من سيرتدي جلباب الصادق المهدي؟

بوفاة السيد الصادق المهدي يفقد السودان سياسيا مخضرما ومفكرا جهبذا أثرى المكتبة بالعديد من المؤلفات الدسمة، فقد كان الرجل في صدارة المشهد السياسي في السودان طوال خمس وخمسين سنة، ظل خلالها زعيما روحيا لشريحة واسعة من المواطنين الذين توارثوا عن آبائهم الولاء لبيت المهدي، منذ أن والوا الجد الأكبر للصادق ـ الإمام محمد أحمد المهدي ـ بوصفه المهدي المنتظر، وهو الرجل الذي يعتبره جميع السودانيين بطلا وطنيا لكونه من خطط وقاد "الأنصار" ووضع نهاية للحكم التركي للسودان.

صار الصادق رئيسا لحزب الأمة في 1964 ثم صار زعيما روحيا لطائفة "أنصار المهدي"، وقاد الحزب إلى انتصارات كبيرة في الانتخابات العامة مرتين، أهلته لشغل منصب رئيس الوزراء مرتين، وعلى مدى الأنظمة العسكرية الثلاث التي حكمت السودان لإثنين وخمسين سنة من إجمالي سنوات استقلال السودان الـ 64 كان الصادق رقما مهما في معارضة تلك الأنظمة، وكابد الاعتقال والملاحقة والعيش في المنافي.

وبرحيل الصادق المهدي يكون حزب الأمة قد فقد الرأس والساقين، ومن ثم فالمرجح أن يبدأ الحزب في الترنح وفقدان التوازن، والدخول في مرحلة العد التنازلي كسائر الأحزاب في سائر البلدان، التي يكون فيها الولاء للأحزاب الكبيرة قائما على أساس عائلي، كما حدث مع حزب المؤتمر الهندي الذي قاده جواهر لآل نهرو وصار أول رئيس وزراء للهند، وآلت السلطة من بعده لابنته أنديرا غاندي، ومن بعدها إلى راجيف غاندي، ثم ورثت قيادة الحزب زوجته (الإيطالية) سونيا غاندي، ومن جيل إلى جيل توالى آل غاندي على قيادة حزب المؤتمر بطل استقلال الهند، حتى تحول من حزب جماهيري عملاق إلى ظل باهت لذلك الحزب ويجلس على قمة هرمه اليوم راهول غاندي حفيد أنديرا.

وظل توارث قيادات الأحزاب تقليدا ثابتا في لبنان، فزعامة حزب الكتائب انتقلت من بيار الجميل إلى بشير الجميل ومنه إلى شقيقه أمين الجميل، وورث وليد جنبلاط كرسي والده كمال جنبلاط في قيادة الحزب الاشتراكي التقدمي، وهناك تنظيمات سياسية يتداول الزعامة فيها أبناء وأحفاد كميل شمعون وسليمان فرنجية، بينما اختفى حزب الكتلة الوطنية من المشهد السياسي اللبناني، لأن آخر زعيم له، وهو ريمون أده، كان بلا وريث وهو الذي ورث الزعامة عن أبيه أميل اده الذي شغل منصب رئيس الجمهورية في أواخر عهد الانتداب الفرنسي.

ولأن حزب الأمة السوداني الذي قاده الصادق المهدي على مدى 55 سنة يعتمد كثيرا في رصيده الجماهيري على الطائفة التي تحمل اسم الأنصار، الذين كانوا ينظرون إلى الصادق كزعيم روحي، فمن الصعب أن يجد الحزب من يقدر على ارتداء جلباب الصادق المنسوج بالفكر السياسي والروحانيات، ففي ظل الكاريزما الهائلة التي تمتع بها الصادق بمجاهداته السياسية والفكرية، لم يبرز في الحزب صف ثان من القيادات من خارج بيت المهدي.

ولأن حزب الأمة الذي شاد الصادق المهدي مجده الانتخابي يعتمد كثيرا في سنده الجماهيري على ولاء طائفة الأنصار لبيت المهدي، فلابد ان يرث واحد من آل المهدي زعامة الحزب والطائفة، وفي المشهد ثلاثة من أبناء الصادق الذكور، ويتردد أن الزعامة ستؤول إلى أكبرهم، عبد الرحمن، ولكنه وفي نظر كثير من السودانيين يعاني من إعاقة سياسية تتمثل في أنه ظل يشغل منصب مساعد الرئيس المعزول عمر البشير منذ 2010 وحتى سقوطه في نيسان (أبريل) 2019، ورغم أنه اعتذر عن ذلك، فإن سيرته الذاتية تبقى "ملوثة" لأنه كان جزءا من نظام عادى الأحزاب وقمع الحريات بقسوة.

رغم أن مريم هي الأكثر حضورا في مسرح السياسة من بين أسرة المهدي، إلا أنه من المستبعد ان تصبح على رأس حزب جماهيره تقليدية محافظة قد لا تستسيغ الانقياد لإمرأة.

وللصادق ابن ثان هو "بشرى"، ولكن سجله أكثر تلوثا من سجل عبد الرحمن، لأنه كان ضابطا في جهاز مخابرات عمر البشير، وهو على كل حال بلا حضور في المشهد العام، أما الابن الثالث "صدِّيق" فقد برز في المنابر العامة بعد سقوط حكم البشير كخبير في شؤون الاقتصاد في أروقة حزب الأمة وفي الكيانات التي تقود مرحلة ما بعد سقوط البشير، ولكن من المستبعد ان تؤول اليه قيادة الحزب في وجود إخوة أكبر منه عمرا وتجربة.

كانت السيدة مريم الصادق المهدي حضورا ثابتا في مسرح السياسة السودانية طوال العقدين الماضيين، واتسمت خلال سنوات حكم الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير بالجسارة ونالت ما نالت من اعتقال ومضايقة، وها هو والدها يغادر الدنيا والسودان يعيش في حال اضطراب شديد ويشكل فيه الشباب ما دون الأربعين سنة أكثر من 60% من السكان عاشوا معظم سنوات أعمارهم في ظل نظام البشير الذي قمع النشاط الحزبي بقسوة ونشأ ذلك الجيل وهو لا يعرف كثير شيء عن الأحزاب التاريخية في البلاد، بل يعتقد انه لولا هشاشة بنيان تلك الأحزاب لما تسنى للعسكر اختطاف الحكم ل52 سنة، وينظر الى مريم فقط باعتباره "ابنة الصادق".
 
وهناك السيدة رباح الصادق المهدي وهي مثقفة عضوية تحظى باحترام كبير من مختلف فرقاء المشهد السياسي، ولكنها تبدو غير تواقة للخوض المنتظم في أمور السياسة الحزبية والعامة، إلا في سياق مقالات صحفية تنشرها على فترات متباعدة، وهناك بنات أخريات للصادق المهدي ولكنهن عازفات عن العمل السياسي العام.

والشاهد هو أن حزب الأمة الذي اعتمد طوال تاريخه على السند الطائفي رغم محاولات الصادق تحديثه، مرشح للمعاناة من الترنح والأفول، لأن تقاليده تقضي بأن تكون قيادته من بيت المهدي، وقد ارتدى الصادق المهدي جلباب القيادة لأكثر من نصف قرن ووسع الجلباب بحيث يستعصي على غيره لباسه، ورغم أن مريم هي الأكثر حضورا في مسرح السياسة من بين أسرة المهدي، إلا أنه من المستبعد أن تصبح على رأس حزب جماهيره تقليدية محافظة قد لا تستسيغ الانقياد لامرأة.