(قبل المقال)
غيابه يعني الكثير، لأنه منبر حق، وشمس طريق، ونهر محبة صاف ومخلص لنفع الناس، لذلك كان غياب صورته ومقاله من عمود الإشارات (في موعده أمس) على يسار هذه الصفحة كفيلاً بخروجي من صومعتي لإلقاء التحية وإرسال أمنيات
السلامة والعودة العاجلة لنداءات المواطنة التي تبناها في معظم مقالاته، كما يتبني الشباب في إطار جهده الواعي والنبيل لتحرير السياسة من ذئابها المحترفين وإعادتها للناس بلا لغة خشبية وتصريحات كاذبة لخداع الناس..
إنه الدكتور سيف الدين عبد الفتاح الذي يلخص ذلك كله في شعاره مكثف ومباشر: "السياسة هي معاش الناس".
المقال ليس عن الدكتور عبد الفتاح، لكن الصديق المقدر والأخ الغالي كان الدافع الأساسي الذي أعادني إلى الكتابة، لأنها الوسيلة الوحيدة التي أستطيع أن أربت بها على كتفه بمحبة ودعم وأقول له: لا تهجر منبرك ثانية، كن بخير دائماً، انفض مرضك سريعاً وعد إلى الناس، فالمرحلة العصيبة تحتاج الأنقياء الصادقين من أمثالك، وهم ندرة ندعو الله أن يحفظهم ويمد في أعمارهم ويزيدهم من طاقة الأمل ومقدرة العمل.
قبل مغادرتي إسطنبول بأيام زارني الدكتور سيف ومعه كنز عظيم من المودة والأمل والعزم والشوكولاتة، المحرج أن المستقبِل لم يكن على مستوى المرسِل، إذ كنت في حال منهكة ربما أزعجت الصديق الموقر لدرجة لم يتوقعها. وبعد مغادرته بنفس المودة والطيبة شعرت أن عطباً في روحي لا بد من إصلاحه سريعاً، لأكون لائقاً بالتواصل الجيد مع الناس. وأدعو الله أن يحدث ذلك الإصلاح الذاتي قريبا لأتمكن من استئناف برامجي الطبيعية بانتظام، فطريق المقاومة لا يزال طويلاً.
أدعو الله بسلامتك وعافيتك يا دكتور سيف، وكنت أدعو لك قبل الوعكة بكثير من الحب مع كل قضمة شوكولاتة. سوف أعود إلى إسطنبول بعد أقل من أسبوعين، وأنتظر زيارتك المقبلة مع علبتين من المحبة والشوكولاتة، على وعد أن ألقاك بوجه وروح وكلام غير الذي أزعجك في اللقاء الأخير.
محبتي يا أخي الغالي.. ردك الله إلى الناس والمقال موفور الصحة والمناعة.
وبعد..
(1)
تبدو لي مصر باهتة ومستقرة في قاع القمع بلا جديد، فالأخبار كلها تشبه سطور تقارير الطب الشرعي في وصف جثة ريجيني.. أوصاف مأساوية لا تقدم أملا في استئناف قريب للحياة ولا تنبئ بتغيير إيجابي في القضية، فليس هناك إلا المزيد من الفجيعة والكدمات وعلامات الضرب والسحل وجهود تزييف الأدلة لتزييف الحقائق وإخفاء هوية القاتل..
لذلك فإنني مهتم أكثر هذه الفترة بالقضية المركزية، ولمن لا يعرف القضية المركزية بالنسبة لي أوضحها له في كلمة واحدة:
إنها
فلسطين.
لذلك فإن تواتر أخبار "السفور
التطبيعي" تهيمن على رأسي وعلى مشاعري وتشغل تفكيري واهتمامي معظم الوقت، لأن فلسطين ليست كيانا سياسياً ولا قطعة أرض بالنسبة لي، لكنها معنى لكل ما أسعى إليه وأناضل من أجله في حياتي. وإذا رغبتم في معرفة تفاصيل القيم التي تمثلها لي فلسطين كمعنى أقول ببساطة إنها: الحرية، والاستقلالية، والعيش بكرامة في ظلال هويتها التاريخية والثقافية الطبيعية، بلا تحريف استعماري تفرضه عنصرية الغرب، وبلا تدخل تعسفي من أحفاد هيرود وأوريان الثاني، وبلا تطبيع انهزامي يهرول إليه خونة العهود بدرجاتهم من يهوذا إلى بيلاطس النبطي.
(2)
مع توالي السقوط النظامي من البحرين إلى المغرب، أتذكر أنشودة سليمان العيسى: من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، فيختلط الأمل بالمهانة، ويتغلب الأسى على الحنين، وأسأل متشككاً سؤال العيسى نفسه: يا وطني الكبير.. هل تسمع النفير؟ وأضيف والروح مغموسة في ألم الهزيمة العربية المخجلة: أما آن لنا أن نفكر بجدية في المصير المستحق للأرض المنكوبة المحصورة بين خليج جائر ومحيط غادر؟!
(3)
أسمع كلام الكثير من السياسيين الغافلين الذين يروجون لمقولة أن القضية الفلسطينية تخص الفلسطينيين وحدهم، وأن الحل فيما بينهم، فلا لوم على التطبيع العربي طالما أن الفلسطينيين أنفسهم منقسمون وقيادتهم ذاتها تمارس التطبيع في أذل مستوياته. والمؤسف أن هذا الكلام الانهزامي يسلخ فلسطين من محيطها التاريخي والجغرافي، ويسلمها مخذولة لتصعد وحيدة على صليب الغرب المتصهين. فالعزل أو القتل، والتنصل من عروبة القضية وإسلاميتها وإنسانيتها (بترتيب المستويات الثلاثة) يجعل من الفلسطيني المقاوم "بطلاً كافكاوياً" مصيره موزع بين اثنتين: السحق تحت جنازير الدبابة الغربية العاتية، أو التحول إلى مسخ في مستوطنة العقاب.
