بعد
الأزمة الخليجية عام ٢٠١٧، والتناحر الإقليمي الذي جرى حينها وأدّى إلى وضع القوى ذات الغالبيّة السنّية في مواجهة بعضها بعضا، بالرغم من أنّ مصالحها تفترض أن تكون في جبهة واحدة، أدركت أنقرة أنّ التعويل على العمل في بيئة جماعية فوضويّة لا يمكن أن يؤدي النتيجة المطلوبة منه في مثل هذه الظروف.
ولذلك، لجأت
تركيا إلى عدد من المبادرات التي تقوم على تفعيل دبلوماسية متعدّدة الأطراف، ثنائية وثلاثية ورباعيّة، هدفها توطيد العلاقة بين مجموعات صغيرة من الدول على أساس المصالح المشتركة والدعم المتبادل للقضايا ذات الأولوية الوطنية لكل من هذه الدول في المحافل الإقليمية والدولية.
لجأت تركيا إلى عدد من المبادرات التي تقوم على تفعيل دبلوماسية متعدّدة الأطراف، ثنائية وثلاثية ورباعيّة، هدفها توطيد العلاقة بين مجموعات صغيرة من الدول على أساس المصالح المشتركة والدعم المتبادل للقضايا ذات الأولوية الوطنية لكل من هذه الدول
خلال العامين الماضيين، بدأت هذه المجموعة الصغيرة من الدول تبرز بشكل أكبر في
السياسة الخارجية التركية، وهي تضم علاوة على قطر، كلا من
باكستان وأذربيجان وماليزيا، وفي مرتبة أقل الدول الناطقة بالتركيّة في
آسيا الوسطى، وفي الإطار الأوسع خارج العالم الإسلامي برزت أوكرانيا على وجه التحديد.
ميزة هذه التجمّعات الصغرى أنّها تساعد على توطيد العلاقة بين أطرافها بشكل سريع، وتعزّز الثقة المتبادلة، وتخلق حدّا أدنى من التناغم بعيدا عن الخطابات العمومية، وذلك بالاعتماد على المصالح المشتركة. يساعد هذا النمط على خلق كتل متماسكة وعلى توطيد ثقافة التضامن من الناحية العملية، وعلى إيجاد قواسم مشتركة تتيح بناء معادلة الربح المتبادل عليها بشكل أسرع وأفضل.
بداية العام ٢٠٢١ لم تخرج عن هذا السياق، وهو ما يؤكّد أنّ المبادرات التركيّة في هذا المجال ليست استثنائية، وإنما تسعى لأن تتحوّل إلى نمط فعّال. في ١٣ كانون الثاني/ يناير الحالي، عُقِدَ
اجتماعٌ ثلاثي بين تركيا وباكستان وأذربيجان في العاصمة الباكستانية إسلام أباد. ضمّ الاجتماع وزراء خارجية الدول الثلاث، وبحث القضايا المهمة لكل بلد من هذه البلدان (جامو وكشمير وأفغانستان بالنسبة لباكستان، وناغورنو قره باغ بالنسبة إلى أذربيجان، وقبرص وشرق المتوسط بالنسبة إلى تركيا)، بالإضافة إلى القضايا المشتركة.
انتهى الاجتماع بإطلاق "إعلان إسلام أباد" الذي من المنتظر أن يساعد على تعميق التعاون في العديد من المجالات السياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى السلام والأمن بين الدول المعنية. كما دعت أذربيجان كلا من تركيا وباكستان للمساهمة في إعادة الإعمار في المناطق التي حررتها، وأعطت الشركات التركية والباكستانية الأولوية في مشاريع إعادة الإعمار؛ مكافأة للبلدين على موقفهما السياسي خلال حرب تحرير ناغورنو قره باغ.
