لطالما سعى الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته "دونالد
ترامب"، إلى الضفر بولاية رئاسية ثانية، بل واعتبر الأمر محسوما حتى قبل إجراء العملية الانتخابية. وخلافا لكل استطلاعات الرأي، ولمجريات العملية ونتائجها، ظل ترامب متمسكا بفوزه المزعوم بولاية ثانية، مشككا إلى اليوم والغد كما قال في نزاهة العملية، واعتبر إعلان فوز منافسه "جو بايدن" أكبر سرقة لانتخابات
الرئاسة في تاريخ أمريكا، وأن الانتخابات شابها تزوير كبير أثّر على نتائجها لصالح منافسه. وقدم ما يناهز 60 طعنا أو أكثر أمام المحاكم المحلية والفيدرالية، رُفضت جميعها.
وبعد كل الأحداث التي كانت الأيام الأخيرة الماضية في واشنطن ومبنى "الكابيتول" مسرحا لها، عاد الحديث من جديد إلى مسألة عزل الرئيس ترامب، واستخدام التعديل الخامس والعشرين للدستور والتي تتيح عملية عزل الرئيس.
والمعروف أن
الدستور الأمريكي يحتوي على سبع مواد فقط، وأدخلت عليه تعديلات بلغ عددها ستة وعشرين تعديلا. وتعرف التعديلات العشرة الأولى من الدستور بـ"وثيقة الحقوق"، وكانت قد اقترحت في 25 يلول/ سبتمبر 1789، وقد تم إقرارها في 15 كانون الأول/ ديسمبر من سنة 1791، بينما التعديلات الأخرى لدستور الولايات المتحدة اقترحها الكونجرس وصادقت عليها الهيئات التشريعية لمختلف الولايات وفقاً للمادة الخامسة من الدستور الأساسي.
إن عملية تعديل الدستور الأمريكي تحتاج إلى خطوات معقدة وليست متاحة كما في تعديل القوانين الأخرى، أو كما في عمليات تعديل دساتير عدد من الدول والأنظمة الدستورية العالمية الأخرى. والملاحظة اللافتة للنظر، هي أنه إذا كان الدستور قد منح الرئيس الأمريكي حق الاعتراض على القوانين التي يصدرها الكونجرس، فإنه لم يمنحه سلطة أو حتى حق الطلب بتعديل الدستور، فلا يمتلك مثلاً أن يخاطب الشعب الأمريكي مباشرة أو يطلب إجراء استفتاء، كما هو الأمر بالنسبة للدستور المغربي أو الفرنسي على سبيل المثال (المادة 89 من الدستور الفرنسي).
فسلطة تعديل الدستور كفلها الدستور للكونجرس والولايات الأمريكية، وحتى يتم التعديل يحتاج أولاً إلى ثلثي أصوات الكونجرس بمجلسيه؛ أي ثلثي الخمسمئة وأربعة وثلاثين صوتاً، وموافقة ثلاثة أرباع الولايات، وهذا ما يفسر لنا صعوبة التعديلات الدستورية، وخصوصاً صعوبة تعديل المادة الخاصة بحكم الرئيس التي تم تحديدها بفترتين رئاسيتين فقط. إذ تشير عدة مصادر إلى أن ترامب كان ينوي تعديل الدستور في حالة فوزه بولاية ثانية، ليتيح لنفسه ولاية اخرى ثالثة، وصرح بذلك ضمنيا في تصريح له عقب حشد انتخابي في ولاية نيفادا بقوله: "بعد 52 يوماً سنفوز بولاية نيفادا، وسنفوز بأربع سنوات أخرى في البيت الأبيض، وبعد ذلك سنتفاوض".
بالتأكيد كان يلوح بتعديل دستوري يمكنه من البقاء لولاية ثالثة أو حتى رابعة، من يدري؟ هكذا هو ترامب، شره للنفوذ والسلطة كما يصفه أقرب مقربيه، ويريد دوما أن يظهر نفسه أقوى وأفضل من الجميع، فكيف به ألا يحاول أن يتجاوز الرئيس "فرانكلين روزفيلت" الدي عدل الدستور وحكم لأربع ولايات أو على الأقل أن يحذو حذوه؟. غير أن رياح ترامب لم تجر كما أفرد لها أشرعة سفينته، التي أعياها تجديفا وضد التيار أحيانا.
فرغم أنه نجا من
المحاكمة بسبب الاتهامات التي أثارها مجلس النواب ذو الأغلبية الديمقراطية وصادق عليها ضده، في قضية "عرقلة العدالة" و"إساءة استغلال السلطة عبر الضغط على أوكرانيا من أجل الحصول على دعم سياسي محلي بعدما، ليسقطها مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون. غير أنه وبعد أحداث اقتحام "الكابيتول" مبنى الكونجرس من طرف عدد من أنصار ترامب، أثناء انعقاد جلسة المصادقة على نتائج المجمع الانتخابي وإعلان منافس ترامب في الانتخابات "جو بايدن" رئيسا (الجلسة التي ترأسها بحكم الدستور نائب الرئيس ترامب "مايك بنس"، والذي صرح بأنه لا يمكنه أن ينفذ ضغوط رئيسه عليه، للحيلولة دون المصادقة على النتائج وإعلان بايدن رئيسا، وأن موقعه ودوره الدستوري في العملية احتفالي لا غير)، تعالت من جديد أصوات داخل الكونجرس لعزل الرئيس. واعتبر بعض المشرعين أن بقاءه في السلطة يشكل خطرا على الديمقراطية الأمريكية، وقد يزج بالبلاد في مغامرات عسكرية جديدة، خاصة في الشرق الأوسط، أو يورط الإدارة الجديد في إشكالات دبلوماسية أو سياسية كبرى قبل موعد تسليم السلطة لخلفه بايدن في العشرين من هذا الشهر.