وأتذكر أن أول الهوان الفلسطيني لم يبدأ فلسطينيا، لكنه بدأ عربياً كما تخبرنا الشهادات والمذكرات التي تناولت مرحلة حصار الفلسطينيين في لبنان وإجبار المقاومة على الخروج منزوعة السلاح والمستقبل في "بواخر الترحيل"؛ من أرض المواجهة إلى غياهب اللجوء المشروط والشتات السياسي والنفسي والإنساني. وفي تلك الأثناء بدأ مبارك دوره الناعم في تصدير كامب ديفيد إلى فلسطين مغلفة بغلاف إنساني، حيث طرح مبادرة "الخروج العاري" بالاتفاق مع الفرنسيين علنا والأمريكان سراً، مع أدوار إقليمية مريبة في الرياض ودمشق وبيروت، قاد ترتيبها المبعوث الأمريكي فيليب حبيب الذي جاء ليلعب أكثر الأدوار خسة في المنطقة.
وانتهت مؤامرة الترحيل باصطياد عرفات وترويضه في حظيرة كامب ديفيد، فالرجل الذي صنعت البندقية أسطورته، تعلم احتضان الأعداء، في مشاهد مثيرة للسخرية الهامسة في كواليس السياسة الغربية، حتى أن إدوارد جيرجيان، مساعد وزير الخارجية الأمريكي، تحدث ساخراً مع زميل له في مكتبه بمنطقة "فوجي بوتوم" عن كيفية تفادي أحضان عرفات عند استقباله في المطار، وانتهت المشاورات إلى الإسراع بفرد ذراعه من بعيد، ليصنع مسافة متعمدة تجبر عرفات على المصافحة باليد وليس بالعناق!
(4)
قد يبدو الوصف طريفاً، أو مبالغا فيه، لكنني أذكره كمفارقة تخبرنا بعمق المأساة، فالحديث الذي يروجه غلمان التطبيع من الحكام العرب، عن السلام وحل الدولتين ورغبة الغرب وإسرائيل في العمل من أجل استقرار ورخاء المنطقة، يخفي خلفه احتقاراً غربيا لهؤلاء الأشخاص المتنازلين أنفسهم. فعرفات الذي هجر "عزة الفدائي" إلى "لغة المفاوض" كان يحلم بدولة بدلا من خيمة، وكان يوهم نفسه بقشور الصدق في أحاديث دبلوماسيين من نوع حبيب وجرجيان، جاءوا إلى المنطقة ليتعرفوا على نقاط الضعف ويساعدوا في الاختراق بأقل الأثمان.
وأذكر أن جرجيان كتب عن أول استقبال رسمي لعرفات في واشنطن قائلاً: لقد تدربت جيدا على حيلة تفادي عناق رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، لكن الرجل فاجأني بما هو أكثر من ذلك، حيث أبدى تفهما لأشياء كثيرة لم أتوقع التوصل إلى تفاهمات سريعة لها بعد سنوات من العناد والمقاومة والعلاقات المعقدة بين المنظمة والغرب، لقد كان واضحا أن هناك من تناقش مع عرفات ومهد له الكثير من الأمور، بحيث بات يعرف الخطوات التي نريد أن نقود القضية نحوها!
(5)
عندما بدأت غواية التفاوض كبديل للمقاومة، اعترضت "إسرائيل" على الذهاب إلى مدريد إلا بعد الحصول على ثمن، واشترطت أن تسقط الأمم المتحدة صفة العنصرية عن الحركة الصهيونية، وهكذا كسب "شايلوك" الكثير من الأرباح من دون حتى أن يقدم القرض. وتوالت المكاسب الصهيونية في مقابل متوالية من الخسائر الفلسطينية الجسيمة تحت خديعة "الأرض مقابل السلام"، إذ لم يبق من الشعار الإغوائي الخادع لا أرض ولا وسلام، بل إن عرفات تم حصاره وربما تسميمه، بما لا يتلاءم مع حلمه الهزلي بأن يصير "أول رئيس افتراضي" لدولة غير موجودة واقعياً، لأن الدول تصنعها إرادة المقاومة ولا يمكن تسولها على موائد اللئام.
(6)
ربما تكون لدي حساسية شخصية من الحديث عن "الحل السلمي"، وربما يحلو لبعض "العقلاء العرب" تقديمي باعتباري نموذجا للشخصيات العصابية التي تتعارض مع التقدم والانفتاح الاقتصادي الذي سيجلب الرخاء في
الشرق الأوسط الجديد، وبرغم أنني على استعداد دائم لمناقشة كل هذه الدعاوى والحجج بعقلانية وشواهد من التاريخ والواقع الجاري، إلا أنني مقدما أقر بأنني ضد هذا الاتجاه التطبيعي مهما كانت المكاسب الذي يتحدث عنها أذناب المرحلة. فبالنسبة لي فلسطين ليست سلعة، ولا أعرف أرضا تسمى "الشرق الأوسط"، أنا ضد المصطلح من أساسه، وضد التعاون مع أي قوى تدنس أرض بلادي، وهي بالمناسبة البلاد نفسها التي تمتد من الخليج الى المحيط مع فارق واحد هو تغيير أنظمة العمالة كضمان لصلاح الحال، فالأنظمة التي تنام مع العدو لا يمكن أن تأتي بالخير للبلاد وأهلها.
والقضية مستمرة..
كل عام وانتم بخير، متمنيا سنة جديدة سعيدة لكل الطيبين.
[email protected]