شكلت معاهدة
السلام
المصرية الإسرائيلية نقطة تحول جوهرية في سياسات المنطقة وفي الداخل المصري. فقد
كان الاتفاق مع مصر وحدها هدفاً إسرائيلياً وأمريكياً قديماً سعتا إليه بكل الطرق،
وقد توفرت كل أسباب التوصل إليه، وإن كانت المقدمات الحقيقية لهذه المعاهدة وزيارة
السادات للقدس لا تزال بحاجة إلى المزيد من الوثائق.
والراجح أن السادات
كان عازماً على الاقتراب من واشنطن خاصة بعد حرب أكتوبر، بل وربما كانت الحرب في
نظره هي أولى القرابين المطلوبة لهذا التقارب، انطلاقا من عقيدته بأن واشنطن بيدها
مفاتيح السلام والرخاء. وقد يثبت التاريخ الموثق أن الرئيس السادات الذي لا يميل
بفطرته السياسية إلى موسكو قد أسهم في تقويض الإمبراطورية السوفييتية، دون أن تعهد
إليه واشنطن بهذا الدور.
على أية حال فكر
السادات طويلاً في حل الصراع مع إسرائيل، واهتدى إلى أن الحرب لن تحل الصراع ما دامت
واشنطن لن تتخلى عن إسرائيل، وأن مواجهة إسرائيل أمام العالم بكل الحقائق سوف يرغم
إسرائيل على البديل الآخر وهو السلام الشامل، بعد أن عجزت المواجهة الشاملة معها،
فقرر زيارة القدس. ويبدو أن الرئيس السادات لم يدرك تماما خطورة هذه الزيارة
بالنسبة لحجم مصر، وفي إطار سعي إسرائيل الحثيث للسيطرة على العالم العربي من خلال
الاستيلاء على العقل المصري. والدليل على ذلك أن ما ظنه السادات حين ذاك كسبا لمصر
مقارنة بغيرها من الدول العربية تفقده مصر ومعه ما لا يمكن تعويضه، وهو تمكين
المشروع الصهيوني الذي لا يمكن صده إلا من خلال مصر. وبعد ثلاثين عاما على
المعاهدة، و32 عاماً على هذه الزيارة، اتضح أن خط السادات ليس محل إجماع المجتمع
المصري، حيث انقسمت نخبه دون أن تنقسم عامته، فلا يزال في مصر كثيرون ممن يرون أن
السلام مع إسرائيل أكسب إسرائيل بعض المزايا، وأن توجس إسرائيل سببه الطبيعة
العدوانية لها وليس بسبب سلامها مع مصر.
النظرة الاستراتيجية التاريخية للدور المصري في المنطقة سوف تحكم على هذا التقارب وآثاره حكما سلبياً للغاية، وأن هذا التقارب الذي صار وثيقاً هو أكبر جائزة حصل عليها المشروع الصهيوني في محطاته الأساسية
ومن الواضح أن النظرة
الاستراتيجية التاريخية للدور المصري في المنطقة سوف تحكم على هذا التقارب وآثاره
حكما سلبياً للغاية، وأن هذا التقارب الذي صار وثيقاً هو أكبر جائزة حصل عليها
المشروع الصهيوني في محطاته الأساسية. ولعل سعي واشنطن إلى هذا التقارب قد سهل
تحقيقه مكونات الفكر السياسي للسادات وانعطافه الشديد نحو الوطنية المصرية، مما
شجع الاتجاه إلى تكريس فرعونية مصر ضد تاريخها العربي الإسلامي، وفصل مصر تماماً
عن بيئتها، وإن استمر الفارق الهائل بينها وبين محيطها حضاريا وثقافيا، وهذا يقتضي أن تكون لها حساباتها خارج المنطقة مع واشنطن وفي داخلها مع إسرائيل.
