هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بين الناس من يكفي أن تلتقيه
مرة حتى تشعرك الألفة التي تشد أحدكما إلى الآخر بانكما "صديقا عمر" وان
كلا منكما يشعر بالآخر ويفهمه.. ولقد التقيت الكاتب والأديب والمناضل مريد
البرغوثي في مرات عدة، أولها في القاهرة وكانت المضيفة الأديبة خلقا وكتابة رضوى
عاشور، والتي غادرت منذ زمن الأسرة التي صنعتها المصاهرة الفلسطينية – المصرية
تقدم نموذجا بسيطا وفذا لأمة العرب، كما نرتجيها جميعا.
كان عقد الزواج بين هذا اللاجئ الفلسطيني الذي
يتخذ من قلمه جواز سفر بسيطا ويتكون من كلمتين: زوجتك نفسي.. فاذا ما جاء الجواب
هتف الحبيبان: لتكن لنا الدنيا.
كان العاشقان اللذان سيغدوان بعد ذلك زوجين
تحتضنهما القاهرة يحلمان باستكمال العرس في فلسطين..
وهكذا انصرف الكاتبان إلى تطريز قصة حبهما،
بهدوء وعلى مهل لأن "التحرير" آت من البعيد البعيد، من خلف الذاكرة
والذراع والقلم، لذا كانت له محطات مبشرة بالفتح كما كانت له انتكاسات تعيد صياغة
موضوع التحرير بحروف من جمر لا يمسها إلا المؤمنون الصابرون والذين يعرفون أن
قضيتهم أكثر تعقيدا من مقاومة المحتل، ومن الاندفاع إلى القتال العشوائي واستهلاك
الطاقة في مواجهات هائلة الدوي لكنها قليلة المردود.
كان المدخل الشرعي للنصر تفكيك المشروع
الصهيوني باستذكار بداياته سواء تلك المتصلة بالتحولات التاريخية والمحطات الفاصلة
للحركة الصهيونية ولتفكك أو استنزاف الرابط بين عرب الصحراء وعرب البحر، بين عرب
السيف وحرب المدفع، بين العرب الأسرى والمرتهنين لإرادة الغير، والعرب الأحرار
الذين لا يملكون غير ذاكرتهم حافظة التاريخ وغير زنودهم التي تتشوق إلى السيوف،
وبين أمانيهم التي تتطلع إلى القيادة المؤهلة.
ولسوف يمضي وقت طويل قبل أن ينتبه العرب،
ومعهم السلطان العثماني إلى أن الحركة الصهيونية قد سبقتهم بالفكر ثم بالتنظيم ثم
بنسج التحالفات من اجل حرب ستمر بتحولات كثيرة، وبعواصم عديدة قبل المباشرة في "خوض
معركة تحرير الأرض لبناء الدولة الصهيونية في فلسطين، وعلى الأرض المقدسة، بقوة
التحالفات الدولية، سياسيا، والتحضير العملاني على ارض فلسطين، ثم في عواصم
التواجد اليهودي وعبر خطاب الحركة – الصهيونية الذي غادر التمني ولغة الأحلام
واندفعت قيادته إلى نسج التحالفات وكسب المناصرين والمؤيدين، ومن ثم استقطاب "المضطهدين"
وضحايا العداء ذي التاريخ الملتبس وان هو جمع بين الدين والسياسة، وبين إعادة رسم
الجغرافيا على هدى التخيل الذي لا بد أن يصير السلاح حقيقة فوق ارض فلسطين.
***
بالمقابل كانت القيادات العربية، التي اصطنع الأجنبي
غالبيتها تعيش أحلام اليقظة المستمدة من تاريخ الفتوحات ونشر الدين الحنيف وإنما
هذه المرة بملك وأمراء وشيوخ قبائل، وبجهل وأمية وغربة عن العصر والقوى التي تتقدم
لتهيمن على العالم القديم.
***
في هذه الأثناء كان البريطانيون ينالون فلسطين
الجائزة لانتصارهم في الحرب العالمية الأولى (بالشراكة مع فرنسا).. ومع فلسطين
شرقي الاردن الذي اقتطع من بلاد الشام. ثم يسحب الامير فيصل من دمشق، بعدما احتلت
فرنسا سوريا، لينصب ملكا على العراق الذي سيوضع تحت الوصاية البريطانية.
***
صار عرب المشرق خاضعين لاستعمارين اثنين:
فرنسا في لبنان وسوريا، وبريطانيا في الاردن والعراق (فضلا عن مصر.. وعن شبه
الجزير والخليج العربي).
وفي حين كان الامراء والشيوخ ينالون الجوائز
البريطانية والفرنسية على شكل "دول" يحكمها المندوب السامي (البريطاني أو
الفرنسي) كانت الحركة الصهيونية تبذل جهودا يومية وتنسج علاقات وتحالفات دولية
لاستخلاص كيانها في فلسطين، ليكون دولتها: اسرائيل.
***
ولقد يمم مريد البرغوثي وجهه نحو القاهرة،
وفيها عاش سنين طويلة، خصوصا وانه قد تزوج فيها الروائية رضوى عاشور.
المسافة من القاهرة إلى رام الله قصيرة، أو أنها
كانت، ومن رام الله إلى بيروت اقصر.
لكن الاحتلال الإسرائيلي يمكنه أن يوسع
المسافة بين المسجد الأقصى وكنيسة القيامة في قلب القدس حتى يتعذر قياسها بأسماء الأماكن
ويصبح فرضا العودة إلى التاريخ والى أسباب القوة لا الجغرافيا.
وهكذا كان لا بد من أن يغادر مريد البرغوثي
القاهرة إلى بيروت، ومن بيروت إلى عمان، ومن عمان إلى القدس حتى يصل إلى رام الله.
كانت زوجته رضوى عاشور التي صارت وطنه وصار
بيتهما في القاهرة، وجهة الكتاب والأدباء والفنانين العرب.. وصار لهما في بيروت "فرع"
متمثلا في ابنهما تميم الذي أراد الاستقلال مبكرا فجاء إلى بيروت حيث درس وعمل بجد
في مؤسسة دولية لها اهتمامه الخاص بفلسطين.
لكن المآسي لا تجيء فرادى.. وهكذا مرضت رضوى
عاشور، وأحاطها الأدباء والكتاب في القاهرة، مصريين ومن سائر الأقطار العربية، حيث
تحول البيت إلى عاصمة للحزن العربي: فقد رحلت رضوى عاشور.
صار الزوج مريد البرغوثي الفلسطيني المفرد في
القاهرة.
وصار الابن تميم البرغوثي موظفا أمميا مركزه
بيروت التي درس فيها.
وحين صار الأب وحيدا جاء إلى بيروت ليسكن
قريبا من تميم!
… وحين قرر العودة أخيرا، لم يجد رام الله!
(عن صحيفة القدس الفلسطينية)