يبدو أن المقاربة الإعلامية
التونسية (وهي مقاربة يغلب عليها التسييس والتسطيح والشخصنة) قد أصبحت هي مقاربة المعيارية للشأن الوطني، رغم وجود بعض الاستثناءات والهوامش ذوات التأثير المحدود. فأغلب التدخلات الإعلامية تخضع لخطوط تحريرية متشابهة، وهي خطوط تحريرية لا تسعى إلى فهم ما يحدث بقدر ما تسعى إلى توظيفه لخدمة بعض الفاعلين الجماعيين بأمثلتهم وتبييضهم وشيطنة خصومهم. فتحولت أغلب المنابر الإعلامية من سلطة رابعة إلى ملحق وظيفي بمراكز السلطة الأخرى، خاصة منها تلك المرتبطة بالمنظومة القديمة وورثتها وطوابيرها الخامسة يمينا ويسارا.
وانطلاقا من إيماننا بأن ما يسمى بإعلام "ما بعد الحقيقة" (أو ما دون الحقيقة) يمنع أي فهم موضوعي للواقع التونسي، فإننا سنحاول مقاربة هذا الواقع المأزوم بعيدا عن رهانات ذلك الإعلام وغاياته التي لا ترتبط إلا نادرا بالدفاع عن الحقيقة (معرفيا)، أو عن الذين هم في الأسفل (اجتماعيا)، وذلك بتقديم بعض العناصر التي قد تساعد في الإجابة عن السؤال التالي: هل كانت مخرجات اللحظة التأسيسية ركيزة حقيقية للجمهورية الثانية أم كانت مجرد مدخل "توافقي" لإعادة التوازن للجمهورية الأولى بخياراتها الكبرى، ونواتها الصلبة، ورساميلها المادية والرمزية بعد اختلال ذلك التوازن مؤقتا بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011؟
التوافق التأسيسي أو لحظة الانقلاب على روح
الثورة
قد يبدو الحديث عن "توافق تأسيسي" على إعادة التوازن للمنظومة القديمة أمرا غير مألوف، بحكم تمحض مفردة "التوافق" للدلالة على خيار سياسي معروف حكم تونس بعد انتخابات 2014، وكان سببا من جملة الأسباب التي عمقت الأزمة بمختلف وجوهها رغم دفاع النهضويين عنه بأنه كان الخيار الأقل كلفة مقارنة بمآلات باقي الثورات العربية، بل رغم دفاعهم عنه بأنه أساس "الاستثناء التونسي" في سياق إقليمي غلبت عليه الانقلابات والحروب الأهلية.
ونحن لا نتحدث عن "توافق تأسيسي" فقط بنسبته إلى المجلس التأسيسي الذي كان من المفترض به أن يؤسس للجمهورية الثانية، بل نقصد حصول توافق تأسيسي سيكون هو التوافق التوليدي/ الأصلي لكل التوافقات اللاحقة مهما كانت أسماؤها، أو لنقل سيكون هو القاعدة الصلبة لكل الاصطفافات والانقسامات والأزمات التي ستعرفها تونس بعد اللحظة التأسيسية.
فـ"التوافق التأسيسي" الذي ظهر في سياق هيمنت عليه المنظومة القديمة (كان المرحوم الباجي قائد السبسي رئيسا للوزراء، وكان السيد بن عاشور رئيسا للهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، وكان أغلب الفاعلين الأساسيين منتمين للمنظومة القديمة أو راغبين في توظيفها أو التحالف معها) سيتفرع إلى شكلين أساسيين من التوافق: توافق أول بين "العائلة
الديمقراطية" وورثة المنظومة القديمة بدعوى "الدفاع عن النمط المجتمعي التونسي" ضد التطرف والإرهاب أو ضد تغول حركة النهضة، وتوافق ثان بين حركة النهضة وجزء من المنظومة القديمة بدعوى الدفاع عن الانتقال الديمقراطي وتجنب الاحتراب الأهلي أو الانقلاب.
التوافقات المغشوشة في خدمة المنظومة القديمة
لا شك في أن حضور المنظومة القديمة في شكلي التوافق (أو في شكلي الالتقاء الموضوعي مع ورثة المخلوع سواء أكان تحالفا مرحليا ومؤقتا أم كان تحالفا استراتيجيا) هو أمر يتجاوز السياقات اللاحقة لأنه موجود "بالقوة" في التوافق الأصلي الذي عكسه الدستور الجديد والقانون المنظم للسلطات، بل حتى القانون الانتخابي. فكل تلك التشريعات لم تكن تعكس مشروعا وطنيا حقيقيا يقطع مع المنظومة القديمة في لحظتيها الدستورية والتجمعية، بقدر ما كانت تعكس مخاوف متبادلة وتوازنات ضعف كان من المنطقي أن تبحث لها عن سند في تلك المنظومة ومن يقف وراءها في الداخل والخارج.
لقد كان "اللامفكر فيه" دائما عند النخب الثورية والإصلاحية (بعلمانييها وإسلامييها) هو إمكانية بناء توافق يستبعد المنظومة القديمة وورثتها، ويؤسس لـ"كتلة تاريخية" تكون هي الشكل الملائم للوفاء باستحقاقات الجمهورية الثانية. ولذلك رأينا ظهور سردية "العائلة الديمقراطية" التي تقبل التطبيع مع ورثة المنظومة القديمة باستصحاب منطق التناقض الرئيس مع الإسلام السياسي (الرجعية الدينية) والتناقض الثانوي مع المنظومة القديمة (الرجعية البرجوازية). كما رأينا ظهور سردية "التوافق" التي تقبل هي الأخرى بالتطبيع مع المنظومة القديمة بدعوى الواقعية والخوف من الاستئصال حينا، وبدعوى الرجوع إلى النسب "الدستوري" المشترك حينا آخر.
