الديمقراطية التي مكنت
التونسيين بعد 2011 من خوض أربع انتخابات رئاسية وثلاث انتخابات برلمانية وانتخابات واحدة بلدية، ووفرت مجالات للاختيار والنقد
والاحتجاج، هي ذاتها - وبسبب ضعف الوعي الديمقراطي - قد أنتجت ظواهر اجتماعية وسياسية فيها الكثير مما يعارض جوهر الديمقراطية وأهدافها، ضعف الوعي الديمقراطي أنتج الكثير من الشعبوية والكثير من الصخب والمعارك العبثية، وصلت حتى الرئاسات الثلاث وتوزع التونسيون بين أنصار عمرو وأنصار زيد.
الديمقراطية تسَع كل الخلافات والتعدد والتنوع حين نُحسن إدارة تلك الخلافات، وحين لا تتحول الساحة السياسية إلى ساحة عراك يصطف فيها الناس شِيَعاً خلف عناوين متصارعة؛ يريد كل منهم "الحسم" ولا يسعون لمنطقة تسوية أو "توافق" من أجل مصالح الناس المشتركة والمتعلقة بمعاشهم وأمنهم.
سخونة الأجواء السياسية غاب فيها كثير من العقل وحضر فيها كثير من الوهم، ولم يعد مغريا الحديث في السياسة لأنها لم تعد - في الغالب - سياسة وبلغت دركا سحيقا من السوء والرداءة والشعبوية والتكلف والانتحال والجشع، فجل الساسة أصابعهم في الصحون وأعينهم على القدور، يتوهمون مراكمة رصيد شعبي لانتخابات 2024.
سخونة الأجواء السياسية غاب فيها كثير من العقل وحضر فيها كثير من الوهم، ولم يعد مغريا الحديث في السياسة لأنها لم تعد - في الغالب - سياسة وبلغت دركا سحيقا من السوء والرداءة والشعبوية والتكلف والانتحال والجشع
غير أن الكثيرين ممن يجدون أنفسهم معنيين بالشأن الوطني، وبإبداء الرأي في ما يحدث خاصة في المحطات الكبرى، لا يمكن أن يكونوا لا مُبالين خاصة قبالة
الجدل الدائر بالنسبة للحكومة وأداء القسم، وهو مجال الخبراء في
القانون الدستوري فهم أهله يتفقون ويختلفون. ولعل المدخل التحليلي إلى هذه الأزمة هو يمكن أسلوب تعبير الرئيس عن مواقفه المتعلقة بالشأن العام وبالحوادث اليومية، سواء في علاقة بالحكم أو في علاقة بالأحزاب ومجلس النواب.
رئيسنا الذي انتخبه كثيرون منعا لوصول نبيل القروي للرئاسة، وهو المتعلقة به شبهات فساد وعلاقات خارجية غير واضحة (ولم يبت فيها القضاء بعد)، لم يغادر ملمحه "القاتم" و"الصارم" من أجل أن يكون أوضح وأبلغ وأهدأ وأقرب لعموم التونسيين؛ مجمعا ومطمئنا ومعالجا للقضايا في فضاءاتها المناسبة لها.
الرئيس قيس سعيد، وهو رئيس منتخب، جعل كل وقته لتأكيد أنه رئيس جمهورية وأنه
الممثل الوحيد للدولة في الداخل وفي الخارج، كما ظل يوجه خطابه لجهة غير معلومة يكيل لها التهم ويصمها بالنفاق والغدر والجائحة ومرض القلب والتآمر والغرف المظلمة، وهو كلما خطب بدا كما لو أنه منذر جيش يستعد لرد عدوان أو فتح حصون خاصة حين كان - أقول جيدا كان - يخطب في ثكنات جيشنا الوطني النظيف ذي العقيدة الوطنية.. رئيسنا بحماسته تلك يُشعر متابعيه بكوننا مقبلين على فتنة كبرى، وهو يؤكد مرارا استعداده لـ"الشهادة" ويشعرنا بكوننا نقيم في دائرة ضباب ليس فيها إلا الغموض وعواء الذئاب وخناجر الغدر.
رئيسنا بحماسته تلك يُشعر متابعيه بكوننا مقبلين على فتنة كبرى، وهو يؤكد مرارا استعداده لـ"الشهادة" ويشعرنا بكوننا نقيم في دائرة ضباب ليس فيها إلا الغموض وعواء الذئاب وخناجر الغدر
السيد الرئيس لا أحد ينازعه الرئاسة (شرعية ومشروعية)، ولا أحد بإمكانه منعه من ممارسة صلاحياته، بل البلاد تنتظر منه أن يصلح فيها الكثير، ولا أحد أيضا يحجب مكانته أو يسد مكانه، ولكن ما زال يدور كما الجمل - صبرا وصمتا - حول بئر معطلة وقصر مشيد.
