يلبس الرحالة الأمريكي "مارك وينز" قميصاً رياضياً مكتوب عليه عبارة "أنا أسافر من أجل
الطعام". وفي أحد أفلامه القصيرة المُحمّلة في قناته الخاصة على منصة اليوتيوب، يصوّر رحلته إلى مدينة يافا الفلسطينية، ويقدمها بوصفها ضاحية من ضواحي تل أبيب الإسرائيلية. ويصور زيارته إلى مطعم "أبو حسن" العربي الفلسطيني، وتبدو ملامح وجهه الآسيوي الطفولي مشبعة باللذة والبهجة وهو يتذوق أطباق الحمص والفول، ويغمس فيها حبات الفلافل الشامية العريقة.
ثم ينتقل "مارك وينز" إلى الضفة الغربية الفلسطينية، ويتذوق نفس المأكولات في مطعم عربي في بيت لحم، ويقدم أطباق الحمص والفول وحبات الفلافل إلى مشاهدي قناته البالغ عددهم مليار مشاهد بوصفها مأكولات شعبية فلسطينية.
تنوء مواقع التواصل الاجتماعي، ومنصات تحميل الأفلام الشخصية، بحمولات رهيبة من المحتوى المتعلق بأصناف المأكولات والمشروبات. وهذه الظاهرة صارت تعرف بظاهرة "الفود بورنو"، وهي نوع من الإدمان المتفق عليه بين رواد المطاعم ورواد العالم الرقمي، يتواطأ فيه الطرفان على أن يقوم الأول بتصوير المأكولات والمشروبات ونشرها على المنصات الرقمية، ويقوم الثاني بتلقّفها والتفاعل معها وإعادة نشرها.
وتندرج هذه الظاهرة في سياق نوع متعاظم من
السياحة تسمى "سياحة المأكولات". ونظراً لتوسعها الكبير في العقدين الأخرين، فقد تأسست لها منظمات عالمية تعنى بدراسة أنماطها والترويج لها. وتعرّف "الجمعية العالمية لسياحة المأكولات" هذا النوع من السياحة بأنه "السفر بحثاً عن التجارب الفريدة في تذوق المأكولات والمشروبات، والاستمتاع بها في كل مكان قريب أو بعيد".
يميز هذا التعريف "سائح المأكولات" عن غيره من السياح، بأن وجهته تتحدد بناء على تتبّع فنون الطهي أينما كانت. وأحصت "منظمة سياحة الطعام العالمية" 39 مليون سائح جابوا العالم في عام 2013، من أجل الاستمتاع بالمأكولات والمشروبات. ويفوق هذا العددُ عددَ السائحين الذين تحددت وجهاتهم بناء على المعالم التاريخية والثقافية والفنية والطبيعية.
وأينما حلّ "سائح المأكولات" يلتقط بعدسة هاتفه المحمول صوراً لما يدهشه من أطباق المأكولات، وينشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو على القنوات المتخصصة بالترويج لثقافة الطعام. فمن وجهة نظر هذا السائح، لم تعد الآثار التاريخية، والأبراج الشاهقة، والشواطئ اللازَوَردية، والحدائق الغنّاء، والمتاحف الفنية، والشواهد المعمارية من قصور وقلاع وجسور، مدخلاً ودليلاً إلى ثقافات الشعوب. بل غدت فنون الطهي المحلية هي المَعْبَر إلى روح الإنسان والمكان.
وطوّرت "سياحة المأكولات" فلسفتها الخاصة، القائمة على "فهم العالم من خلال تذوّق مأكولاته ومشروباته". وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي، والقنوات المتخصصة، ورأس المال السياحي، في تضمين هذه السياحة أبعاداً جديدة، تشمل دروساً في تعلّم طهي الأصناف المنوّعة من المأكولات والمشروبات، والتعرف إلى المواد الأولية المكونة لها، وزيارة أماكن إنتاجها، واقتناء عيّنات منها.
وتنظم شركات السياحة برامج خاصة "لسياح المأكولات"، ويصطحبهم دليل سياحي محلي في جولات أشبه ما تكون بالمغامرات، إلى الشوارع الخلفية في المدن المكتظة بالسكان، حيث تُطْها الأطباق الشعبية في قدور كبيرة على نار حامية، داخل محلات ضيقة، أو فوق عربات متنقلة، ويقوم عليها طهاة محليون، تعلموا الطهي بالممارسة، ولا يحملون شارات في فنونه من مدارس الطهي العالمية، وكل خبرتهم مركزة في صنف واحد من المأكولات، أو صنفين.