وهكذا استبدلت مصر
تماما تقريبا في المراحل الأولى من تاريخ المعاهدة إسرائيل وواشنطن بالعرب، وتقررت
المعونة لمصر للاستغناء عن العرب ماليا وسياسيا، وكان حساب واشنطن أن انتزاع مصر
سوف ينهي الصراع لصالح إسرائيل ولن تبقى سوى جيوب الممانعة البسيطة المعتمدة على
الخارج، وهو أمر يسير يمكن إنهاؤه في إطار علاقات واشنطن مع هذا الخارج، وهو ما
تقوم به واشنطن الآن مع سوريا وحزب الله وإيران، بينما تركت إسرائيل تجهد حماس
وتقضي على المقاومة الفلسطينية بلا ثمن، بعد أن أبدت المقاومة استعدادها للهدنة
الطويلة، وهو تعبير عن أزمة المقاومة التاريخية التي خلقتها واشنطن وإسرائيل.
أما المعضلة الأساسية
للمشروع الصهيوني فهي مصر، ولذلك تحرص واشنطن بشكل مستميت وبأي ثمن على ربط مصر
بإسرائيل، وتكبيل مصر بكل القيود والدواعي حتى لا تفلت من هذا القيد الحديدي،
فكانت النتيجة أن أضعفت مصر وقضت على دورها الإقليمي بل قضت على الإقليم العربي،
بعد أن أحكمت العلاقات الثنائية بين واشنطن وكل دولة عربية فجفت منابع العمل
العربي المشترك. وحتى إذا استفاقت مصر فلن تجد العالم العربي الذي فارقته منذ
ثلاثين عاما، فضلاً عن إحاطة مصر بكل دواعي الخطر، ليس فقط على دورها وروابطها
القديمة، وإنما الخطر الآن في السودان والصومال يحيق ببقائها ذاته.
المعضلة الأساسية للمشروع الصهيوني فهي مصر، ولذلك تحرص واشنطن بشكل مستميت وبأي ثمن على ربط مصر بإسرائيل، وتكبيل مصر بكل القيود والدواعي حتى لا تفلت من هذا القيد الحديدي، فكانت النتيجة أن أضعفت مصر وقضت على دورها الإقليمي
أثر
المعاهدة على الداخل المصري:
أما أثر المعاهدة على
الداخل المصري، فقد صور الرئيس السادات المعاهدة بأنها جائزته للشعب المصري التي
اقتنصها من فم الأسد وأنها مكافأة النصر في أكتوبر، وأن المعاهدة سوف تظل المنطقة
كلها بالسلام الشامل وينعم الجميع بالأمن والاستقرار. وصور السادات للشعب أن
المعاهدة سوف تجلب له الزبد والعسل والأمان، وتصد مخاطر الحرب التي عانى الشعب المصري
وحده من تبعاتها، بينما أثرى الآخرون وتهامزوا عليه كلما مر بهم طالباً العون،
فصارت المعاهدة عنده هي علاج الكرامة والمدخل إلى عالم جديد، بل حظر السادات على
الشعب أن يراجع هذه الأفكار أو يشكك في القدرات الخارقة لهذه المعاهدة.
ولكن الجديد الذي لم
يتوقعه السادات هو أن واشنطن استخدمت طموح صدام حسين للحلول محل مصر، فحشد العالم
العربي وراءه بدعم أمريكي لشق الصف العربي، واتخذ في بغداد قرارات نقل مقر الجامعة
إلى تونس، وقطع العلاقات مع مصر ووقف عضويتها في الجامعة، فأحدث ذلك جرحا عميقا
عند المصريين الذين كانوا يصدقون السادات لكنهم لم يستعدوا نفسيا لهذه الكراهية
والرفض لهم في بيئتهم العربية، في الوقت الذي لم تضيع إسرائيل فيه وقتاً في المضي
في طموحاتها فأقدمت على ضرب المفاعل النووي العراقي في حزيران/ يونيو 1981 عندما
كان العراق مشغولا بحربه الأمريكية ضد إيران. وبنت إسرائيل حساباتها على أن مصر التي
تنقم على العراق لقيادته جبهة الرفض لها سوف يسعدها إضعاف العراق وقتل طموحاته
السياسية والنووية على حسابها، ولم يشفع لصدام عام 1981 أنه كان منهمكا في محاربة
إيران نيابة عن واشنطن وإسرائيل حتى دون أن يدري.
