسر هذا الجدار. إنه معية لا تبعية. نحن لن نرى، لكن يجب أن نؤمن، لا بإدراك الحواس الخمس، بل بانغلاقها. ربما لهذا اعتبر علي شريعتي أن ما يميز الإنسان عن كل الحيوانات هو هاجس الغيب، أي تلك الحلقة المفقودة لدى الطبيعة بإزاء الوجود وعوزه هو وفراره مما هو موجود نحو ما يجب أن يكون.
إنني لا أكترث بما هو موجود أو غير موجود، بل ما يهمني هو ما يجب أن يكون، وهذا هو مظهر الإنسان المعنوي والمتعالي. لهذا كان العشق طاقة وحرارة لا تولدها السعرات الحرارية التي تدخل جسدي، بل له مصدر غامض يهيم بوجودي كله ويكويه ويفرض عليه نفي ذاته.
إن العشق يمنح المرء قيما أكثر علوا وسموا مما ينتفع به، ولا يسعه أي تفسير فيزيائي ولا قالب مادي ولا مآل بيوكيميائي. العشق هو تلك الطاقة اللا مادية، تلك الطفرة التي استعان بها الأفراد في صناعة التاريخ والثورات العظيمة، ومن ثم يخمد ذلك الهيجان. فإن أراد أحد أن يقدم خدمة حقيقية، عليه أن يزعج المرتاحين ويقلق الهادئين، ويحدث صراعا وسجالا بين الخاملين؛ لأن معنى اليقين لا يتجلى إلا خلال الشك، وإن القيمة الحقيقية للإيمان لا تكون إلا بعد الكفر!