بعد هروب ابن علي وانفجار خزانات الحرية، لم يعد من البطولة في شيء النيل من أي مسؤول في الدولة التونسية من البوليس إلى الرئيس، ولكن المسؤولية أمام الله وأمام الشعب والتاريخ تقتضي أن ينصح المثقفون وأصحاب الفكر، ولا يكابر أمام النقد والنصح إلا دعي.
لا يخفي كثيرون تعجبهم من غموض سيادة الرئيس وهو يهاجم باستمرار أعمدة من دخان لا يسميها، ولا يخفون دهشتهم وهم يتابعون تناوله شؤون أمن البلاد على الملأ المحلي والدولي ويتكلم عن "اختراق" لمؤسسات سيادية مثل وزارة الداخلية، وهو يخطب من داخلها، ولا يسترون خجلهم وهم يسمعون رئيس دولتهم يستجمع مفردات الحرب، وهو يخاطب شعبه حتى في مناسبات دينية، حتى بلغ الأمر استحضار منصات الصواريخ، ولا يستطيعون التستر على فضيحة الجواب المسموم، ولا يخفون امتعاضهم من طحن اللغة طحنا وعيدا وتقريعا بغير أسباب معلومة ولا جهات معيّنة.
لا يخفي الكثيرون هؤلاء قلقهم من كون الرئيس يبدو كما لو أنه يمارس التمييز بين التونسيين في كثير من ممارساته، حتى وإن كانت نواياه غير تمييزية. كثير من التونسيين يقارنون بين قيس سعيد والباجي قائد السبسي رحمه الله؛ الذي يعتبرونه رجل دولة نجح في ضمان الوحدة الوطنية ومنع الكثير من الفتن التي كادت أن تندلع.
الرئيس يبدو كما لو أنه يمارس التمييز بين التونسيين في كثير من ممارساته، حتى وإن كانت نواياه غير تمييزية. كثير من التونسيين يقارنون بين قيس سعيد والباجي قائد السبسي
الرئيس يبدو لكثير من المتابعين كونه يبحث عن تأكيد امتداد شعبي - بعد أن شهد له الصندوق - وذلك من خلال التقاط صور لحضوره الجسدي بشارع أو سوق أو مخبزة، أو وهو يحمل كرتونة أو يغيث صاحب بيضة (حادثة القيروان).
سيادة الرئيس المداوم على حضور صلاة الجمعة، تكلم بعد صلاة الجمعة الأخيرة في مسجد أحد بحي المنيهلة حيث مسكنه العائلي، وتوعد كعادته الفاسدين، وحين طلب منه مواطن تحديد هوية هؤلاء الفاسدين لمعرفتهم بدل الاستمرار في خطاب الغموض والتعميم، أجابه الرئيس بكونه سيواجه الفاسدين والمنافقين.
كان يمكن ألا يثير سيادة الرئيس مثل تلك القضايا في المسجد بعد صلاة الجمعة، وكان ممكنا أيضا ألا يقاطعه ذاك المواطن احتراما لمكانة الرئيس الاعتبارية وترفعا عن إثارة الفوضى في بيوت الله، غير أن الذي حصل أن المسألة تحولت إلى قضية رأي عام، خاصة وقد تكلم المواطن بسوء بحق الرئيس ثم تدخل الأمن الرئاسي بعنف حين قال الرئيس "جيبوه" (أي خذوه)، وهي مفردة تحولت إلى مجال تندّر على صفحات الفيسبوك.
السيد قيس سعيد رئيس الجمهورية التونسية أكد مرارا كونه يتأسى بسيرة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وهو بالتأكيد يعلم ما ورد في الأثر من كون عمر ابن الخطاب قد صعد مرة المنبر وذكر الله تعالى وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اسمعوا وأطيعوا، فقاطعه أحد المصلين صارخا: لا سمع اليوم ولا طاعة حتى تعطينا من بيت مال المسلمين، إنه ليس من كدك ولا من كد أمك.
توقف عمر عن الكلام ونزل من على المنبر والناس ينتظرون ما قد تكون ردة فعله، أعاد عمر الوضوء ثم صعد المنبر ثانية وخطب في الناس.
بعد الصلاة سأله بعض المصلين عن سبب قطع الخطبة وإعادة الوضوء فأجابهم: لقد غضبت، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الغضب من الشيطان، والشيطان من نار وإنما تطفئ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضّأ".
سيادة الرئيس: إن إطالة عضعضة "الفريسة" المشتهاة/ المتخيلة يجيفها، فكن واضحا ومقداما وامض في ما أنت مضمره، "فإما حياة تسر الصديق.. وإما ممات يغيض العدى" كما تقول. ودع البلاد تحسم أمرها دفعة واحدة، ومهما تكن الكلفة لن تكون بحجم ما ندفعه من كلفة التماسك المجتمعي والسمعة الوطنية والإنهاك السياسي المتبادل بين الأحزاب ومؤسسات الدولة.
twitter.com/bahriarfaoui1