الشعوب تستنطق تجاربها وخبراتها المتراكمة المتوارثة كابرا عن كابر، وتصبح مأثورات يضرب بها الأمثال، فغنى الموروث الشعبي يعكس ثقافتها العميقة، وقدرتها على أخذ الدروس والعبر، فتضري الأمثال بالوقائع التي تحدث لتشابهها بما تناقلته في مأثورها الشعبي.
بدأت بالحديث عن الموروث الشعبي لارتباطه بعنوان هذا المقال ومآلات الأمور التي ننوي التطرق إليها، والمتمثلة في أزمات المنطقة التي نعيشها.
المتابع للأحداث المتلاحقة في منطقتنا يلاحظ بأن ما نشاهده الآن تكرار ممجوج لممارسات الأنظمة المتعاقبة.
فالحروب الداخلية الإثيوبية التي بلغت ذروتها بحرب المركز على حكومة إقليم التيغراي لم تكن وليدة اللحظة، بل كانت وميض نار تحت الرماد خفتت لحين بعد سقوط نظام العقيد منغستو هايلي ماريام، ولكنها كانت تطل برأسها من حين لآخر، حتى تفجرت في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2020م ونتائجها الكارثية معروفة لنا جميعا. فلا إقليم بني شنقول المشتعل حاليا كان مستقرا ولا الأورومو شهدوا حكما يجعلهم يشعرون فيه بالأمان والعدالة أسوة ببقية مكونات الدولة الإثيوبية، والحال هو نفس الحال إن لم يكن أسوأ في إقليمي العفر والصومال، ولكن الإقليم الذي شهد استقرارا نسبيا كان إقليم التيغراي بين عامي 1991 و1998 قبل اندلاع ما عرف بحرب الحدود زورا وبهتانا بين إثيوبيا والطاغية أسياس، والتي نعتقد أنها حرب للنفوذ والهيمنة وعقلية التسلط.
لم تشهد إثيوبيا استقرارا منذ أن عرفت كدولة بحدودها الجغرافية الحالية إلا في فترة حكم ائتلاف الجبهة الثورية الديمقراطية (الأهودق)، وهو الآخر استقرار نسبي مقارنة بما سبق. وعلى الرغم من رؤية حكم الائتلاف المذكور الذي تبنى الحكم الفيدرالي الاثني لإدارة التنوع، إلا أنها على أرض الواقع شابها الكثير من العوار المخل بمعادلة وتوازنات التركيبة الاجتماعية، فكان حكما اليد الطولى فيه للحزب القائد للائتلاف.
عطفا على ذلك، يمكننا التطرق إلى الآليات التي حكمت الدولة فقد تحكمت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، الشريك الأساسي في الائتلاف الحاكم والمؤسس له، بمقاليد الحكم، فكانت القبضة الأمنية الباطشة والسيطرة على بقية المفاصل خاصة الاقتصادية منها، فاستشرى الفساد في مفاصل الدولة، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى الاحتجاجات الشعبية العارمة، والتي تسببت في التغيرات ومجيء الدكتور آبي أحمد وسياسته التي أعلنها، والمتمثلة في رؤية حزب الازدهار الحاكم الآن.
ومن جانب آخر، فإن ائتلاف الجبهة الثورية الديمقراطية (الاهودق) ارتبط بشراكة مع تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا قبل وصول الطرفين إلى سدة الحكم في البلدين، وتحالفهما في فترة النضال المسلح معلوم للمتابعين، وصل الأمر إلى حد الإعلان المشترك لإقامة حلف استراتيجي يمكنه أن يؤسس لإقامة كونفيدرالية بين الدولتين حسب تصريحات أسياس عشية إعلان الاستقلال. وتابعنا الحروب التي خاضها الطرفان مع السودان وتبنيهما إسقاط نظام "المشروع الحضاري" برئاسة عمر البشير، وذهابهما سويا إلى الكونغو لمساعدة كابيلا الأب، وتدخلهما في الحرب الأهلية في راوندا وبورندي. وكلنا نتذكر تصريحات الإدارة الأمريكية المتمثلة في مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية آنذاك، والتي أشادت فيها بما أسمتها بـ "القيادة الأفريقية الشابة"، في إشارة إلى كل من ميليس وأسياس وكابيلا وموسيفيني، وأنهم أمل أفريقيا، ولكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر ليدخل النظامان الإريتري والإثيوبي في حرب تحت حجة نزاع حدودي (حرب بادمي)، الأمر الذي انتهى باتفاقية الجزائر تلاه قرار المحكمة الدولية الذي رسم الحدود على الورق.