من ناحية أخرى،
اختبرت إسرائيل هذه المعاهدة بقانون ضم القدس 1980، ولكن ذلك أغضب السادات وتمكن
من استصدار القرار 478 من مجلس الأمن بدعم مطلق من كارتر حينذاك، فأعلنت إسرائيل
1981 ضم الجولان ثم احتلال بيروت بعد وفاة السادات بشهور عام 1982، ولم يتوقف
برنامجها الذي تمارسه الآن بكل حرية حتى ضد مصر نفسها التي أمعنت في إيذائها
وإهانتها والاستخفاف بها.
وكانت أحداث غزة بين
27 كانون الأول/ ديسمبر 2008 حتى 19 كانون الثاني/ يناير 2009 أكبر اختبار جدي
لمصر ومعاهدتها مع إسرائيل، وكانت المحصلة بالغة القسوة وأظهرت عجز مصر الكامل عن
الحركة إزاء إسرائيل، وبدت في موقف العاجز الذي أفشلت إسرائيل جميع تحركاته وأراقت
ماء وجهه بقسوة لا يحسد عليها. وتركت هذه الأحداث علامات استفهام كبيرة حول طبيعة
علاقات مصر بإسرائيل، بل وكشفت عن الحال الذي آلت إليه مصر بعد ثلاثين عاما.
لقد حلمت إسرائيل
بتكبيل يد مصر في المنطقة إزاء مشروعها، وقد نجحت في ذلك نجاحاً هائلاً، كما حلمت
بأن تكون مصر مدخلاً لاجتياح المنطقة وقد حققت ذلك، وربما كان الرئيس السادات يحلم
بأن تكون مصر هي قاطرة السلام الحقيقي بين إسرائيل والعرب. الأخطر من ذلك أن
العداء لإسرائيل قد خف، وأن المنطقة استنامت إلى عملية سلام طويلة انخرط فيها
الفلسطينيون وصار السباق إلى اللحاق بها من مظاهر المهارة السياسية، ولكن حربي
لبنان 2006 وغزة 2009 أزالتا الكابوس عن شعوب المنطقة وحكوماتها، وأيقظتهم جميعاً
على حقيقة المشروع الصهيوني الدموي الإحلالي العدواني.
والحق أن الرئيس
السادات حاول أن يبدأ عملية التخدير للمصريين بمزايا المعاهدة، بل حاول النظام أن
يصور اغتيال السادات على أنه استمرار لشهداء المعارك من أجل السلام، ولكن اغتياله
أحدث اضطرابا لدى إسرائيل وقلقاً على مصر المعاهدة.
وقد واجه الرئيس
مبارك ثلاثة من التحديات الكبرى فور توليه السلطة. كان التحدي الأول مواجهة
الإرهاب الذي صعد حملته باغتيال الرئيس، ليس في ذكرى المعاهدة ولكن في ذكرى النصر، والتحدي الثاني هو طمأنة إسرائيل حتى تستمر في الانسحاب، والثالث هو
إصلاح العلاقات المصرية العربية.
ولكل من هذه الملفات
يجب أن تفرد دراسات، لكن تكفي الإشارة إلى أن مبارك حاول أن يقلل قدر المستطاع من
آثار المعاهدة على العلاقات العربية، ولكن هذا الجهد تصادف معه تطوران جذريان: التطور
الأول هو انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان يدعم المعارضة العربية لمصر بسبب
المعاهدة، والتطور الثاني هو سعي واشنطن الحثيث إلى إعادة العرب إلى مصر بعد أن
تسببت المعاهدة في هجرهم لها، ولكن العرب عادوا إلى مصر بعد أن فشلت في شروط عودة
مصر للعرب بعد زوال أسباب القطيعة، لأنه إذا كانت مصر قد فسقت فقد لحقها الآخرون
في الفسوق، حيث لحقها عرفات في أوسلو 1993 ثم الأردن 1994، ثم تبعته رمال سياسية
متحركة تسللت إسرائيل من خلالها إلى عمق العالم العربي ما دامت قد سيطرت على
القلب.
