لعل أحد أبرز معالم تيار أو جماعات أو نخب القومية واليسار العربي عموما، هو تبنيهم موقفا وخطابا مضادا للحالة الإسلامية العامة، أيا كان من يمثلها، وظهور حالة تناقض بين الشعارات المرفوعة، أو حتى الحجج والمبررات التي يجعلون منها تعليلا لمواقفهم المتناقضة، وبين المسالك والسُبل التي يمشون فيها في واقع حالهم.
هل عليّ أن أفصل بين اليسار وبين القوميين؟ لا، بالتأكيد، بل أضيف إليهم بلا تردد من يسمون أنفسهم بالتيار المدني الذين يرفعون شعارات ويجاهرون بفلسفات مأخوذة من اللليبرالية الغربية.. وعلى كل حال فإنه مهما كانت الفروق والخلافات وحتى الخصومات بين هؤلاء، فإن ما يجمعهم هو العداء أو الخصومة أو النفور من التيار أو التجمع أو المسار الإسلامي الغالب قديما وحديثا.
ولقد أظهرت ثورات الربيع العربي وما بعدها من ثورات مضادة طبيعة تقديم هذه التيارات أو الجماعات (قومية ويسارية ومدنية.. إلخ) عداوتها وغلّها وحقدها على
الإسلاميين وما يمثلون؛ على كل شيء آخر، بما في ذلك ما دأب منظروها على التظاهر بأنه شغلهم الشاغل، وهو مقدم على ما سواه؛ كالعداء للإمبريالية والرجعية بكافة تلاوينها.
فقبل الربيع العربي أو عقدين من الزمان، ظهرت بوادر تبشر بإيجاد أرضيات مشتركة يقف عليها هؤلاء مع الإسلاميين، نظرا لتزايد وتعاظم الأخطار التي تتهدد الأمة في جوهر وجودها وكينونتها، والتي تتطلب وحدة الحال لمواجهتها وصدّها. وقد تم تنظيم فعاليات وبناء أجسام ومؤسسات تجسّد حالة التعاون المشترك، خاصة رفض التصهين والتطبيع الذي أتى محمولا على أجنحة وهم "تحقيق السلام العادل والشامل" وبناء شرق أوسط جديد تكون فيه إسرائيل هي المهيمن، وقد كانت تلك الدعوات محمومة في عهد الرئيس الأمريكي "بيل كلينتون".
ولقد أبرم الإسلاميون والقوميون واليساريون آنذاك بروتوكولات تفاهم وصيغ توافقوا عليها، من منطلق رفض التصهين أولا، والرغبة في الخلاص من الاستبداد والفساد وتغوّل الدولة القُطرية العربية ثانيا، وقدموا تصوّرا عاما أو مفصّلا حول ما يجب أن يكون عليه حال البلاد والعباد؛ ولعل جهود د. حسن الترابي - رحمه الله - في هذا التعاون كانت ملحوظة.
وكي لا أكون مجحفا وتجنبا لأن أبخس الناس أشياءهم؛ فثمة من كان منتسبا وناشطا في تلك التيارات وحافظ على الصيغ التي جرى التوافق عليها مع الإسلاميين، ولم يتنكب ولم يقدّم الخلاف الأيديولوجي على المساعي لإيجاد آليات وبروتوكولات تفاهم وتعاون مشترك. وأكتفي هنا بذكر الرئيس التونسي السابق (أو الأول بعد الثورة على نظام الطاغية ابن علي) د. محمد المنصف المرزوقي، كحالة مميزة وبارزة في هذا السياق، لا سيما وأن الرجل قد تعرض - وما زال - لحملة مسعورة وهجمة لا أخلاقية من قبل من يفترض أنهم ينتسبون إلى العلمانية مثله، وقذفوه بكل ما في جعبتهم من تهم، مما كان دليلا على أن هؤلاء معيارهم ومقياسهم وميزانهم هو حجم العداوة والبغضاء للإسلاميين، بل حتى العداوة للإسلام ذاته، وليس ما يحمله المرء من أفكار ولو كانت هي جوهر شعاراتهم المزعومة.
أما عن التناقض الذي يميز هذه التيارات فستجد العجب العُجاب، ولكن سيزول العجب إذا أدركت حقيقة أن همّ القوم وشغلهم الشاغل هو محاربة ومناكفة ومعاداة الحالة الإسلامية العامة أو السائدة.
فمثلا هم أبدوا تأييدا ظهر في أدبياتهم لحركة أو دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، مع أن الدعوة والحركة وما نتج عنها لا تلتقي مع العلمانية؛ لا في المنشأ ولا في الفكر ولا المسار. والعلمانية هي الأيقونة المقدسة عند هذه التيارات، التي دوما يقولون بأنها قد شُوّهت من التيارات الإسلامية.. تجدهم يحتفون بالحركة أو الدعوة الوهابية فقط لأنها تصادمت مع السلطنة العثمانية، والسلطنة كانت تجسّد الحالة الإسلامية الغالبة والسائدة، حيث تجتمع الأمة حول رايتها بمختلف أقاليمها وأعراقها؛ فقد نظر القوم إلى تلك الدعوة على أنها عربية ضد "التسلط أو الاحتلال التركي"، كما دأبوا على تسمية العهد العثماني.
