سيمضي زمن طويل حتى يأتي من هو مثله.. كان تلك الجملة من طبيب العناية الفائقة حيث يرقد "الأستاذ طارق" كما يناديه أحد أوفى وأكبر أصدقائه، المفكر الكبير الأستاذ فهمي هويدي.. الطبيب الثلاثيني يعرف قدر وقيمة "المستشار
طارق البشري"؟ أمر يبعث على السرور والاطمئنان، خاصة في الأجيال الشابة التي تتهيأ لحمل أمانات الوطن، ولكل قول في السماع مذاق كما يقولون، وغير ذلك فقد طمأنني على صحة الأستاذ طارق.
يقولون إن كتابات المرء هي خير دليل عليه، وكل ما كتبه الأستاذ طارق يدل عليه بألف شاهد وشاهد، سواء ما يتعلق بتاريخ الحركة
الوطنية أو ما يتعلق برجال الحركة الوطنية، أو ما يتعلق بوحدة الجماعة الوطنية، أو ما يتعلق بروح الجماعة الوطنية، لقد عرف الرجل الحقيقة الوطنية - إذا جاز الوصف - وعرف كل الدروب التي تقود إليها.
وهو ما يكون أكثر ما يكون وضوحا في هذا السفر العظيم الذي كتبه منذ أكثر من عقد من الزمن "نحو تيار أساسي للأمة". والرجل يقصد بالتيار الأساسي "الإطار الجامع" لقوى الجماعة الوطنية والحاضن لها، والذي يجمعها ويحافظ على تعددها وتنوعها في الوقت نفسه، وهو أيضاً ما يعبر عن وحدة هذه الجماعة، من حيث الخطوط العريضة للمكون الثقافي العام، ومن حيث إدراك المصالح العامة لهذه الجماعة، دون أن يخل ذلك بإمكانات التعدد والتنوع والخلاف داخل هذه الوحدة.
الرجل يقصد بالتيار الأساسي "الإطار الجامع" لقوى الجماعة الوطنية والحاضن لها، والذي يجمعها ويحافظ على تعددها وتنوعها في الوقت نفسه، وهو أيضاً ما يعبر عن وحدة هذه الجماعة، من حيث الخطوط العريضة للمكون الثقافي العام
فكرة التيار الأساسي تعد بوجه من الوجوه امتداداً لحركة "المشروع الوطني العام"، الذي تمت بلورته عن طريق "الاستخلاص" من الواقع الحي للحركة السياسية والثقافية القائمة في المجتمع.
وأحب أن أشير هنا إلى مقولة مهمة قالها الأستاذ طارق ذات مرة: إن المعارك
الفكرية مثلها مثل المعارك الحربية، تستقطب فيها المواقف وتجنح إلى المفاصلة، وتغلق فيها الحدود وتوضع عليها الحراسة الشديدة!!.. وتستبعد منها مساعي التوفيق وإمكانات الاحتكام إلى مبدأ أو منهج تتراضى الأطراف على قبول نتائجه.. كما أن المعيار الذي يسود لا يتعلق بالخطأ والصواب؛ بقدر ما يتعلق بالنصر والهزيمة. ويحذر تحذير الصديق قائلا: ومن أهم مراحل هذه الحروب "مرحلة ضرب الجسور".. هكذا قال، وذلك لمنع أي شكل من أشكال التوافق والتراضي، ذاك التوافق الذي هو بالأساس قاطرة المشروع الوطني العام.
يرى البشري أن التيار الأساسي هو فكرة يستعصي تحقيقها من خلال المبادرات الفردية، لكونها تولد من رحم التفاعلات السياسية والفكرية، فلا بد من وجود "تعددية" تتحاور وتتجادل ثم تتوج جدلها بمطلب يكون هو التيار الأساسي. مثال على ذلك التيار الأساسي الذي ظهر بعد ثورة 1919م، والذي نتج عن التدافع والتلاقي بين
المصريين على اختلاف مشاربهم؛ ممن كانوا ينادون بالتحرر وأولئك المنادين بالإصلاح.
يرى البشري أن التيار الأساسي هو فكرة يستعصي تحقيقها من خلال المبادرات الفردية، لكونها تولد من رحم التفاعلات السياسية والفكرية، فلا بد من وجود "تعددية" تتحاور وتتجادل ثم تتوج جدلها بمطلب يكون هو التيار الأساسي
التيار الأساسي ينتج بالأساس عن الحوار الدائم، وليس مجرد عقد مؤتمرات أو ندوات في الصحافة والكتب، بل هو حوار يشمل جميع أشكال التلاقي بين مختلف الحركات السياسية ونشاطها السياسي.
يبحث التيار الأساسي عما يجمع، ويبتعد عن فكرة الطرح السلبي لأي فصيل في المجتمع.. ويجعلنا أمام مسئولية إما أن نكون "تقدميين" نتحرك نحو ما يجمعنا ويحقق لنا غاياتنا المشتركة، أو أن نستسلم للمنطق السلبي الذي يقودنا إلى الاستسلام لواقع التخلف والتجزئة والغيبوبة الحضارية.