انتهى الاجتماع بإطلاق "إعلان إسلام أباد" الذي من المنتظر أن يساعد على تعميق التعاون في العديد من المجالات السياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى السلام والأمن بين الدول المعنية
في موازاة التعاون السياسي والاقتصادي، تمكن ملاحظة صعود
التعاون العسكري والدفاعي بين هذه البلدان. باكستان دولة تعاني من الناحية الاقتصادية لكنّها تمتلك قوة عسكرية لا يستهان بها، ولديها خبرة كبيرة في مجال إنتاج الصواريخ، وقد تشكّل رادفا مستقبليا للمعرفة النووية التركية. في المقابل، أذربيجان دولة غنيّة بالموارد الطبيعية لا سيما الغاز، وفي ظل حاجتها إلى تطوير قدراتها الدفاعية، لجأت إلى الدعم التركي في الحرب الأخيرة، لكن ربما يبحث الطرفان أيضا إمكانية إقامة مشاريع مشتركة أو تمويل أذربيجاني لمشاريع في قطاع الصناعات الدفاعية التركي في المستقبل.
وبينما يتم العمل على مثلث تركيا- ماليزيا- باكستان أيضا، أعلنت أنقرة في نهاية العام ٢٠٢٠ عن إعادة إحياء خط السكة الحديدية من إسطنبول إلى إسلام أباد عبر طهران، وذلك لتعزيز التجارة بين البلدين بشكل أساسي. تمّ افتتاح الخط في العام ٢٠٠٩ وجرت تجربته ثلاث مرّات فقط، لكن قيل إنّه تمّ إيقافه عن العمل بسبب إيران، وأنّ الأخيرة ترى الآن ربما مصلحة في فتحه مجددا. يختصر هذا الخط المسافة من حوالي ٤٥ يوما عبر البحر إلى حوالي ١١ يوما عبر البر، وهدفه الرئيس تسريع دورة وحجم نقل البضائع والسلع بين أنقرة وإسلام أباد.
بموازاة هذه المبادرة، يتم العمل بشكل مشترك الآن بين تركيا وأذربيجان وجورجيا لطرح مبادرة تُعزّز من الروابط الثلاثية بين هذه البلدان في جنوب القوقاز، لتستوعب أي انفتاح على مثلث أرمينيا- إيران- روسيا بشكل قوي مستقبلا؛ لذلك سيكون من المهم بمكان متابعة التطويرات على جبهة جنوب القوقاز، التي تسمح لتركيا كذلك بتعزيز نفوذها داخل آسيا الوسطى.
من المهم بمكان متابعة التطويرات على جبهة جنوب القوقاز التي تسمح لتركيا كذلك بتعزيز نفوذها داخل آسيا الوسطى
في العام ٢٠٢١، ستكون لأوكرانيا أيضا حصّة في السياسة الخارجية التركية. التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري بين البلدان في تصاعد، وشأنها شأن البلدان سابقة الذكر كقطر وأذربيجان وباكستان، تسعى كييف للحصول على
أسلحة تركيّة الصنع، لا سيما المُسيّرات المسلّحة عالية الدقّة. أوكرانيا تمتلك هي الأخرى خبرة ورثتها عن الاتحاد السوفييتي، ولذلك يسعى الطرفان إلى الاستثمار في تطوير صناعات دفاعية مشتركة.
علاوةً على ذلك، لا تزال أنقرة ترفض الاعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم التي يقطنها مواطنون أوكرانيون من تتار القرم، وهي مجموعة مسلمة تنتمي إلى المجموعات التركية. ولذلك، يشكّل هذا الملف بالإضافة إلى المصالح الاقتصادية والدفاعية، عاملا مشتركا لتمتين
العلاقات بين أنقرة وكييف، وللموازنة بشكل دائم مع روسيا. من المتوقع أن تشهد العلاقات بين الجانبين دفعة قوية في عهد إدارة بايدن الذي كان المبعوث الخاص لأوكرانيا إبّان عهد أوباما.
twitter.com/AliBakeer