وإذا شئت ألق نظرة على كتاب "تاريخ العرب الحديث" لمؤلفه الأستاذ الجامعي "د. رأفت الشيخ"، والصادر عن "دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية- مصر"، وهو كتاب معتمد للتدريس في غير جامعة عربية، ويحتفي بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما نتج عنها احتفاء ظاهرا صريحا.
ولكن في المقابل فإنه ما من شتيمة مقذعة إلا وقذفوا بها الدولة السعودية ورموزها الدينية، بل لفترة طويلة كانت صفة "وهابي" أو "وهابية" تستخدم منهم لمهاجمة أي تيار إسلامي ولو كان على خلاف أو تناقض مع الوهابية، بل وصل الحال إلى مهاجمة أهالي السعودية عامة واستخدام كلمات وألفاظ غير لائقة بحقهم، مثل السخرية من كونهم "بدوا" أو رعاة غنم وإبل؛ وذلك في تنكر واضح لقوميتهم المزعومة، لأن الجزيرة العربية هي جذر العرب وموطنهم الأصلي، فهذه سخرية من أصل العرب، كما أن الأنبياء رعوا الغنم.
وقد ظهرت السخرية والازدراء من أهل السعودية في أعمال فنية ودرامية مصرية، ولا داعي للتذكير بأن هذه الدراما تخضع لإشراف وتوجيه الدولة المصرية؛ فمنذ زمن جمال عبد الناصر، وهو كما نعلم من الأيقونات المقدسة عند تلك التيارات، عرضت أعمال فنية تظهر الإنسان السعودي والخليجي عموما بأنه جاهل وغبي وشهواني، ووصل الحال إلى السخرية من لباسه الذي يحمل صفة "اللباس العربي".. كل هذا في الوقت الذي تحتفي به كتب ودراسات بالدولة السعودية والحركة الوهابية باعتبارها مظهرا متقدما للاستقلال والثورة على الحكم التركي.. وهذه الكتب تصدر من القاهرة أيضا!
ولكي نقرب صور تناقض القوميين واليساريين العرب؛ نتذكر هجومهم على السعودية دولة ومؤسسات دينية وشعبا بسبب موقف المملكة من النظام السوري، ولكن لما وقع الانقلاب العسكري في مصر أيد هؤلاء بكل قوة وشماتة حاقدة الانقلاب وصار السيسي أيقونتهم الجديدة إلى وقت قريب، ولكنهم تغاضوا عن علاقة السيسي بالسعودية، بل برروها بأن السيسي يحتاج مال السعودية من أجل استنساخ "ناصرية جديدة" لا مكان لها سوى في مخيالهم. ولكن لماذا بررتم حاجة السيسي إلى مال السعودية ولم تبرروا حاجة قطاعات من السوريين وغيرهم لها؟!
وعلى ذكر السيسي وانقلابه، فقد كان هذا أكثر ما فضح انتهازية هذه التيارات وزيف شعاراتها؛ فهم الذين لطالما قالوا بأن الإخوان لا يؤمنون بالديمقراطية وتداول السلطة والشراكة، ومجموعة من التهم والكلمات المعلبة الجاهزة (الظلامية، والطالبانية والداعشية) في وجه "التنوير" المزعوم الذي يمثلونه.
فكيف يلتقي التنوير مع تأييد ومجاراة انقلاب عسكري؟ وهل يؤمن العسكر بالشراكة وتداول السلطة؟ لقد أيد القوميون واليساريون و"التيار المدني" ومن كان على نهجهم وفكرهم الانقلابَ العسكري، بل مهدوا له وشجعوا عليه، وتشفوا بشهداء رابعة والنهضة وتبنوا رواية العسكر، على أمل أن يتبنى العسكر مقاربة في الحكم تجعلهم واجهة حكم مدنية أمام المجتمع الدولي؛ أي هم يرضون بلا تردد أن يكونوا طلاء أو واجهة لانقلاب عسكري فاشي، ولما خاب سعيهم، ظلوا على تأييد انقلاب العسكر لعلهم يتكرمون عليهم بشيء من فتات الحكم، ولما تبين أن العسكر لا يعيرونهم اهتماما، وأن دورهم انتهى، وبدأوا بمضايقتهم، لم يعلنوا الاعتذار والبراءة من موقفهم، بل كانوا وما زالوا يقولون بأن ما جرى سببه هو مرسي والإخوان.. فأي صفة تليق بهؤلاء؟!
ولا ينتهي الحديث عن تناقضاتهم وزيف شعاراتهم، مثل الموقف من إيران وتركيا وغيرها، ولكن هذا ما سيكون موضوع مقال قادم بمشيئة الله تعالى.