يشير إلينا بأن "التناقض" بين حركة "الإصلاح الفكري" وبين حركة "الإصلاح المؤسسي" ليس بالأمر الجديد، إذ نجده واقعاً في مجتمعنا منذ أيام "محمد علي" الذي ركز على الإصلاح المؤسسي، ولم يحدث أن جمع بينهما أحد مما أسقطنا في أزمة تحتاج منا إلى تفكير طويل.
يشير أيضاً إلى "التناقض" داخل "الفكر الإسلامي" نفسه من جراء الغزو الثقافي الغربي، فاتجهت حركة الفكر الإسلامي أكثر نحو المحافظين والمقاومين، ومن ثم حدث صدام مع المجددين (التناقض) بين الحركة الوطنية العلمانية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى وبين الحركة الوطنية الإسلامية، حيث اجتمع الاثنان في البداية على استقلال الوطن، ثم حدثت بينهما هوّة.
يشير أيضاً إلى "التناقض" داخل "الفكر الإسلامي" نفسه من جراء الغزو الثقافي الغربي، فاتجهت حركة الفكر الإسلامي أكثر نحو المحافظين والمقاومين، ومن ثم حدث صدام مع المجددين (التناقض) بين الحركة الوطنية العلمانية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى وبين الحركة الوطنية الإسلامية
يحدثنا المستشار البشري عن الدور الخطير الذي قامت به الدولة المصرية على مدار سنوات طويلة من حكم مبارك في "التجريف السياسي" الذي تعانيه مصر اليوم، حيث عملت على إزهاق وحدات الانتماء الفرعية في مجتمعنا التي تقوم على أساس الإقليم أو النقابة أو الملة أو المذهب أو الحرفة، مثل النقابات المهنية ونقابات العمال والمحليات والحرف، وكل ما يتعلق بوحدة المذهب (الأوقاف والطرق الصوفية والمذاهب والمدارس الفقهية)، أو وحدة عقيدة (الملل والنحل والطوائف)، أو وحدة إقليم كالقرية أو المدينة أو الحي.
فكل ما سبق هي وحدات تمثل "جماعات ضغط" في المجتمع تسعى لتحقيق مصالح أفرادها والتأثير على القرار السياسي، ولكن الأمر في بلادنا أن الدولة تحاول إزهاق هذه الجماعات لتحل محلها وتزداد المركزية، فتكون النتيجة أن يزداد الناس سلبية وبعداً عن الدولة.
سيحدثنا أيضاً عن التوازن المطلوب لصوغ التيار الأساسي السائد، ويقصد بالتوازن السعي المستمر نحو ما تتراضى عليه الجماعة من أهداف.. وشبه هذا التوازن بالسابح في الماء الذي يتحرك دائما ليلائم أوضاع جسمه مع حركة الأمواج متغيرة القوى والاتجاهات، فلا يهدر طاقاته ويستثمرها في الوصول لهدفه.
سنرى أيضاً أن "التيار الأساسي" لا يكون وحده، بل تظهر حوله قوى أخرى جانبية قد تكون "أشد صفاء"، وأكثر حركية ونشاطاً بما يتعارض مع الإنجاز العام، ولكنه أمر طبيعي، كما أن هذه التيارات الجانبية مفيدة في أنها تغذي التيار السائد بما تكتشفه من أوضاع جديدة طارئة، وتضبط حركته حتى لا يركن إلى الجمود.
هذه التيارات الجانبية مفيدة في أنها تغذي التيار السائد بما تكتشفه من أوضاع جديدة طارئة، وتضبط حركته حتى لا يركن إلى الجمود
سيحدثنا عن دور المؤسسات، حيث إن أي "فكرة" لا بد لها من مؤسسات بها جماعة بشرية بينها شيء مشترك، فيستطيعون من خلال هذه المؤسسة تحقيق أهداف الجماعة وتفضيلها على أهداف الأفراد، ومن دون هذه المؤسسات تكون الفكرة يتيمة ومتناثرة الأشلاء.
سيكون الأفراد فيه (مثل أبطال الروائي الألماني الشهير فرانز كافكا) يبحثون عن أشياء لا يعرفونها.. ويسقطون ضحايا لشرور لا يعرفون طبيعتها..!! يعيشون في مجتمع متناثر لا تربط أجزاءه رابط.. الإنسان منفي فيه.. ودائماً يشعر بإحساس عميق بالاختناق.
ثم يحدثنا أخيراً عن ضرورة الوعي العميق بأهمية الأهداف الوطنية الكبرى للبلاد، وهي: الاستقلال عن أي تبعية للخارج والنهوض بالوطن.. وبالطبع ويؤكد على أهمية "المواطنة" في هذا السياق، ومن مثله يحدثنا عنها وهو صاحب التوصيف المحيط العميق "الجماعة الوطنية".
أتم الله شفاء الأستاذ طارق وبارك في عمره وعمله، فما زلنا نحتاج مصباحه الذي يسير به بيننا، دليلا أمينا وضوءاً منيراً.
twitter.com/helhamamy