حان الوقت لطرح الأسئلة المقموعة
رغم فشل هذين الشكلين من التوافق، فإننا لم نر إلى حد كتابة هذا المقال أي مقاربة نقدية لهما، بل منتهى ما نراه هو رسوخ منطق الهروب إلى الأمام بأشكال مخاتلة. فما اقتراب "الكتلة الديمقراطية" من ورثة المنظومة القديمة وتجذير التصادم مع حركة النهضة إلا وجه من وجوه فتنة الأيديولوجي وتوسع القاعدة الحزبية لمنطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي، وما إصرار النهضة على صوابية سياسة "التوافق" إلا شكل من أشكال الدفاع عن خيارات لا وظيفية أثبت الواقع فشلها، وما تدخلات رئيس الجمهورية وتأنقاته اللفظية ذات المضامين الملتبسة إلا تعميق للأزمة ورفض لمواجهة الإشكال الأصلي: كيف يمكن أن تنجح عملية الإصلاح باعتماد سياسات المنظومة القديمة وبالتحالف الصريح أو الضمني مع ورثتها حتى عندما يكونون من "الكفاءات المستقلة" (والحال أن كل ما في الواقع من أزمات يشهد على أنهم ليسوا كفاءات ولا مستقلين)؟
بل إن السؤال الأهم الذي يرفض الجميع طرحه يبقى هو السؤال التالي: كيف يمكن للسردية البورقيبية أن تكون "الخطاب الكبير" في الجمهورية الثانية (أي الخطاب الذي تستمد سائر الخطابات شرعيتها بالاقتراب منه وتفقدها كلما ابتعدت عنه) قبل أن تتم مراجعتها بصورة نقدية جذرية؛ تتجاوزها جدليا صوب مشروع مواطني تحرري يقطع مع ميراث الجهوية والزبونية والمنطق اللائكي الفرنسي القائم على التحديث القسري والممهد للتبعية ولسياسات التبادل اللامتكافئ ماديا رمزيا مع الغرب؟ أو لنقل كيف لنخبةٍ عجزت عن "التوافق" على سردية متماهية مع اللحظة الثورية وفشلت في بناء شبكات جديدة لقراءة الواقع أن تنجح في إدارة ذلك الواقع والتحرك به ضد منطق/ مصالح المنظومة القديمة ونواتها الصلبة (المركّب الجهوي- المالي- الأمني المعروف)؟
الكتلة التاريخية أو المخرج من نماذج التفكير اللاوظيفية
إن النظرة "التسطيحية" والمتحيزة للواقع قد تُحقق لأصحابها الإشباعَ النفسي (تبرئة الأنا الفردي والجماعي وشيطنة الآخرين)، وقد تُحقق أيضا شيئا من الإقناع العقلي لجمهورها المستهدف (رغم أن هذا الجمهور يتعامل معها بمنطق أقرب إلى الإيمان منه إلى التحقيق العقلي). ولكن تلك النظرة لا وظيفة لها إلا حجب الواقع عندما تختزله في جملة من التوصيفات التي تزيد في إبهامه وتعسّر إمكانية التعامل الموضوعي معه. وهو ما يحوّلها هي نفسها إلى مظهر من مظاهر الأزمة، بل إلى سبب من أسباب رسوخها رغم ادعاءات أصحابها.
إن الأزمات الدورية التي عرفتها تونس بعد الثورة ليست نتيجة لفساد الإدارة ولا لانتهازية
الأحزاب أو تأدلج النقابات، فهذه كلها أعراض للمرض الذي تعاني منه البلاد منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا وليست سببا فيه. فالمرض الحقيقي يكمن في اللحظة التأسيسية التي تلاعبت بها النخب التونسية وحوّلت مخرجاتها إلى لحظة من لحظات إعادة التوازن للمنظومة القديمة بدل أن تكون لحظة قطيعة جذرية معها. وهو ما يعني ضرورة العودة النقدية لتلك اللحظة التأسيسية، لا لترسيخ الانقلاب على روح الثورة وأفقها المواطني التحرري (كما يسعى إلى ذلك دعاة مركزة السلطة أو العودة إلى مربع 13 كانون الثاني/ يناير 2011)، ولا لترسيخ التطبيع مع ورثة المنظومة بشروطهم (كما يسعى إلى ذلك المدافعون عن منطق التوافق التجمعي/ النهضوي)، ولكن لبناء "كتلة تاريخية" تكون بديلا عن شكلي التوافق الفاشلَين، وهي كتلة لا يمكن أن تكون إلا تجاوزا جدليا للسرديات الكبرى و"تَونسة" لها، بعيدا عن الصراعات الأيديولوجية والانقسامات الهوياتية التي لم يستفد منها إلا ورثة المنظومة القديمة ومن يسندهم من اللوبيات وشبكات الحماية المتبادلة التي تشكل النواة الصلبة للفساد في مختلف تجلياته المادية والقيمية.
twitter.com/adel_arabi21