هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ما زلنا مستمرين في سلسلة البذور المؤسسة لنهضة الشعر والأدب الفلسطيني، حيث تصادفك أحياناً شخصيات أدبية وصلت في السياسة إلى منازل راقية أقضّت مضاجع التقليديين.. من هؤلاء الشاعر الكاتب الصحفي الناشط سليمان التاجي الفاروقي (1882 ـ 1958).
هو "معرّي فلسطين" و"بدوي فلسطين".. كما أسماه الكتاب الذي صدر عنه سنة 1993 بعنوان "معرّي فلسطين الشيخ سليمان التاجي الفاروقي حياته وديوانه وشعره" للكاتب عبد الله حسن أبو نمر.. وقد يكون مردّ ذلك أن شاعرنا فقد بصره (مثل المعرّي) وهو في التاسعة من عمره.
ومهما اختلف النقاد على لقبه، فإنه لا يختلف اثنان على قوة شعره ونثره ومقالاته وخطبه ومواقفه وتأثيره في المجتمع الفلسطيني قبل النكبة.
ولد الشاعر الشيخ سليمان التاجي الفاروقي في مدينة الرملة سنة 1882م، وتحدر من أسرة عربية عريقة في نسبها يعود إلى الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب، حفظ القرآن في العاشرة من عمره مع علم النحو على يد الشيخ البسيومي الكبير، فأظهر نبوغاً واهتماماً، فأرسله والده عبد المجيد إلى مصر ليدرس في الأزهر الشريف العلوم الفقهية واللغوية والتاريخية، حيث لقي الشيخ محمد عبده الذي أبدى اهتماماً به، وكلّفه بشرح بعض الدروس نيابة عنه في الأزهر. وتميّز بخطبه الارتجالية، وبل ونظمه القصائد الارتجالية في كثير من الحالات.
قضى في الأزهر تسع سنوات، انتقل بعدها إلى إسطنبول، وهناك أتقن اللغات التركية والإنجليزية والفرنسية، وألقى دروساً في تفسير القرآن الكريم في مسجد آيا صوفيا الكبير، وحاز على شهادة في الحقوق من إسطنبول، وزاول مهنة المحاماة وذاع صيته لتمكّنه من اللغات وقدرته على الدفاع عن موكّليه واهتمامه بالفقراء والمظلومين.
شارك سنة 1913 في تشكيل أول حزب سياسي يهدف إلى القضاء على الصهيونية، باسم "الحزب الوطني العثماني" (كما ذكرت المؤرخة بيان نويهض في كتابها "القيادات والمؤسسات السياسية الفلسطينية في فلسطين 1917- 1948" ـ ص43). كما ذكرت نويهض نقلاً عن الحاج أمين الحسيني، أنه عندما أخذ يدرس في كلية الروضة في القدس، صدر مقال للشيخ التاجي الفاروقي يدعو فيه لانعقاد مؤتمر وطني، فأعجب بالمقال وتشاور مع زملائه، وتداعوا لعقد المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول عام 1919، وأنه في الرسالة التي وجهها للفاروقي، أكد له فيها "أن المؤتمر قد اجتمع لتلبية ندائكم". ثم ما لبث أن أصبح الفاروقي عضواً في اللجنة التنفيذية للمؤتمر.
تعرض التاجي الفاروقي لمحاولتي اغتيال، أصيب بخدوش في الأولى سنة 1933، في أوج شعبيته.. أما الثانية فعرف بأمرها واحتاط قبل وقوعها.
أصدر سنة 1932 جريدة (الجامعة الإسلامية)، فكانت صوتاً مدافعاً عن حقوق الفلسطينيين ضد تهويد بلادهم، كانت الجريدة منبراً لمقاومة التهويد ودعم مقاومة الاستعمار. ومن مظاهر ذلك أن اعتماد كتاب سميح حمودة عن الشيخ القسام بشكل أساسي على هذه الجريدة، وأن أكثر من 90% من ملاحق رثاء الشيخ القسام في الكتاب منقولة منها. وقد رثى الفاروقي مجموعة القسام رداً على وصفهم (عصابة الأشقياء) بمقال رئيسي عنوانه "بررة أتقياء، لا فجرة أشقياء".
وقد كان الخطيب الثاني في حفل تأبين القسام، بعد الداعي إلى الحفل رشيد الحاج إبراهيم، فقال: "إننا يا جيران القسام نحجّ إلى بلدكم كما نحجّ إلى كعبتنا، أليس غريباً أن ينجم ذلك الرجل في حيفا، حيث القوة والبطش. إن القسام حيٌّ ونحن الأموات. من لنا بقسام يؤبّن القسام. وإن القسام نقل قضية البلاد من دور الكلام إلى دور العمل، وبذلك آن لسياسة الواقع أن تزول".
هذه الجرأة بدأت واستمرت مع الشيخ الفاروقي حتى وفاته عام 1958، وقد وُصف بأنه وعاء العلم والفضل ومثال النضال والتضحية، أوقف قلمه في خدمة العربية، له قصائد نارية مرتجلة، ولكنها فقدت بسبب النكبة. ومن آثاره كتاب "الذرّة في خدمة السلام".
خاطب السلطان محمد رشاد ـ بعد تولّيه العرش وإعلان الدستور وغمطه حق العرب ـ بقصيدة قوية جاء فيها:
العرب لا شقيت في عهدك العرب سيوف ملكك والأقلام والكتب
لسانهم أخلق الإغفال جدته فبات ينعى على الكتاب ما كتبوا
تمشت اللهجة العجماء فيه إلى أن أنكرته بنوه الخلّص النجب
أيستهان به والدِّين جاء به ودونه ألسن من دونها القُضب
هم الجبال، فما حمّلتهم حملوا لكن إذا سمتهم ضيم النفوس أبوا
سادوا فلم يُستبح إنسان دولتهم ونيل منهم فما هانوا وما سلبوا
هذه الجرأة استمرت معه، وأقيل بسببها من مجلس الأعيان الأردني بعد فترة وجيزة من تعيينه.
وقصائده التي كتبها ضد الاستعمار والهوان العربي، بقيت تروى ويُستشهد بها في المحافل الثقافية الوطنية، ومنها قصيدته (لن يتسع لها المقام، لذلك أدعوك لقراءتها في الصور المرفقة في صفحة من كتاب لشقيقه شكري التاجي الفاروقي):
شعبٌ أبى الدهر أن يُعلي له طنباً.. إن كنت باكٍ هلمّ ابكِ معي العربا
إن نام نام على خسفٍ وزلزلة .. أو قام قام فلم يلبث أن انشقبا
يدعو إلى الخير داعيه فلا أذنٌ.. تصغي لما قال أو ترعى لما كتبا
يرنو إلى المجد لكن لا يمدّ يداً.. يهوى المعالي لكن لا يرى الطلبا
ومن ظريف ما وقعت عليه في شعره، أنه وهو الشيخ الأزهري المسلم، مؤلف نشيد النادي الأورثوذكسي في فلسطين:
لا تهن يا وطن سوف يصفو الزمن
ضمن النصرَ لنا هممٌ لا تهـــــــــن
رحم الله شاعرنا الذي كان كما وصفه أخوه شكري (العالم الكاتب الشاعر المحامي الصحفي صاحب جريدة الجامعة الإسلامية) الشيخ سليمان التاجي الفاروقي.