التحالف بين النظامين الذي تحوّل إلى عداء سافر لم يخلق مجالا لتضع الحرب والخصومة أوزارها، لتبقى قضية الحدود التي صدر فيها قرار ملزم من المحكمة الدولية تراوح مكانها لما يقارب العقدين. فقد آوى طاغية أسمرا المعارضة الإثيوبية بكل أطيافها وقدّم لها كل أشكال الدعم السياسي والمعنوي والإعلامي والمادي، حتى أصبحت رقما تضع له حكومة "الأهودق" التي تقودها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي ألف حساب. وفي المقابل، استقبلت إثيوبيا المعارضة الإريترية على أراضيها بعد أن أغلق السودان مكاتبها ومعسكراتها وفق تفاهمات الأجندة السرية لما عُرف باتفاقية شرق السودان التي وقعت في أسمرة.
وظلت المعارضة الإريترية حبيسة مكاتبها في أديس أبابا في أحسن الأحوال، وأوكل أمرها لمكتب "حلف صنعاء"، وهو حلف تكوّن لمواجهة نظام أسمرة من كل من اليمن وإثيوبيا والسودان، لتعيش المعارضة الإريترية في دوامة تفريخ الأجسام المجهرية، في مظهر ينم عن رغبة الائتلاف الحاكم، وخاصة التنظيم الذي يقوده والمتمثل في الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، في تأسيس تنظيمات وأحزاب تأتمر بسياسته وتؤمن بفلسفته في الحكم (الفيدرالية الإثنية)، ليدخل في قاموس السياسة الإريترية ما عُرف بالتنظيمات القومية.
وعلى الرغم من وجود تنظيمات وأحزاب تحمل مشروعا وطنيا واضح المعالم وتريد بناء علاقات طبيعية مع إثيوبيا الدولة والشعب؛ مبنية على المصالح المشتركة بين الشعبين، إلا أن قيادة "الوياني" آثرت العمل على تفريخ ما سمي بالتنظيمات القومية. لا ننكر أن إثيوبيا اعترفت بالمعارضة وقدمت لها بعض الدعم، ولكنه في إطار الإبقاء عليها فقط. حتى التنظيمات التي لها أجنحة عسكرية لم تستطع أن تقوم بدورها في مقارعة النظام الإريتري منطلقة من الحدود الإثيوبية، مع أن أسياس حشد الجيوش من المعارضة الإثيوبية فكانت الضربات النوعية والموجعة في داخل العمق الإثيوبي.
عندما أعلن آبي أحمد قبوله باتفاقية ترسيم الحدود بين إريتريا وإثيوبيا واستعداده للانسحاب من الأراضي التي حُكم بها لصالح إريتريا وعلى رأسها "بادمي"، لم تغتنم قيادة "الوياني" الفرصة لتنسحب من الأراضي التي حُكم لصالح إريتريا، وفي تقديرنا كانت فرصة كبيرة لتحييد أسياس من الدخول في المعركة إلى جانب الحكومة الفيدرالية الإثيوبية بحجة استرجاع الأراضي الإريترية.
وتعلم قيادة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي أن المؤامرة في طريقها إليهم وأن حلفا جديدا بدأ في التشكل بين الرئيس الإريتري أسياس وآبي أحمد، ولم تحرك ساكنا، بل تمادى الجنرال مسفن أماري، المكلف بملف المعارضة الإريترية تحت مسمى حلف صنعاء الذي انفض سامره قبل أن يجف المداد الذي كتب به الاتفاق، في إضعاف المعارضة، والشواهد كثيرة ولا مجال للخوض فيها الآن، واستمر في سياسته القديمة مع أن الواقع الجديد كان يتطلب موقفا مغايرا، وخلق أرضية جديدة لمقارعة ما استجد على الأرض.
تحيّن
أسياس أفورقي، صديق الأمس وعدو اليوم، الفرصة للقضاء على التيغراي، والتي سنحت لها الفرصة لأكثر من مرة لتغيير نظامه. ونحن نعتقد أنه لو دعمت الحكومة الإثيوبية المعارضة الوطنية الإريترية بعيدا عن الأجندة الأخرى المعلنة منها والخفية وعلى أرضية المصالح المشتركة للشعبين، لكان بالإمكان تغيير المشهد في إريتريا والمنطقة برمتها. فحالة التسويف والمراوغة التي تعاملت بها قيادة "الوياني" كانت نتيجتها الدمار الكبير لإقليمهم وتشريد المواطنين الآمنين واللاجئين الإريتريين الذين هربوا إلى إثيوبيا طلبا للأمان من بطش عصابة أسياس الإجرامية، وخروج تنظيم "الوياني" من المسرح ولو الى حين، ودخول إثيوبيا في صراعات دموية لا يعلم مآلاتها إلا الله.