مغامرة تذوق "مأكولات الشوارع" لا تقل إثارة لدى "سياح المأكولات" عن مغامرة تسلق الجبال، أو ركوب الأمواج، أو الركض أمام الثيران الفالتة من عقالها. وإذا اشتملت جولتهم في الأزقة والشوارع الخلفية على زيارة للحانات والمقاهي الشعبية، وأسواق الخضار واللحوم والبهارات، فإنّ حسّهم بمتعة المغامرة يصل منتهاه.
في الولايات المتحدة الأمريكية تأسست جمعيات على حب المأكولات، لا همّ لأعضائها، أو شاغل، إلا التنقل من ولاية إلى أخرى، مروراً بالمدن الكبيرة، والبلدات الصغيرة، بحثاً عن أفضل المطاعم في تقديم أطباق اللحوم المشوية. وبعد كل زيارة يصنفون كل مطعم في سُلّم الجودة الخاص بجمعيتهم، ويروجونه عبر منصتهم بالصور والتعليقات الداعمة.
ويتسابق بعض أعضاء هذه الجمعيات في التهام أكبر طبق في المطعم، محاولين إبراز جودة الطعام، وتميّز الخدمة، وكرم الضيافة، وأجواء المتعة والألفة التي تشيع في المكان. وتعدّ الوفرة والفائض من العلامات المميزة لهذه السباقات، في إيحاء مخادع بأن الطعام في متناول الجميع، وأن الحياة رخية وهنيئة.
وفي منصة اليوتيوب قنوات لا حصر لها، تبثّ أفلاماً من إعداد "سياح المأكولات" المشهورين، يجوبون بلاد العالم طولاً وعرضاً، ناقلين فنون الطهي المعروفة وغير المعروفة، لا من الوجهات السياحية الرئيسة، كباريس وروما ومدريد ونانكوك ونيويورك وطوكيو فحسب، بل من أنأى أماكن الكرة الأرضية أيضاً، كالقرى في إيران، والبوادي في إثيوبيا، وهامات الجبال في بوليفيا، وأطراف الصحراء الكبرى في أفريقيا، والسهوب العشبية في آسيا.
كاميرا محمولة، ودليل سياحي محلّي، وشهية مفتوحة على كل أصناف الطعام، تمويل كاف. هذا كل ما يلزم رحالة المأكولات، ليجوبوا أصقاع الأرض بحثاً عن أطعمة الشعوب التي تحمل بصمتهم الثقافية العميقة، وتعكس بيئتهم الطبيعية، ومناخهم المحلّي، وعاداتهم الاجتماعية. النار والخضار واللحوم والبذور والأعشاب والقدرو والصحون والموائد، وأدوار النساء والرجال في التحضير للطعام وطهيه وتقديمه. كل ذلك يتحول إلى محتوى سياحي ترويجي، لإشباع فضول "الفود بورنو"، ويمهّد لغريزة الالتهام التي لا إشباع لها، وتحدو الإنسان إلى الارتحال، والغزو، وارتياد الآفاق، والسيطرة على الموارد الطبيعية واستنزافها، وكل ذلك بهدف رفد مصادر طعامه بأنواع وأصناف ومذاقات جديدة.
لا يحفل رحالة المأكولات في كل بلد يحلّون فيه، بمشاكل البلاد، وأحوال ناسه السياسية والاقتصادية. ولا يسألون كيف يعيش طهاة الشوارع، ولا ينقلون في أفلامهم صور المشردين، والجائعين، والمتسولين، والأطفال الباحثين عن بقايا الطعام في حاويات الفنادق والمطاعم. ولا يفكرون في أن الوفرة في أصناف الطعام على موائدهم، يقابلها نقص في الطعام على موائد الفقراء.
"مارك وينز" و"لوك مارتن" وغيرهما من رحالة المأكولات يحتفون بالطعام، وفنون طهيه، بوصفها أعظم إنجازات الإنسان. ومهما كان المذاق حاراً أو حاداً، ومهما كانت المكونات ثقيلة على المعدة، أو غريبة المنشأ، فهم يتلذذون بتناولها احتراماً للإنسان الذي طهاها، وتقديراً للبيئة التي أنتجتها. أما الصراعات الدائرة حول موارد الطعام، وهويته التاريخية، ونسبته إلى شعب دون آخر، فهي من وجهة نظرهم تفاصيل ثانوية، والخوض فيها يفسد الشهية.