لكن الدستور الأمريكي لم يترك منصب الرئاسة من دون معالجة في حالة فراغ المنصب الرئاسي، أو في حالات العجز أو تبوث عدم قدرة الرئيس على إدارة البلاد، حيت ينص التعديل الخامس والعشرين من الدستور في الفقرة الرابعة منه على:
"عندما يبلغ نائب الرئيس وغالبية الموظفين الرئيسيين في الوازرات التنفيذية أو أعضاء هيئة أخرى، يحددها الكونجرس بقانون، رئيس مجلس الشيوخ المؤقت ورئيس مجلس النواب بتصريحهم الخطي بأن الرئيس عاجز عن القيام بسلطات ومهام منصبه، يتولى نائب الرئيس فوراً سلطات ومهام المنصب كرئيس بالوكالة. وبعد ذلك، عندما يبلغ الرئيس رئيس مجلس الشيوخ المؤقت ورئيس مجلس النواب بتصريحه الخطي بعدم وجود حالة عجز لديه، يستأنف القيام بسلطات ومهام منصبه ما لم يبلغ نائب الرئيس وغالبية الموظفين الرئيسيين في الوزارات التنفيذية أو أعضاء هيئة أخرى يحددها الكونجرس بقانون، وفي غضون أربعة أيام، رئيس مجلس الشيوخ المؤقت ورئيس مجلس النواب بتصريحهم الخطي بأن الرئيس عاجز عن القيام بسلطات ومهام منصبه. عند ذلك يبت الكونجرس في القضية في اجتماع يعقده في غضون 48 ساعة لذلك الغرض إذا لم يكن في دورة انعقاد. وإذا قرر الكونجرس، في غضون 21 يوماً من تسلمه التصريح الخطي الثاني، أو في غضون 21 يوماً من الموعد الذي يتوجب فيه انعقاد المجلس، إذا لم يكن في دورة انعقاد، وبأكثرية ثلثي أصوات مجلسي الشيوخ والنواب، أن الرئيس عاجز عن القيام بسلطات ومهام منصبه، يستمر نائب الرئيس في تولي هذه السلطات والواجبات كرئيس بالوكالة، أما إذا كان الأمر خلاف ذلك فيستأنف الرئيس القيام بسلطات وواجبات منصبه".
يقتضي تفعيل هذه الفقرة مبادرة نائب الرئيس بموافقة أغلبية وزراء حكومة ترامب، إلى إخطار الكونجرس بقرار خطي يعلن فيه عدم قدرة الرئيس على مزاولة مهامه كرئيس للبلاد، الدي يستلم بموجب ذلك مهام رئاسة البلاد، وفي حالة قدم ترامب كتابا خطيا يعلن فيه عكس ذلك، لرئيسي مجلس الشيوخ والنواب، فإن على نائب الرئيس أن يقدم كتابا خطيا ثانيا مقرونا بموافقة أغلبية وزراء الحكومة يؤكد فيه من جديد عدم قدرة الرئيس على أداء مهامه، وحينها يحسم الكونجرس القضية بتصويت أغلبية ثلثي المجلسين لصالح قرار نائب الرئيس ويستلم السلطة ويعزل بذلك الرئيس نهائيا، وهذا ما دعت إلى انتهاجه رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي.
أفلت الرئيس ترامب بصعوبة من مقصلة العزل، نظرا لعدم حصول الدعوى على النصاب في مجلس الشيوخ، لكن يبدو أن المسألة باتت أكثر جدية وخطرا على ما تبقى من أيام رئاسته للبلاد، فهل سيفلت منها كما آخر مرة؟ وحتى إن أفلت منها وهو الأمر المرجح أكثر لسببين رئيسين؛ نظرا لقصر المدة الفاصلة عن يوم تنصيب الرئيس المنتخب بينما الآجال القانونية التي تتطلبها العملية أطول، ولكون نائب الرئيس من المقربين الأوفياء لترامب، فرغم كل ما حدث فإنه لن يقدم ربما على خطوة كهذه، ستفسد أكثر علاقته المتوترة أصلا مع ترامب، كما أنها ستزيد من حدة الانقسام في إدارته وفي الحزب الجمهوري خاصة والبلاد بشكل عام.. لكن رغم ذلك فالإثارة التي خلقها ترامب بحق لم يسبقه إليها أحد من رؤساء أمريكا مند نشأة الولايات المتحدة ووضع أول دستور لها عام 1787، ستستمر، حتى موعد تسليم السلطة في العشرين من كانون الثاني/ يناير الجاري، بل لن تقف عند هذا الحد، فتداعيات هذه الأحداث وسياسات ترامب و"الترامبية" ستستمر حتى بعد رحيله عن السلطة. كما وستبرز تداعيات أخرى مع أول أيام خروجه من البيت الأبيض وبدء متاعب الملاحقات والدعاوي القضائية التي سترفع ضده، والتي دفعته ربما للتفكير جديا في إصدار عفو رئاسي عن نفسه، قبل حلول ذلك اليوم.