لقد قبل الشعب المصري
المعاهدة في استفتاء صوري، لكنه رفض التطبيع، وكلما مرت السنون تكشفت سوءات إسرائيل
وازداد المجتمع تمسكاً برفض التطبيع، ولكن الحكومة قبلت بشريحة من التطبيع بقدر
ضغوط واشنطن وحسابات السلطة، فاصطدمت مع المجتمع في معركة مروعة بمناسبة تصدير
الغاز سراً إلى إسرائيل، ثم بسبب موقف مصر الشهير من إحراق غزة.
لقد قبل الشعب المصري المعاهدة في استفتاء صوري، لكنه رفض التطبيع، وكلما مرت السنون تكشفت سوءات إسرائيل وازداد المجتمع تمسكاً برفض التطبيع، ولكن الحكومة قبلت بشريحة من التطبيع بقدر ضغوط واشنطن وحسابات السلطة، فاصطدمت مع المجتمع
والحق أن اضطهاد
الحكومة لمعارضي التطبيع قد خف بعد السادات، ولكن تجنيد الإعلام الرسمي وسياسة
الحصار والتضييق لا تزال أقوى أسلحة مواجهة النقاد لسياسة التقارب غير المعقولة
بين مصر وإسرائيل، رغم كل مؤامرات إسرائيل ضد مصر، حتى ظن الناس أن مصر قد حصلت
على حقنة مخدرة منذ 1979؛ أفقدتها القدرة على إدراك الفارق بين العدو والصديق، وأصابت
مواقفها جميعاً بعدم الاتزان.
ونستطيع أن نخلص بعد
ثلاثين عاماً من معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل؛ بالملاحظات الثلاث الآتية في صدد
أثر المعاهدة على الداخل المصري:
الملاحظة الأولى،
هي تدهور أحوال مصر في جميع المجالات، أساسا بسبب الفساد وعجز الحكومات المتعاقبة
عن الإدارة، ولكن تجب دراسة نصيب العلاقات مع إسرائيل في هذا التدهور، خاصة وأن
السادات قد أقنع الشعب بأن ما ينفق على الصراع سوف يثمر في خطط التنمية، فأصيب
الشعب بالقهر بسبب هذه العلاقة، كما خسرت مصر اقتصاديا الكثير وأبسطها صفقة الغاز،
والشكوك المتزايدة حول المعونة الأمريكية وجدواها الحقيقية لمصر.
الملاحظة الثانية،
أن الحكومة استندت في جميع تجاوزاتها وبررت كل مواقفها تجاه إسرائيل بالمعاهدة،
وتعاملت معها كأنها قدر مقدور فاندفع الناس يطالبون بكسر هذا القيد، ولكن الراجح
أن الشعب والحكومة لم يقرآ المعاهدة.
الملاحظة الثالثة،
هي أن الحكومة المصرية تفسر المعاهدة مع إسرائيل تفسيراً واسعاً للغاية لصالح إسرائيل،
وهذا أمر بالغ الغرابة، وتحذر من أن أي خطوة بسيطة تجاه إسرائيل تعني الحرب ضد مصر،
ومصر ليست مستعدة، فتثير الجزع في قلوب الناس وتبتز مخاوفهم من مخاطر الحروب، وفي
نفس الوقت لا تواجه حكومة إسرائيل بأي موقف واضح وجاد يظهر فهم الحكومة لمصالح
مصرية واضحة.
وتقديري أنه بعد 42
عاما حقق المشروع الصهيوني الكثير وأهمه حصار مصر ومحاولة خنقها في كل اتجاه، ولكن
هل خلاص مصر من ذلك كله مطلوب حكومياً وشعبياً؟ هذا هو السؤال الكبير.